كتب :علاء عريبى
مازال كتاب الأغانى لأبى الفرج الأصفهانى (ت 356هـ) على رأس قائمة المصادر التى تحظى باهتمام الباحثين فى الأدب العربى، ليس لأنه احتفظ لنا بصورة الحياة الثقافية فى العصرين الأموى والعباسى فحسب، بل لأنه يعد مصدرا رئيسيا لدراسة الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية ابتداء من العصر الجاهلى وحتى العصر العباسى، فلا غنى لباحث أو قارئ عن الأخبار والحكايات والأشعار التى ذكرها الأصفهانى فى الكتاب، فقد جمع فيه أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيامهم ودولهم، مما جعل منه، حسب وصف ابن خلدون (ت808هـ) ديوان العرب".
كتاب بهذا الحجم والقدر أغفل للاسف ذكر ترجمة للشاعر الحسن بن هانئ، المعروف بـ"أبو نواس" (ت 199هـ)، لماذا؟ هل لعدم تقدير الأصفهانى له ولسيرته ولأشعاره؟ هل لإتهام البعض للنواس بالتشيع؟ هل لأن النواس عاش جزء من حياته بين الحانات والقيان؟ هل لعدم غناء بعض المغنيين لأشعاره؟ هل سقطت ترجمته سهوا من قبل الأصفهانى؟ هل نساخ الأغانى أغفلوها سهوا أو عن عمد من المخطوط؟
ابن منظور(ت 711هـ) صاحب معجم لسان العرب هو أول من انتبه لهذه الملاحظة قبل أكثر من 750 سنة، بعد تأليف الكتاب ونزوله الاسواق بحوالى 400 سنة، سجل ابن منظور ملاحظته فى كتابه "أخبار أبى نواس: تاريخه، ونوادره، وشعره، ومجونه"، بقوله:" ولم أجد لأبى نواس ترجمة مُفردة فى نسخ الأغانى التى وقفتُ عليها. وما أدري: هل أغفل أبو الفرج ذكره من كتابه، أم أُسقطت ترجمته من كتابه بعده. وليت شعرى إذا أغفل أبوالفرج ذكر أبى نواس من كتابه، فـمَن ذكر! على أنّ أبا الفرج ليس ممن يجهلُ قدر أبى نواس فى فضله ونُبله وجِدّه وهزله، وسائر فنونه: من صدقه ومجونه، وإنه لَطِرازُ الكُتُبِ، بل علمُ أهل الأدب".
كتاب الأغانى، كما هو معلوم، قائم على أفضل مائة صوت غنت فى الغناء العربى حتى عصر هارون الرشيد (ت193هـ)، يعود الفضل فى اختيارها لهارون، فقد ذكر الأصفهانى فى مقدمة الكتاب ثلاث أخبار، جميعها برواية إبراهيم الموصلى (ت 188هـ) عن تكليف هارون الرشيد للمغنين باختيار أفضل مائة صوت، تم تصفيتها فيما بعد إلى أفضل ثلاثة أصوت، نقل الأخبار عن إبراهيم ابنه إسحاق (ت235هـ)، قام باختيار الأصوات إبراهيم الموصلى، وإسماعيل بن جامع، وفليج بن العوراء.
وقيل إن سبب تأليف الأصفهانى للكتاب يعود إلى الوزير المهلبى، يزيد بن محمد (ت 352هـ). وأنه جمعه فى خمسين سنة، ذكر ياقوت الحموى أن الوزير المهلبى سأل أبا الفرج الإصفهانى عن كتابه الأغانى والمدة التى قضاها فى تأليفه فأجاب الأصفهانى أنه ألفه فى خمسين سنة. وحمله إلى سيف الدولة الحمدانى (ت 356هـ) فأعطاه ألف دينار. وحكى ابن خلكان (ت 681هـ) عن الصاحب بن عباد (ت 358هـ) أنه كان فى أسفاره وتنقلاته يستصحب حمل ثلاثين جملا من كتب الأدب ليطالعها، فلما وصل إليه كتاب الأغانى لم يكن بعد ذلك يستصحب سواه استغناء به عنها. وذكر الخطيب البغدادى (ت 463هـ) فى تاريخ بغداد: وقع الاتفاق على أنه لم يعمل فى بابه مثله. وقال ابن خلدون فى تاريخه (ت 808هـ) فإنّ ذلك الكتاب هو كتاب العرب وديوانهم وفيه لغتهم وأخبارهم وأيّامهم وملّتهم العربيّة وسيرتهم وآثار خلفائهم وملوكهم وأشعارهم وغناؤهم وسائر معانيهم له فلا كتاب أوعب منه لأحوال العرب.
