حكايات| جزر الرحمة.. هنا المخزون الاستراتيجي للحبوب بمصر القديمة

جزر الرحمة.. هنا المخزون الاستراتيجي للحبوب بمصر القديمة
جزر الرحمة.. هنا المخزون الاستراتيجي للحبوب بمصر القديمة

منذ زمن بعيد، فرضت واحات الوادي الجديد نفسها بشهرة واسعة كـ«جزر الرحمة» في قلب الصحراء، باعتبارها نقاط واستراحات في صحراء مصر الغربية الممتدة من واحة جغبوب في ليبيا غربا إلى أقصى الصحراء الشرقية المتاخمة لسلاسل جبال البحر الأحمر.

 

وهذه الواحات تضم 5 واحات رئيسية هي الخارجة العاصمة والداخلة والفرافرة وباريس وبلاط، تلك الواحات كان يسكنها ما لا يقل عن مليون فرد في عهد الدولة المصرية القديمة.

 

والآن بعد مرور أكثر من 4 آلاف عام, طبقا لما وجد من آثار منتشرة بتلك الواحات يعيش بواحات الوادي الجديد 250 ألف نسمة، ولعل معبد هيبس الذي تم إنشاؤه منذ أكثر من 2500 عام تقريبا يظل شاهدا على تاريخ الدولة المصرية القديمة. 

 

وتروي أطلال معبد «هيبس» في منطقة الصحراء الغربية لمصر، قصة مثيرة عن تاريخ الزراعة والنماء في مصر القديمة، وكيف كانت تلك الصحراء مترامية الأطراف واحدة من أكبر مخازن الغلال والحبوب في البلاد لقرون من الزمان، قبل أن يضربها القحط لتتحول إلى صحراء لا أنيس بها ولا عامر منها سوى واحات قليلة لا تزال تحتفظ بما تضمه من عيون للماء القديمة.

 

محمود عبد ربه الباحث في شؤون الواحات يروي أن معبد هيبس بمدينة الخارجة ترجع تسميته إلى المصطلح اليوناني للكلمة الهيروغليفية القديمة «هبت» التي تعني- حسبما يقول خبراء في اللغة الفرعونية - «المحراث».

 

ويؤكد أن هذا المعبد سمي بهذا الاسم نظراً لخصوبة الأرض في تلك الواحة التي كانت غنية ودورها الكبير في الزراعة المصرية، نظراً لتوافر المياه بها في العصور القديمة، وانتشار العديد من عيون الماء، التي تشير إلى ازدهار الزراعة بتلك المنطقة التي كانت تمثل واحدة من سلال الغلال ليس في مصر القديمة وحدها وإنما للإمبراطورية الرومانية.

 

اقرأ أيضًا| رمضان في «بلاد الذهب».. «الأبريه» للصائمين وﺨﻔﺾ ﺿﻐﻂ ﺍﻟﺪﻡ

 

يقع معبد هيبس على بعد نحو 3 كيلومترات شمال محافظة الوادي الجديد، وتحديداً على الجانب الغربي للطريق الصحراوي المؤدي إلى أسيوط، وكان قديماً يشغل مكاناً مرتفعاً عما يحيط به من أراضٍ حتى يتسنى للزائرين رؤيته وزيارته، كمكان مقدس ومركز للعبادة.

 

 

وقد شيد المعبد من الحجر الرملي، ويبدأ من الشرق بمرفأ كان مقاماً على حافة البحيرة المقدسة، التي كانت تتقدم المعبد، ثم البوابة الرومانية التي تحمل نقشا يونانيًا من عهد الإمبراطور «جلبا» ثم البوابة البطلمية تليها البوابة الفارسية للملك دارا الأول، التي تؤدي إلى طريق الكباش المؤدي إلى البوابة الكبرى ثم البوابة الرئيسية، فيما يقع في نهاية المعبد قدس الأقداس بنقوشه الفريدة من نوعها.

