أبداعات عربية

يوم حار

للفنان: محمد المليحى
للفنان: محمد المليحى

عبد‭ ‬المجيد‭ ‬الهواس‭ ‬

في‭ ‬باحة‭ ‬البيت،‭ ‬استلقوا‭ ‬تحت‭ ‬مربع‭ ‬الشمس‭ ‬ساعة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يستيقظ‭ ‬الأب‭ ‬ويحملهم‭ ‬إلى‭ ‬الشاطئ‭. ‬انتظروا‭ ‬ساعة‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬حتى‭ ‬كاد‭ ‬أن‭ ‬يصيبهم‭ ‬القرف‭ ‬لكنهم‭ ‬ظلوا‭ ‬يتسلون‭ ‬بالزرقة‭ ‬التي‭ ‬تطل‭ ‬عليهم‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬بكسل‭ ‬ريثما‭ ‬تتحرك‭ ‬عقارب‭ ‬النهار‭.‬

أصغرهم،‭ ‬والذي‭ ‬بالكاد‭ ‬تعلم‭ ‬النطق،‭ ‬سأل‭ ‬وهو‭ ‬ينظر‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬السحب‭ ‬العابرة،‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬الغيوم‭ ‬أمواجا‭.. ‬أوسطهم،‭ ‬والذي‭ ‬ذهب‭ ‬للشاطئ‭ ‬مرارا،‭ ‬أدرك‭ ‬أنها‭ ‬السماء‭. ‬تساءل‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬تماه‭ ‬لذيذ‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬الطيران‭ ‬عموديا‭ ‬يشبه‭ ‬سقطة‭ ‬من‭ ‬علو‭ ‬شاهق‭.. ‬أكبرهم‭ ‬يدرك‭ ‬أن‭ ‬الأرض‭ ‬كروية‭ ‬الشكل‭. ‬لذلك،‭ ‬فإن‭ ‬الطيران‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬يشبه‭ ‬السقوط‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭.‬

رأيتهم‭ ‬بالأمس‭ ‬خلف‭ ‬كومة‭ ‬البيوت‭ ‬الصغيرة،‭ ‬ينبشون‭ ‬في‭ ‬التراب‭ ‬المحادي‭ ‬لسور‭ ‬المقبرة‭. ‬وجدوا‭ ‬رصاصة‭ ‬فاتسعت‭ ‬عيونهم‭ ‬من‭ ‬الذهول‭.. ‬أضرموا‭ ‬النار‭ ‬فلم‭ ‬تنفجر‭.. ‬حفروا‭ ‬ثانية‭ ‬وبحذر‭ ‬أكبر‭ ‬وهم‭ ‬يشعرون‭ ‬بقيمة‭ ‬المنجم‭ ‬الذي‭ ‬اكتشفوه‭.. ‬تواعدوا‭ ‬ألا‭ ‬أحد‭ ‬منهم‭ ‬سيبوح‭ ‬بالسر،‭ ‬ثم‭ ‬ما‭ ‬لبثوا‭ ‬أن‭ ‬انخرطوا‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬وهمية‭ ‬وهم‭ ‬يختفون‭ ‬بين‭ ‬شواهد‭ ‬القبور،‭ ‬ويطلقون‭ ‬أصواتهم‭ ‬بحجم‭ ‬رنين‭ ‬الطلقات‭. ‬مثل‭ ‬رسوم‭ ‬متحركة‭ ‬نهضوا‭ ‬من‭ ‬موتهم‭ ‬مرارا‭ ‬وأعادوا‭ ‬تسديد‭ ‬الطلقات‭ ‬وأعادوا‭ ‬النبش‭ ‬في‭ ‬التراب،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬لديهم‭ ‬سوى‭ ‬رصاصة‭ ‬واحدة‭ ‬حقيقية‭.. ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬بحوزتهم‭ ‬فذلك‭ ‬يكفي‭ ‬لأن‭ ‬يخلق‭ ‬إحساسا‭ ‬مختلفا‭ ‬بأهمية‭ ‬الحروب‭.‬

انتهوا‭ ‬عند‭ ‬الدكان‭ ‬قرب‭ ‬البيت،‭ ‬حدثهم‭ ‬المحارب‭ ‬القديم‭ ‬عن‭ ‬البطولات‭ ‬الوهمية‭ ‬التي‭ ‬حققها،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يجيبهم‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬التراب‭ ‬خلف‭ ‬المقبرة‭ ‬يشكل‭ ‬مخزنا‭ ‬حقيقيا‭ ‬للأسلحة‭. ‬لم‭ ‬يخبروه‭ ‬عن‭ ‬الرصاصة،‭ ‬ولم‭ ‬يخبرهم‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬لديه‭ ‬فوهة‭ ‬يحتفظ‭ ‬بها‭. ‬لذلك‭ ‬ناموا‭ ‬دون‭ ‬أجوبة‭ ‬حقيقية‭ ‬ليستيقظوا‭ ‬تحت‭ ‬مربع‭ ‬السماء‭.‬

