يوميات الأخبار

بين السياسة والصحافة.. شهادات حية

أسامة عجاج
أسامة عجاج

العلاقة بينهما كالسبابة والوسطى، قد يكون هذا هو التوصيف الأدق.

تتعدد وتتنوع الدراسات السياسية والإعلامية، التى تناولت العلاقة بينهما، وأكدت أنها تأخذ أشكالا وأبعادا مختلفة، فهناك من يميل إلى أن الإعلام هو من يؤثر فى السياسة، وأخرى تأخذ منحنى مختلفا، ولعل الأقرب إلى الصحة، فكرة التلازم بينهما، وصعوبة الفصل، أو اليقين فى تحديد التأثير المتبادل، ويعتبر أن الإعلام بصورة عامة، هو لسان حال السياسة، الناطق باسمها، وأداتها المؤثرة فى شرائح المجتمع، ولعل آخر ما قرأت فى هذا المجال كتاب "جدلية السياسة والإعلام بين الاعتمادية والتأثير" للديبلوماسى الأردنى علاء الزيود المستشار الإعلامى للسفارة فى القاهرة، والذى خلص إلى أن الإعلام بمختلف وسائله، خصوصًا فى العصر الحديث، الأداة الأكبر والأكثر فاعلية وتأثيرًا على توجهات الرأى العام، وتشكيل مواقفه تجاه مختلف القضايا، وهذا ما دفع الدول إلى التعامل مع الإعلام، ضمن منظومة الاتصال السياسى، باعتباره حلقة وصل مع الجمهور المستهدف، مما أفرز اتفاقا غير مكتوب، بين العاملين فى الحقلين، استنادًا على منطق المنفعة المتبادلة.

وقد عشت خلال مسيرتى الصحفية، تجارب عن كيفية توظيف الدول فى استخدام الإعلام، كوسيلة مهمة فى إرسال رسائل سياسية، لتحقيق أهداف بعينها، ومنها أن الانفتاح العربى على الإعلام المصرى، حيث اختارت تلك الوسيلة لاستعادة علاقاتها الديبلوماسية مع مصر، بعد قرار قمة العاصمة الأردنية عمان فى عام ١٩٨٧، بحق كل دولة فى إعادة علاقاتها وفقا لمصالحها ورؤيتها، فانهالت الدعوات على الصحافة المصرية، لزيارات إلى عواصم عربية، غابت عنها تماما بعد اتفاقية كامب ديفيد فى عام ١٩٧٩، صحيح أن العراق كان استثناء من تلك المقاطعة، حيث بدأت فى التردد على العاصمة بغداد فى رحلات صحفية منتظمة، منذ منتصف يوليو ١٩٨٢ نتيجة الحرب مع إيران، ولكن تلك الزيارات كانت جزءا من الدعم المصرى للعراق.

حوارات دمشقية

البداية كانت بـ "استثمار وجود وفد صحفى" كبير، لتغطية أعمال المؤتمر العام لاتحاد المحامين العرب، وبحكم كونى متخصصا فى الشئون العربية، طلبت حوارا صحفيا مع عبد الحليم خدام نائب الرئيس السورى حافظ الأسد، فجاءنى الرد سريعا، بأن نائب الرئيس يرحب، ولكنه يفضل أن يكون جماعيا، بمشاركة كل الصحفيين المشاركين فى المؤتمر، وكان من بينهم الأستاذ على حسن رئيس مجلس إدارة وكالة أنباء الشرق الأوسط حاليا، وهو من أميز المحررين القضائيين فى ذلك الوقت، وكان مسئولا عن تغطية نقابة المحامين المصرية واتحاد المحامين العرب، وكان يرأسهما فى ذلك الوقت المرحوم أحمد الخواجة، ويومها بفضل متابعة الأوضاع فى سوريا وفى المنطقة العربية، نجحت فى إدارة حوار مثمر مع عبد الحليم خدام، الذى استمر أكثر من ساعتين، جلها خصصها الرجل، للحديث عن رصد دمشق الإيجابى، لمواقف الرئيس الراحل محمد حسنى مبارك العربية، ورغبته فى استعادة دور مصر القيادى، وأيضا عن العلاقات المصرية والسورية تاريخيًا، وباعتبارهما أصحاب أول تجربة وحدة عربية، مع شراكة فى الحرب فى عام ١٩٦٧ وفى انتصار أكتوبر ١٩٧٣، وتحديدًا إشادة بقدرة الرئيس مبارك فى الإبقاء على العلاقات مع إسرائيل فى حدها الأدنى، دون أى تطوير للتطبيع على المستوى الرسمى، وتشجيع الرفض الشعبى على أى علاقة مع إسرائيل، ووصلت الرسالة إلى القاهرة فور انتهاء الاجتماع، بمضمون حديث خدام، وتكرر المشهد فى لقاء الوفد مع محمد سلمان وزير الإعلام السورى فى ذلك الوقت، والذى أشاد بإذاعة مسلسل رأفت الهجان، الذى أعاد إلى الأذهان طبيعة الصراع بين مصر وإسرائيل، وانتهزت فرصة اللقاء وطرحت تساؤلا على الوزير حول تقارير تحدثت عن صفقة سورية إيرانية، تسمح بالحصول على ملايين الدولارات، مقابل سماح سوريا، والتى كانت الرقم الأهم فى المعادلة اللبنانية، بتواجد عناصر من الحرس الثورى الإيرانى، فى مناطق جنوب لبنان، فابتسم الوزير وقال هل يمكن إخفاء وجود مئات أو آلاف الإيرانيين، دون أن يلحظ وجودهم أحد من السكان المحليين، فما رأيك فى ترتيب زيارة للوفد إلى المناطق التى تتحدث عنها التقارير، لتشاهدوا الحقيقة؟، فكان الترحيب سيد الموقف، وقد أضاف ذلك أهمية على تلك الزيارة الاستثنائية.