 

كانت المدينة القديمة «هبت» تمتد على مساحة واحد كم مربع، لم يتبق منها اليوم سوى بعض الآثار التي تدل عليها، وفي مقدمتها هذا المعبد العتيق، وبعض المقابر الصخرية المحفورة في الصخر شمال المعبد الذي ترجع أهميته إلى كونه المعبد الوحيد الباقي من العصر الصاوي الفارسي في التاريخ المصري، فضلاً عن كونه أكبر مباني الواحة الخارجة.

 

ويمزج المعبد في بنائه فنون العمارة في العصور المصرية القديمة، ابتداء من العصر الفرعوني وفترة العصر الفارسي والأسرة الصاوية ثم العصر البطلمي، انتهاء بالعصر الروماني على نحو ما تكشف عنه العديد من الإضافات التي ألحقت به، وقد كرس على مدار عقود لعبادة ثالوث طيبة المقدس (آمون وموت وخنسو) قبل أن يكرس لعبادة الثالوث العام أوزيريس وزوجته إيزيس وابنهم الصقر حورس.

 

 

بني هذا المعبد حسبما تقول العديد من الدراسات التاريخية في عهد الملك داريوس الأول في العام 510 قبل الميلاد، وقد بني على أطلال مبنى قديم يرجع إلى عصر الملك بسماتيك الأول، الذي أنشأ معبداً في هذه المنطقة، أكمل بناءه خلفه الملك أحمس الثاني، وزيّنه الملك الفارسي «دارا الأول» بالنقوش، إرضاء لكهنة آمون، حيث حكم مصر في فترة الاحتلال الفارسي.

 

وفطن لدور الكهنة، بعدما عرف بقصة الملك قمبيز الذي أراد احتلال مصر، وكيف ضلله كهنة معبد أمون فأرشدوه عند توجهه لواحة سيوة إلى طريق خطأ، فغرق هو وجيشه في بحر الرمال العظيم ولم يتمكن من غزو مصر.

 

يماثل معبد هيبس في تخطيطه – وفقا للأثري محمد حسن جابر مفتش آثار الخارجة في دراسة له - بقية المعابد المصرية في الدولة الحديثة، سواء من حيث البوابة وطريق الكباش إلى جانب الفناء المكشوف، وهو التخطيط الذي استمرت عليه المعابد المصرية التي نشأت في العصرين البطلمي والروماني، ويبدأ المعبد من الشرق بالمرسى.

 

وهذا المعبد عبارة عن مرفأ صغير، كان مخصّصاً لاستقبال المراكب التي تحمل البضائع للمعبد، إلى جانب القوارب المقدسة، وكان المرفأ يقع على حافة بحيرة قديمة، تسمى البحيرة المقدسة تجمعت مياهها في منطقة منخفضة بفعل الأمطار والمياه الجوفية.

 

 

ويفضي المرسى إلى عدة بوابات تبدأ بالبوابة الرومانية، التي تضم نصاً مكتوباً باللغة اليونانية القديمة، يرجع إلى عصر الإمبراطور الروماني جلبا، ويضم النص عدداً من التشريعات القانونية والاقتصادية والاجتماعية، وبعض القرارات التي كانت تستهدف إجراء إصلاحات إدارية، وكذلك قيمة الضرائب والرسوم التي كان يتم تحصيلها، وجميعها قرارات لم تكن تخص الواحة فقط، وإنما كانت بمثابة تشريع خاص بمصر عامة.

 

يضم معبد «هيبس» مجموعة فريدة من المناظر واللوحات المنقوشة، قلما تتكرر في المعابد المصرية الأخرى، من بينها مناظر للملك وهو يقدم القرابين والعطايا للآلهة والمعبودات، على رأسها ثالوث طيبة المقدس، وثالوث منف وثامون الأشمونين، بالإضافة إلى العديد من المعبودات المحلية والخارجية مثل المعبودة السورية عشتارت، التي عبدت في مصر في فترة من الفترات واتحدت مع المعبودات المصرية.