استيقظ‭ ‬الأب‭ ‬مرغما‭. ‬هذا‭ ‬الصباح،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬كسلان‭ ‬سواه‭. ‬منخور‭ ‬الظهر‭ ‬بفعل‭ ‬الأورام،‭ ‬وهو‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬متحمسا‭ ‬للبحر،‭ ‬فلأن‭ ‬المحارب‭ ‬أوصاه‭ ‬بحمام‭ ‬في‭ ‬الرمل‭. ‬ربما‭ ‬اقترح‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يسافر‭ ‬جهة‭ ‬الجنوب،‭ ‬وأن‭ ‬يستلقي‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬الذرات‭ ‬السحرية،‭ ‬لعلها‭ ‬ترمم‭ ‬ما‭ ‬أفسدته‭ ‬الأورام‭. ‬ولعل‭ ‬الجنوب‭.. ‬والأطفال‭.. ‬والواجبات،‭ ‬تدفعه‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬احتمالات‭ ‬السفر‭. ‬لذلك‭ ‬فإن‭ ‬حماسه‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬كان‭ ‬منقطع‭ ‬النظير‭. ‬ولذلك‭ ‬أيضا‭ ‬بدا‭ ‬الهواء‭ ‬رطبا‭ ‬كلما‭ ‬اقتربوا‭ ‬من‭ ‬الشاطئ،‭ ‬لتخف‭ ‬الكآبة‭ ‬وليبتعد‭ ‬الأطفال‭ ‬ولو‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬عن‭ ‬ضوضاء‭ ‬الحارة‭.. ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬يشعلونها‭ ‬مع‭ ‬أبناء‭ ‬الجيران‭ ‬فلا‭ ‬تخمد‭ ‬إلا‭ ‬حينما‭ ‬تفرغ‭ ‬الشمس‭ ‬أحشاءها‭ ‬على‭ ‬صفيح‭ ‬السطوح،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتلاشى‭ ‬كبالون‭ ‬مثقوب‭.‬