على الطائرة الرئاسية

نعود من جديد إلى زيارة الوفد، حيث التقى الأمين العام لاتحاد المحامين العرب مع الرئيس حافظ الأسد، فى نهاية المؤتمر حيث طلب منه تخفيف معاناة الوفد المصرى فى العودة، بعد صعوبة رحلة الوصول، والتى تمت بطائرة الشركة الوطنية إلى العاصمة الأردنية عمان، وبعدها استقل أتوبيسات إلى دمشق، نظرًا لانقطاع الرحلات الجوية بين مصر وسوريا، حيث طلب الخواجة توفير طائرة سورية إلى عمان، فكانت استجابة الرئيس حافظ الأسد فوق التوقع، حيث قال ستقل طائرة الرئاسة، الوفد المصرى إلى القاهرة مباشرة، وليس عمان، وكانت من بين الرسائل المتبادلة، فهى الأولى منذ سنوات قطع العلاقات، وقد استقبلت القاهرة كل رسائل دمشق قبولا حسنا، حيث تم الاحتفاء بشكل استثنائى فى مطار القاهرة بوصولها، ولم تمر سوى أسابيع حتى عادت العلاقات الديبلوماسية كاملة، بين البلدين فى نهاية ديسمبر من نفس العام.
هذه شهادتى على تلك الزيارة، التى نجحت السياسة السورية فى استثمار الإعلام بشكل صحيح، ساعد على فتح الطريق أمام عودة العلاقات،

نموذج مختلف

ومازلنا فى سوريا أيضا، ولكننا هذه المرة فى أغسطس ٢٠١٥، حيث تدخلت السياسة فى محاولة استخدام الصحافة فى اتجاه مختلف تماما، والقصة مثيرة، بدأت بجهد من الزميلة الصحفية السورية المقيمة فى القاهرة رولا الهباهبة، لترتيب زيارة وفد صحفى على مستوى عال إلى دمشق، وضمت عددا منهم من الصحفيين، ضم سليمان جودة والدكتور محمد أبو الحسن من الأهرام، والروائى أحمد فرغلى رضوان، وعمرو الكحكى مدير قناة النهار فى ذلك الوقت، وأنا، ويبدو أنه الأول على الأقل على هذا المستوى لدمشق منذ توتر العلاقات بين البلدين، بعد تجميد عضوية سوريا فى الجامعة، وموقف مصر فى زمن سنة حكم الإخوان من الحكومة هناك، الوفد وجد حفاوة بالغة واهتماما واسعا من كافة الجهات الشعبية والرسمية، وتم إعداد برنامج حافل، للقاءات مع كبار المسئولين، وزير الخارجية والإعلام والشئون الدينية وقيادات حزب البعث، واتخذت الأمور منحى آخر، عندما تم التسريب العمدى لخبر لصحيفة الأخبار اللبنانية القريبة من حزب الله، بان دمشق استقبلت أول وفد صحفى مصرى "رسمى" بإشراف وترتيب من وزارة الخارجية المصرية، مما أثار اهتمام جهات سفارات عربية عديدة فى القاهرة، وراحت تتساءل هل هناك تحول فى الموقف المصرى تجاه سوريا؟ وهل تشهد الفترة القادمة إعادة العلاقات الديبلوماسية بين البلدين؟ وأتذكر أن أحد السفراء العرب أبدى اندهاشه من وجودى ضمن الوفد لعلمه بموقفى الداعم للثورة السورية، رغم أن تغطيتى كانت نقدية للوضع فى سوريا، وأشهرها تقرير كان عنوان "زيارة لربع دولة"، وتعرض الوفد والزيارة إلى هجوم عنيف من المعارضة المصرية فى الخارج، وحقيقة الأمر أن الزيارة لم يكن لها أى صفة رسمية، بأى من الجهات المعنية فى مصر، الخارجية أو غيرها، وقد أزيد بأنها تفاجأت بها، وهى عمل صحفى بامتياز، باستثمار فرصة لزيارة سوريا، بكل ما يجرى فيها بعد أربع سنوات، من المواجهات بين الحكومة، وتنظيم داعش والفصائل المسلحة المعارضة للحكومة، كما أن الوفد كان من التخصص والقوة، أن أثار نقاطا مهمة فى لقاءاته، فى إطار حوار سعى فيه المسئولون إلى التأكيد على أن بلادهم تتعرض إلى إرهاب، تشارك فيه عشرات الدول من خلال جنسيات أعضاء التنظيم، أو الدول التى تدعم المعارضة السورية، ولعل هذا الموقف حال بين مخطط، كان جاهزًا من قبل الجهات السورية، للقاء الوفد مع الرئيس بشار الأسد، فى نهاية الزيارة، وهو ما صرحت به مستشارته الإعلامية لونا الشبل، للزميل عمرو الكحكى عندما زارها باعتبارهما زملاء سابقين فى قناة الجزيرة، وهكذا فشلت محاولة تسييس عمل صحفى، لتحقيق مكاسب ديبلوماسية، فالعلاقات مازالت حتى الآن مجمدة، وآخر تصريح من وزير الخارجية سامح شكرى، يتعلق بترحيبه بعودة سوريا، رابطا ذلك بتحقيق عملية سياسية، تقودها الحكومة السورية.