إذا كان الكتاب قد حظى بهذا الكم من الإشادة، فلماذا لم يتضمن ترجمة للنواس؟ هل لرمى البعض للنواس بالتشيع؟، الذى يقرأ سيرة الأصفهانى مؤلف الكتاب سيكشف أن بعض من ترجموا له رموه بالتشيع مثلما رموا النواس من قبله، وهو ما يعنى أنه كان من الأولى للأصفهانى ان يترجم لمن هو من شيعته، قال التنوخى (ت384هـ) فى نشوار المحاضرة: ومن المتشيعين الذين شاهدناهم، أبو الفرج الأصبهاني" وحدد الطوسى (ت 460هـ) فى "الفهرست" مذهبه بقوله: زيدى المذهب"، وقال ابن الأثير (ت 630هـ) فى كتاب «الكامل»: وكان أبو الفرج شيعيا، وهذا من العجب".
إذا كان الأصفهانى لم يغفل ترجمة النواس بسبب تشيعه على حد زعمهم، وإذا كان كتاب الأغانى قد تضمن العشرات من الأخبار الخاصة بالنواس، قدرت بحوالى 89 خبرا موزعة على 13 جزءا، فلماذا لم ترد ترجمته؟ هل لعدم صلاحية أشعار النواس للغناء؟
الثابت فى كتاب الأغانى أن المغنين تغنوا للنواس بالعديد من الأصوات قام الأصفهانى بتسجيل بعضها، منها صوت "توهمه قلبى فاصبح خده.." غنته الجارية "دمن"، وصوت "أصبح قلبى به ندوب.."، غناء سليم، وفيه لحنان: لإسحاق، واخر للهاشمى، وثالث لبذل الجارية. وصوت "يا كثير النّوح فى الدّمن.."، غناه إبراهيم المهدى، وصوت "ألم تر أننى أفنيت عمري" غناء الزبير بن دحمان، ومحمد بن قريض الجرحى.
لم يتبقى لنا لحل لغز اختفاء ترجمة النواس من كتاب الأغانى، سوى ما ذكره ياقوت الحموى (ت 626هـ) عن سقوط بعض الأخبار والتراجم من المخطوط، إذ يرى ياقوت أن الكتاب لم يتضمن مائة صوت كما هو شائع، بل تسعة وتسعين صوتا فقط، وهو ما قد يعنى أن الترجمة الناقصة كانت للنواس، وربما لغيره، وقيل أيضا إن النسخة المتداولة سقط عنها بعض الأخبار، قال فى معجم البلدان: "وقد تأملت هذا الكتاب.. وجمعت تراجمه فوجدته يعد بشيء ولا يفى به فى غير موضع منه؛ كقوله فى أخبار أبى العتاهية: «وقد طالت أخباره ها هنا وسنذكر خبره مع "عتب" فى موضع آخر» ولم يفعل. وقال فى موضع آخر: «أخبار أبى نواس مع "جنان" إذ كانت سائر أخباره قد تقدّمت» ولم يتقدّم شيء، والأصوات المائة هى تسعة وتسعون، وما أظنّ إلا أن الكتاب قد سقط منه شيء أو يكون النسيان غلب عليه".
وقد أكد الباحث والمحقق أحمد صقر هذا فى مقدمة كتاب مقاتل الطالبيين" بقوله: "فإن كتاب الأغانى مع الأسف لم يطبع إلى الآن طبعة كاملة تضم كل نصوصه وأخباره، ولست أعنى النقص فى بعض الأخبار، أو الأشعار، وإنما أعنى نقص التراجم الكاملة كترجمة مسلم بن الوليد صريع الغوانى التى نقلها ناشر ديوانه عن إحدى مخطوطات الأغاني، وهى ترجمة طويلة تقع فى 34 صفحة، ولو قد استحضرت دار الكتب مخطوطات الأغانى لما خرج الكتاب ناقصا ولاستمتعنا بأخبار هؤلاء الطالبيين الذين لم يذكرهم أبو الفرج فى مقاتل الطالبيين".
ربما عدم الاعتماد فى نشر الكتاب على المخطوط الكامل قد يكون تفسيرا منطقيا ومقبولا لغياب ترجمة النواس عن كتاب بحجم الأغانى، وهذا الاحتمال الأقرب للظن قد يقوى بعثور أحد الباحثين على التراجم الناقصة فى مخطوط جديد للأغانى أو عند عدم عثوره على ترجمة للنواس فى المخطوط الكامل، وقد يتبدد الاحتمال ويصبح كالسراب عندما يفشل فى العثور على المخطوط الكامل للأغانى، وإلى أن يقوم أحد الباحثين بالمحاولة فى العثور على المخطوط الكامل سيظل السؤال قائما بدون إجابة: لماذا لم يترجم الأصفهانى فى كتابه الأغانى لشاعر بحجم وقامة النواس؟