الأطفال‭ ‬كانوا‭ ‬يمسكون‭ ‬به‭ ‬خيط‭ ‬الطريق‭ ‬جهة‭ ‬الأمام‭. ‬يجرجر‭ ‬خلفهم‭ ‬خطاه‭ ‬وهم‭ ‬دون‭ ‬لغط‭ ‬شديد‭ ‬ودون‭ ‬كلل‭ ‬يحملون‭ ‬لعبهم‭ ‬والعجلة‭ ‬المطاطية‭ ‬الضخمة‭ ‬المحقونة‭ ‬بالهواء‭. ‬لاشك‭ ‬أن‭ ‬ميكانيكي‭ ‬الحي‭ ‬حين‭ ‬منحهم‭ ‬إياها‭ ‬أوهمهم‭ ‬بأنها‭ ‬أخف‭ ‬زورق‭ ‬في‭ ‬العالم‭.. ‬امتطاها‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬صغيرا‭ ‬وتعاقب‭ ‬عليها‭ ‬أبناء‭ ‬الحي‭ ‬جميعهم‭.. ‬صغارا‭ ‬وكبارا‭. ‬لذلك‭ ‬جاء‭ ‬منطقيا‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مثل‭ ‬جلد‭ ‬ثعبان‭ ‬من‭ ‬كثرة‭ ‬الرقع‭ ‬التي‭ ‬عليها،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تعطيها‭ ‬احتمالات‭ ‬أكبر‭ ‬لأن‭ ‬تكون‭ ‬قارب‭ ‬النجاة‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬ارتكزت‭ ‬عليه‭ ‬حياة‭ ‬المئات،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يئست‭ ‬من‭ ‬جدواها‭ ‬شاحنة‭ ‬مهترئة‭.‬
الأب‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يفكر‭ ‬سوى‭ ‬في‭ ‬هؤلاء‭ ‬الصغار،‭ ‬الذين‭ ‬يندفعون‭ ‬أمامه‭ ‬مثل‭ ‬أحصنة‭ ‬جامحة‭ ‬بأحمالهم‭ ‬وأحلامهم‭.. ‬كيف‭ ‬تواجدوا‭ ‬فجأة‭ ‬هكذا‭ ‬أمامه‭.. ‬كما‭ ‬لو‭ ‬دون‭ ‬سابق‭ ‬إنذار‭.. ‬وكيف‭ ‬قبل‭ ‬سنين،‭ ‬كان‭ ‬ينتظر‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬إحساس‭ ‬بفاجعة‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬–منكسر‭ ‬الظهر‭ ‬والقلب‭- ‬وأن‭ ‬يأتيه‭ ‬أطفال‭ ‬من‭ ‬ليال‭ ‬مغبونة،‭ ‬تلوى‭ ‬فيها‭ ‬تحت‭ ‬أغطية‭ ‬السرير،‭ ‬دون‭ ‬شغف‭.. ‬فقط‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إطعام‭ ‬جسد‭ ‬واهن‭ ‬بجسد‭ ‬واهن‭. ‬وتناثروا‭ ‬أمامه‭ ‬مثل‭ ‬الساعات‭ ‬الضائعة،‭ ‬ونزلوا‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬في‭ ‬محطات‭ ‬عابرة‭ ‬من‭ ‬قطار‭ ‬مندفع‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬وجهته‭. ‬مرارا‭.. ‬رن‭ ‬ديك‭ ‬الساعة‭ ‬الذي‭ ‬ينقر‭ ‬عند‭ ‬رأسه‭ ‬كل‭ ‬صباح‭ ‬في‭ ‬رتابة‭ ‬آلية‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنه‭ ‬ينقر‭ ‬أعصاب‭ ‬الغد‭. ‬بدم‭ ‬بارد،‭ ‬نام‭ ‬وقام‭ ‬وحلق‭ ‬دقنه‭ ‬أو‭ ‬تناساه‭ ‬ورتب‭ ‬أوراق‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬محفظة‭ ‬مهترئة‭ ‬ثم‭ ‬خرج‭ ‬مدفوعا‭ ‬دون‭ ‬رغبة‭ ‬وبقرف‭ ‬شديد‭ ‬جهة‭ ‬العمل‭ ‬مائلا‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬ينعرج‭ ‬لكن‭ ‬السبل‭ ‬تمّحي‭ ‬ولا‭ ‬تترك‭ ‬له‭ ‬إلا‭ ‬السبيل‭ ‬ذاته،‭ ‬مثل‭ ‬كرة‭ ‬بين‭ ‬مضربين‭ ‬تتشظى‭ ‬ولا‭ ‬تزيحه‭ ‬عن‭ ‬قبره‭ ‬الأليف‭. ‬وكما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬يعتلي‭ ‬صخرة‭ ‬ولا‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬ينزل،‭ ‬فتضيق‭ ‬الأرض،‭ ‬ليلمح‭ ‬كلما‭ ‬استيقظ‭ ‬أن‭ ‬البيت‭ ‬بعيد‭ ‬عن‭ ‬أحلامه‭ ‬وأن‭ ‬المدينة‭ ‬هي‭ ‬ذاتها‭ ‬بها‭ ‬امرأة‭ ‬وبيت‭ ‬ومستشفى‭ ‬لا‭ ‬يلجه‭ ‬إلا‭ ‬محملا‭ ‬بأقمطة‭ ‬ليستخرج‭ ‬عفريتا‭ ‬إضافيا‭ ‬ساقته‭ ‬له‭ ‬القاطرة‭ ‬التي‭ ‬تلف‭ ‬حوله‭ ‬ولا‭ ‬يصيبها‭ ‬الدوار،‭ ‬رأسه‭ ‬وحده‭ ‬يدور،‭ ‬فيبهت‭ ‬وينهار‭.‬

فكر‭ ‬مرارا‭ ‬بأن‭ ‬الأمر‭ ‬أشبه‭ ‬بكمين‭ ‬أعد‭ ‬سلفا،‭ ‬وأن‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬رتب‭ ‬بعناية‭ ‬فائقة‭ ‬لم‭ ‬تترك‭ ‬له‭ ‬مجالا‭ ‬لأن‭ ‬ينتفض،‭ ‬فبدا‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬عاد‭... ‬وضعوا‭ ‬له‭ ‬بيتا‭ ‬فرضي‭ ‬وامرأة‭ ‬وأطفالا‭ ‬فلم‭ ‬يفه‭ ‬بشيء‭. ‬وحتى‭ ‬الآن‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬كيف‭ ‬يطلق‭ ‬ذلك‭ ‬الصوت‭ ‬المدفون‭ ‬عميقا‭ ‬في‭ ‬الحنجرة‭ ‬والذي‭ ‬لا‭ ‬يخرج‭ ‬ولا‭ ‬يشبه‭ ‬حتى‭ ‬الحشرجة‭.‬

مررت‭ ‬بالدراجة‭ ‬فركض‭ ‬الأطفال‭ ‬بمحاداتي‭. ‬أدرت‭ ‬العجلة‭ ‬بقوة‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬سباق‭ ‬تحد‭.. ‬بطريقة‭ ‬لا‭ ‬شعورية‭ ‬لم‭ ‬أتنازل‭ ‬عن‭ ‬عنادي‭ ‬خشية‭ ‬الخسران‭.. ‬لم‭ ‬يتبادر‭ ‬إلى‭ ‬ذهني‭ ‬أنها‭ ‬منافسة‭ ‬غير‭ ‬متكافئة،‭ ‬وحين‭ ‬تجاوزتهم‭ ‬بأمتار‭ ‬سمعتهم‭ ‬يضحكون‭. ‬كنت‭ ‬ألهث،‭ ‬بينما‭ ‬أنفاسهم‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تندفع‭ ‬من‭ ‬رئة‭ ‬مثقوبة‭ ‬كما‭ ‬يحدث‭ ‬لي‭.. ‬الأب‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬الخلف‭.. ‬كان‭ ‬كظل‭ ‬دون‭ ‬جسد،‭ ‬مثل‭ ‬هر‭ ‬واهن‭ ‬مربوط‭ ‬بخيط‭ ‬من‭ ‬ذيله،‭ ‬يجره‭ ‬أطفال‭ ‬شرسون‭. ‬لم‭ ‬تمض‭ ‬إلا‭ ‬ساعة‭ ‬حتى‭ ‬سمعت‭ ‬ضحكاتهم،‭ ‬كانوا‭ ‬ينزلون‭ ‬البحر،‭ ‬وحيث‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬انزويت‭ ‬بعيدا‭ ‬في‭ ‬نقطة‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬الشاطئ،‭ ‬لم‭ ‬تحتجب‭ ‬عني‭ ‬أصواتهم،‭ ‬وتلك‭ ‬الضحكات‭ ‬التي‭ ‬رنت‭ ‬في‭ ‬أذني،‭ ‬ونبهتني‭ ‬كيف‭ ‬استخفوا‭ ‬بي‭ ‬حين‭ ‬دفعت‭ ‬العجلة‭ ‬بقوة‭ ‬وابتعدت‭.‬

وحيث‭ ‬الأرض‭ ‬شبه‭ ‬منبسطة،‭ ‬والمسافة‭ ‬تتداعى‭ ‬بين‭ ‬المدينة‭ ‬والشاطئ‭.. ‬بين‭ ‬أشجار‭ ‬وأحجار‭ ‬مبثوثة‭ ‬على‭ ‬الطريق،‭ ‬لترسم‭ ‬ساعة‭ ‬من‭ ‬المشي‭ ‬على‭ ‬الأقدام‭. ‬بدت‭ ‬المدينة‭ ‬مثل‭ ‬خط‭ ‬أبيض‭ ‬يرتسم‭ ‬في‭ ‬البعد،‭ ‬دون‭ ‬ملامح‭ ‬واضحة‭. ‬بالكاد‭ ‬يتشبث‭ ‬بالأفق‭ ‬الذي‭ ‬يمتد‭ ‬جهة‭ ‬الشاطئ‭ ‬فيتلاشى‭ ‬في‭ ‬الزرقة،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يفصل‭ ‬بحسم‭ ‬بين‭ ‬السماء‭ ‬والماء‭... ‬والأطفال،‭ ‬الذين‭ ‬دائما‭ ‬ينظرون‭ ‬إلى‭ ‬البعد‭ ‬بعين‭ ‬فيلسوف،‭ ‬ويرسمون‭ ‬المسافة‭ ‬بأصابعهم،‭ ‬والعيون‭ ‬تتبع‭ ‬الرسم‭ ‬بدقة‭ ‬فتحتويه،‭ ‬ليتوحد‭ ‬المشهد‭ ‬تحت‭ ‬مجال‭ ‬الرؤية،‭ ‬مثل‭ ‬رسم‭ ‬على‭ ‬ورق‭ ‬شفاف،‭ ‬وفوق‭ ‬الورق‭ ‬أصباغهم‭ ‬وأقلامهم،‭ ‬وخلفه‭ ‬الطبيعة‭ ‬المتحركة‭ ‬تحت‭ ‬أجنحة‭ ‬الخيال‭.. ‬وعراة،‭ ‬كما‭ ‬يحبون‭ ‬دائما،‭ ‬يركضون‭ ‬وينبطحون‭ ‬على‭ ‬الرمل‭ ‬وينهضون‭ ‬ويصرخون‭. ‬والضحك،‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬كيمياء‭ ‬تعيد‭ ‬التوازن‭ ‬إلى‭ ‬الأرواح‭ ‬الهائمة‭. ‬فيستلقون‭ ‬على‭ ‬ظهورهم‭ ‬مثلما‭ ‬تحت‭ ‬مربع‭ ‬الشمس‭.. ‬يظهر‭ ‬البيت‭. ‬يقومون‭ ‬فينهدم‭. ‬ويظهر‭ ‬البحر،‭ ‬الذي‭ ‬يستقبل‭ ‬السماء‭ ‬مثل‭ ‬كف‭ ‬تحضن‭ ‬ماء‭ ‬شلال‭.. ‬وينبشون‭ ‬الرمل‭ ‬فتخرج‭ ‬الأصداف‭ ‬والمحارات‭ ‬قطعا‭ ‬صغيرة‭ ‬لا‭ ‬تشبه‭ ‬الرصاص‭. ‬فيموت‭ ‬المحارب‭ ‬القديم‭ ‬في‭ ‬معاركه‭ ‬الخاسرة،‭ ‬ويلفظ‭ ‬الميكانيكي‭ ‬أنفاسه‭ ‬حين‭ ‬تدور‭ ‬العجلة‭ ‬بخفة‭ ‬وترتفع‭ ‬فوق‭ ‬الموج‭ ‬ناسية‭ ‬روائح‭ ‬الزيوت‭ ‬متذكرة‭ ‬أنها‭ ‬هاهنا‭ ‬زورق‭. ‬بينما‭ ‬في‭ ‬الخلف‭.. ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬المنسي،‭ ‬يجلس‭ ‬الأب‭ ‬بكسل،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ينزع‭ ‬عنه‭ ‬سوى‭ ‬قميصه‭ ‬لتخفت‭ ‬عضلاته‭ ‬أكثر،‭ ‬ولتبدو‭ ‬مثل‭ ‬تشوه‭ ‬كئيب‭ ‬لتعاقب‭ ‬السنين‭ ‬التي‭ ‬صارت‭ ‬تتساقط‭ ‬على‭ ‬ظهره‭ ‬مثل‭ ‬سلم‭ ‬عتيق‭. ‬فيصير‭ ‬جسده‭ ‬خسارة‭ ‬الحاضر،‭ ‬بينما‭ ‬روحه‭ ‬بالكاد‭ ‬تنتعش‭ ‬برقة‭ ‬الهواء‭ ‬وتتقلص‭ ‬بالذكرى‭. ‬متماهية‭ ‬مع‭ ‬أدوار‭ ‬قديمة‭ ‬لعبتها‭ ‬في‭ ‬نهارات‭ ‬بعيدة،‭ ‬حين‭ ‬كانت‭ ‬الساعتان‭ ‬بين‭ ‬المدينة‭ ‬والشاطئ‭ ‬وبين‭ ‬الشاطئ‭ ‬والمدينة،‭ ‬قرص‭ ‬الأحلام‭ ‬الفائر‭ ‬الذي‭ ‬تحلل‭ ‬وخرج‭ ‬عن‭ ‬دائرة‭ ‬اللذة‭ ‬متلاشيا‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬الطريق‭ ‬في‭ ‬ترتيبات‭ ‬الزواج‭ ‬وأفكار‭ ‬المستقبل‭ ‬الذي‭ ‬استنفذ‭ ‬كل‭ ‬أغراضه‭ ‬وجثم‭ ‬على‭ ‬صدره،‭ ‬لينغرس‭ ‬الآن‭ ‬بين‭ ‬ذرات‭ ‬الرمل‭ ‬متشربا‭ ‬حرارتها‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬ستغمره‭ ‬الراحة‭ ‬كمطلق‭. ‬وفكر‭.. ‬لو‭ ‬ارتعشت‭ ‬أورامه‭ ‬تحت‭ ‬الرمل‭ ‬وتلاشت،‭ ‬واستطاع‭ ‬أن‭ ‬يقوى،‭ ‬ولو‭ ‬مرة‭ ‬واحدة،‭ ‬أن‭ ‬يقف‭ ‬بحزم،‭ ‬صلبا،‭ ‬ودون‭ ‬آلام،‭ ‬ويقبّل‭ ‬الأطفال‭ ‬بصرامة،‭ ‬ولا‭ ‬ينظر‭ ‬جهة‭ ‬المرأة،‭ ‬حيث‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬له‭ ‬الوقت‭ ‬الكافي‭ ‬حتى‭ ‬لسماع‭ ‬شهقتها‭ ‬حين‭ ‬يسحب‭ ‬لآخر‭ ‬مرة‭ ‬ساقه‭ ‬خارج‭ ‬العتبة‭ ‬ويلطم‭ ‬الباب‭ ‬خلفه‭... ‬لعله‭ ‬سيصير‭ ‬أخف‭ ‬من‭ ‬ريشة‭ ‬طائر‭ ‬حين‭ ‬يسير‭ ‬إلى‭ ‬جهة‭ ‬ما،‭ ‬حيث‭ ‬المحطات‭ ‬أقل‭ ‬وطأة‭ ‬من‭ ‬حجَر‭ ‬الماضي‭. ‬والماضي‭.. ‬مثل‭ ‬غبار‭ ‬في‭ ‬الكف،‭ ‬ينفخ‭ ‬فيه،‭ ‬فلا‭ ‬تستقيم‭ ‬له‭ ‬أجنحة‭ ‬ولا‭ ‬يطير،‭ ‬فقط‭.. ‬يسقط‭ ‬مثل‭ ‬ذرات‭ ‬متعبة،‭ ‬تمتصها‭ ‬الأرض‭ ‬وتتلاشى‭.‬
ويسترخي،‭ ‬وتتبدل‭ ‬أحواله‭...‬

ودون‭ ‬ذكاء‭ ‬فائق‭ ‬لم‭ ‬يفكر‭. ‬أرخى‭ ‬نظره‭ ‬جهة‭ ‬الأفق‭ ‬وقام‭.‬

أطفاله‭ ‬يركضون‭ ‬هنا‭ ‬وهناك،‭ ‬يتقاذفون‭ ‬الرمل‭ ‬الرطب‭ ‬وينتعشون‭ ‬بالماء‭. ‬خلع‭ ‬بنطاله‭ ‬وطرحه‭ ‬ككومة‭ ‬أحشاء‭ ‬متهدلة،‭ ‬وركض‭ ‬نحوهم‭. ‬حين‭ ‬نظروا‭ ‬إليه‭ -‬في‭ ‬استغراب‭ ‬ما‭- ‬ضحكوا‭ ‬ضحكا‭ ‬أقل‭ ‬استخفافا‭. ‬وحين‭ ‬ابتسم‭ ‬ابتسموا‭ ‬أيضا‭. ‬وارتمت‭ ‬العجلة،‭ ‬وارتمى‭ ‬وسطها،‭ ‬وتسلقوا‭ ‬حواشيها،‭ ‬ودفع‭ ‬الأرض‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬الماء‭ ‬فانسحبت‭ ‬ثم‭ ‬غارت‭ ‬قليلا‭.. ‬فعاموا‭ ‬على‭ ‬السطح،‭ ‬وتلاحقت‭ ‬الأمواج‭ ‬في‭ ‬تهاد،‭ ‬فتهادوا‭... ‬وتشابكت‭ ‬أيديهم‭ ‬وتلاحمت‭ ‬حرصا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تبتل‭ ‬رعشة‭ ‬الفرح،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬تغوص‭ ‬ضحكة‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬القعر‭.‬

وحيث‭ ‬الشاطئ‭ ‬خال،‭ ‬لا‭ ‬يشبه‭ ‬مكانا‭ ‬فارغا‭.. ‬وحيث‭ ‬لم‭ ‬آت‭ ‬إلى‭ ‬هنا‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬فصول‭ ‬نادرة،‭ ‬حملت‭ ‬دراجتي‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تستلقي‭ ‬على‭ ‬صخرة،‭ ‬دفعتها‭ ‬نحو‭ ‬الشاطئ‭ ‬ونزلت‭. ‬وكما‭ ‬حلمت‭ ‬دائما،‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬البحر‭ ‬مرتدا،‭ ‬متقلصا‭ ‬جهة‭ ‬الأفق،‭ ‬مسحوبا‭ ‬أعلى،‭ ‬تاركا‭ ‬الرمل‭ ‬مثل‭ ‬بساط‭ ‬رطب،‭ ‬صلب‭ ‬وناعم‭.. ‬فلا‭ ‬تغوص‭ ‬العجلتان‭ ‬وهما‭ ‬ترسمان‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬الشاطئ‭ ‬خطا‭ ‬رفيعا،‭ ‬مستقيم‭ ‬السرعة‭. ‬فيخفت‭ ‬الهواء‭ ‬ويصير‭ ‬معطرا‭ ‬بالرذاذ‭. ‬وحيث‭ ‬دائما،‭ ‬ثمة‭ ‬حقول‭ ‬نوارس‭ ‬لا‭ ‬تلحقها‭ ‬السيقان‭ ‬ولا‭ ‬تمسكها‭ ‬الأرض،‭ ‬نسيت‭ ‬الأطفال‭ ‬وغبن‭ ‬المدينة‭ ‬الكسلانة‭ ‬التي‭ ‬ينام‭ ‬فيها‭ ‬حي‭ ‬تعلوه‭ ‬شمس‭ ‬كبرتقالة‭ ‬مشتعلة‭ ‬ترسم‭ ‬مربعاتها‭ ‬من‭ ‬فتحات‭ ‬السطوح‭. ‬ومن‭ ‬فوق‭ ‬السطوح،‭ ‬تظهر‭ ‬الأزقة‭ ‬منبطحة‭ ‬كقشرة‭ ‬يابسة‭ ‬ترتمي‭ ‬بين‭ ‬البيوت،‭ ‬وتقود‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬الجهات،‭ ‬لتنحصر‭ ‬عند‭ ‬سور‭ ‬المقبرة‭. ‬نسيت‭ ‬المقبرة‭ ‬وكومة‭ ‬العظام‭ ‬تحتها‭. ‬وحفرة‭ ‬صغيرة‭ ‬كانت‭ ‬تدفن‭ ‬رصاصة،‭ ‬كانت‭ ‬مشتعلة‭ ‬في‭ ‬فوهة‭ ‬لم‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬خيال‭ ‬محارب‭ ‬قديم‭.‬

نسيت‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬وانطلقت،‭ ‬مغمورا‭ ‬وسط‭ ‬حقل‭ ‬النوارس‭ ‬التي‭ ‬بسحر‭ ‬فاتن‭ ‬حلقت‭ ‬على‭ ‬علو‭ ‬خفيض،‭ ‬لا‭ ‬يعلو‭ ‬خط‭ ‬الأفق‭. ‬ومثل‭ ‬السكران،‭ ‬تخف‭ ‬الأرض‭ ‬وتتداعى‭ ‬العجلة‭ ‬ولا‭ ‬تغوص‭. ‬تهيم‭ ‬وسط‭ ‬النوارس‭ ‬التي‭ ‬تحلق‭ ‬أمامي‭ ‬وبي‭ ‬تطير‭. ‬وكما‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬السماء‭ ‬قريبة،‭ ‬والهواء‭ ‬دم‭ ‬أزرق‭ ‬شفاف،‭ ‬يلطم‭ ‬آخر‭ ‬صدأ‭ ‬تكلس‭ ‬في‭ ‬الرئة،‭ ‬نِمت‭ ‬تحت‭ ‬صفاء‭ ‬الأجنحة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تجرني‭ ‬بخيوط‭ ‬لا‭ ‬مرئية‭ ‬إلى‭ ‬أعلى‭.. ‬وحيث‭ ‬الأطفال‭ ‬لا‭ ‬حدود‭ ‬لرؤاهم،‭ ‬بين‭ ‬موجة‭ ‬تنسحب‭ ‬على‭ ‬الماء‭ ‬أو‭ ‬تهيم‭ ‬غيمة‭ ‬في‭ ‬السماء؛‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الطيران‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬يشبه‭ ‬السقوط‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬درت‭ ‬دورة‭ ‬كاملة،‭ ‬وكلما‭ ‬دنوت‭... ‬تراءت‭ ‬لي‭ ‬العجلة‭ ‬المطاطية‭ ‬قرصا‭ ‬أسود‭ ‬يتأرجح‭ ‬بين‭ ‬موجتين‭.. ‬ولا‭ ‬جسدا‭ ‬يتوسطه‭ ‬أو‭ ‬يدا‭ ‬تتمسك‭ ‬بحواشيه‭.. ‬وتخيلت‭ ‬تلك‭ ‬الدوائر،‭ ‬كيف‭ ‬ترتسم‭ ‬حول‭ ‬نقطة‭ ‬غائرة‭ ‬رسمتها‭ ‬حصاة‭ ‬صغيرة‭ ‬سقطت‭ ‬في‭ ‬الماء‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تنام‭ ‬تحته‭. ‬تخيلت‭ ‬أو‭ ‬رأيت‭ ‬جهة‭ ‬الخط‭ ‬الأبيض‭ ‬الذي‭ ‬يرسم‭ ‬المدينة‭ ‬في‭ ‬الأفق،‭ ‬ثلاثة‭ ‬أجساد‭ ‬صغيرة‭ ‬تسير‭ ‬نحوه‭. ‬وفكّرت‭ ‬في‭ ‬الأب،‭ ‬وفي‭ ‬لطمة‭ ‬الباب‭ ‬حين‭ ‬يفر‭ ‬بآخر‭ ‬ساق،‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬وحده‭ ‬قد‭ ‬تهاوى‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الثقب‭ ‬الأسود‭..‬

لعل‭ ‬المشهد‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭. ‬لقد‭ ‬سبح‭ ‬مثل‭ ‬طفل،‭ ‬ثم‭ ‬استلقى‭ ‬على‭ ‬الرمل‭ ‬فاتحا‭ ‬ذراعيه‭ ‬مثل‭ ‬عصفور‭. ‬آماله‭ ‬العريضة‭ ‬انتعشت‭ ‬تحت‭ ‬خفة‭ ‬الموج‭.. ‬النعومة‭ ‬التي‭ ‬فاضت‭ ‬من‭ ‬الأيادي‭ ‬الصغيرة‭ ‬حين‭ ‬تلامست‭ ‬وتشابكت‭. ‬وكما‭ ‬لو‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬سيلمسها‭ ‬ليفيض‭ ‬قلبه‭ ‬انتشاء‭. ‬رفرفوا‭ ‬حوله‭ ‬وخرجت‭ ‬من‭ ‬أفواههم‭ ‬ضحكات‭ ‬سحرية‭.. ‬طارت‭ ‬مثل‭ ‬الخدر‭ ‬ولفت‭ ‬أورامه‭. ‬تراءى‭ ‬له‭ ‬الصغار‭ ‬بأجنحة‭. ‬ابتسم‭ ‬لهم‭ ‬بانتشاء‭ ‬وهو‭ ‬يدفن‭ ‬أصابعه‭ ‬في‭ ‬الرمل‭.. ‬اندفنت‭ ‬الأيادي‭ ‬الصغيرة‭ ‬أيضا،‭ ‬وانخرطت‭ ‬في‭ ‬رسم‭ ‬معالم‭ ‬حفرة‭ ‬صغيرة‭ ‬صارت‭ ‬تتسع‭. ‬ارتمى‭ ‬فيها‭ ‬فلفت‭ ‬الحرارة‭ ‬أعضاءه‭. ‬أغمض‭ ‬عينيه‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬ليرى‭ ‬العالم‭ ‬أقل‭ ‬وطأة‭ ‬مما‭ ‬مضى‭. ‬صارت‭ ‬الأشياء‭ ‬من‭ ‬حوله‭ ‬مثل‭ ‬فراغ‭ ‬في‭ ‬طين‭ ‬الكون‭.‬

كومة‭ ‬كومة،‭ ‬انهالت‭ ‬عليه‭ ‬الذرات‭. ‬صارت‭ ‬جبلا‭. ‬وتحت‭ ‬الجبل،‭ ‬كانت‭ ‬الروح‭ ‬تبهت‭ ‬وتكاد‭ ‬تطير‭.. ‬أمسك‭ ‬بها‭ ‬فانتفضت‭ ‬وضربت‭ ‬بأجنحتها‭.. ‬وظل‭ ‬الأطفال‭ ‬يهيلون‭ ‬الرمل‭ ‬عليه‭ ‬بإصرار‭ ‬كبير‭. ‬وبإصرار‭ ‬كبير‭ ‬ظلت‭ ‬الروح‭ ‬تنتفض‭ ‬والهواء‭ ‬يخفت‭ ‬في‭ ‬الرئة،‭ ‬حتى‭ ‬طارت،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬الهواء‭. ‬ولم‭ ‬يَقْوَ‭ ‬على‭ ‬الحركة‭ ‬ثم‭ ‬همد‭.‬

كان‭ ‬الشاطئ‭ ‬خال‭.. ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أعد‭ ‬لذلك‭ ‬سلفا‭.. ‬ظلت‭ ‬النوارس‭ ‬وحدها‭ ‬تحلق‭ ‬في‭ ‬الأجواء‭. ‬حتى‭ ‬أظلم‭ ‬الليل‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬يُرى‭ ‬أي‭ ‬أثر‭ ‬لأي‭ ‬أثر‭.‬