صباح النعناع

زاملته عن قرب أكثر من ١٥ عامًا، ولكننى تعرفت عليه دون أن أراه قبلها بسنوات، عندما كان هو "المنقذ" لنا فى سهرة تشطيب مجلة آخر ساعة، عندما كنا نقع فى أزمة، أو نكتشف أن خبرا من الرئاسة أو صورا للرئيس الأسبق الراحل محمد حسنى مبارك لم يصلنا، كان أستاذى وجدى قنديل رئيس تحرير المجلة فى ذلك الوقت يقول "اتصلوا فورا بعبد القادر" وثوانى تنتهى المشكلة، بعد أن يوفر لنا عبد القادر محمد على المطلوب، الرجل وهو أحد عظماء سكرتارية التحرير فى الأخبار، وكان من حظى، أنه أول من استقبلنى فى صالة تحرير الأخبار، لإعداد صفحات الطبعة العربية للأخبار، التى أشرف على تنفيذها ومعه الصديق حاتم محمود، عندما انتقلت إليها فى العام ٢٠٠٦، فاكتشفت بسهولة شديدة، أنك أمام نموذج فريد، فى الدأب الشديد فى العمل، وقدرة سريعة على الإنجاز، وبمهنية عالية، عبد فى محارب الأخبار، قضى فيها أكثر مما قضى فى منزله وبين أولاده، حريص على التواجد كل أيام الأسبوع، رغم أن مكانته تسمح له بالتواجد ثلاثة أيام فقط، كان "القاسم المشترك" لكل رؤساء تحرير الأخبار، منذ الراحل العظيم موسى صبرى وحتى الآن، أى طوال أكثر من خمسين عامًا، أطال الله فى عمره، ومتعه بالصحة والعافية، وهو كما هو، يحظى باحترام الجميع، وإحساسهم بالأمان فى ظل وجوده، حركة دائبة، ما بين صالتى التحرير والتنفيذ، للإشراف على إخراج الصفحات حتى وصولها إلى مرحلة الطبع،

عبد القادر محمد على واحد من أبرز الكتاب الساخرين، يعيد سيرة أحمد رجب وجلال عامر، يبدأ عمله اليومى بالانفصال عن الواقع، لكتابة زاويته اليومية "صباح النعناع"، لا تتناسب كلماتها مع الجدية الشديدة فى ملامحه، هى ليس مادة للتسلية، بل خلاصة عملية متابعة يومية للشأن المصرى، وجهد فكرى، حيث تجمع فى النهاية بين النقد البناء والسخرية، فى كلمات محدودة، لا تتجاوز أحيانا عدد أصابع اليدين، ولكنها تخرج كالسهم تصيب هدفها بدقة.
الأستاذ عبد القادر متعك الله بالصحة والعافية.

 

 
 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي