شعبان ناجى
هذه دراسة تسعى بقوة إلى أن تكون جادة، وذلك لأنها تبحث فى موضوع غير مطروق بشكل كبير فى أدبنا الشعبي، فهى دراسة مقارنة، وهذا نوع من الدراسات الأدبية أميل إليه؛ لأنه اللون القادر على إظهار جماليات الإبداع وخفاياه البعيدة؛ فضلا عن أنه يعرفنا أين نقف بالنسبة إلى الآخر الذى تجرى المنافسة معه.
الدراسة التى بين أيدينا تحمل عنوان «مغامرات الشطار بين الثقافة العربية والثقافة الإنجليزية»، وقد كنت أحب أن تحذف الباحثة كلمة «مغامرات» لتتسع دائرة بحثها أكثر، فهى تبحث عن الشطار أكثر مما تبحث عن مغامراتهم. والشطار لم تكن لهم مغامرات فقط، وإنما كانت لهم حياة عريضة مثيرة، لا تحدها حدود ولا تحكمها قوانين.
والدراسة دراسة أكاديمية تطبيقية، قامت صاحبتها أميرة مروان، بالمقارنة بين نموذجين شعبيين، الأول ينتمى إلى ثقافتنا العربية وهو على الزيبق، والثانى ينتمى إلى الثقافة الإنجليزية، وهو روبين هود، وهذان النموذجان كان يجدر بالباحثة أن تضعهما فى عنوان فرعى تحت عنوانها الرئيسي، فتقول: "على الزيبق وروبين هود نموذجا" وهو ما كان سيمنح عنوانها جاذبية، بل ومنهجية أكثر.
والنموذج الشعبى الأول وهو على الزيبق، نعرفه عز المعرفة؛ لأنه ينتمى إلى ثقافتنا العربية وينتمى إلى موروثاتنا الشعبية أكثر؛ أما النموذج الثاني، وهو روبين هود، فربما لا يعرفه الكثيرون منا؛ لأنه بعيد عن ثقافتنا الشعبية، وبعيد كل البعد عن اهتمامات دراساتنا النقدية.
بدأت الدراسة بمدخل عام عن قصص اللصوصية والشطار فى الأدب وفى التراث الإنسانى عموما، بعدها قدمت تعريفا لمصطلح الشطار؛ لكنها لم تقدم ذلك بشكل أوسع، فلم ترجع بنا إلى العصر الجاهلى لتعرض قصص اللصوص التى كان يمتلئ بها هذا العصر، ولم ترجع بنا إلى العصور الوسطى فى أوربا لتعرض لنا ولو نماذج قليلة من عصر الرينيسانس، حيث شعراء التروبادور، أى الشعراء الجوالين أو الشعبيين، أو شعراء المواويل الشعبية، فذلك كان حتما سيفيدها فائدة لا حد لها، فقد كان على الزيبق امتدادا طبيعيا لشطار العصر الجاهلى وما قبله، تماما كما كان روبين هود امتدادا لعصر الرينيسانس وما قبله. وهذا ما سوف نفصله فى حينه؛ لكننا نحب الآن – وكلنا شوق- أن ندخل إلى متن هذه الدراسة الجادة.
بالنسبة إلى سيرة على الزيبق، فقد تناولتها الباحثة من خلال مصادر ثلاثة، المصدر الأول هو المصدر الرئيسى المتمثل فى ألف ليلة وليلة، عندما كانت قصة على الزيبق مجرد نواة صغيرة داخل الليالي، وقد ظلت كذلك ردحا من الزمان إلى أن أخرجها بعض الباحثين فنقحوها ووضعوا عليها مواضيع أخرى، وألقوا عليها قصصا كثيرة منتحلة، حتى صارت إلى ما صارت عليه الآن من كونها قصة كبيرة، وقد راحت الباحثة تسردها لنا، ولكننا لا نحب أن نثقل عليكم فى قص تفصيلاتها، فهى موجودة فى دراسة الباحثة، والقصة نفسها موجودة لمن أراد أن يقرأ أو يستزيد.
وأما المصدر الثانى لقصة على الزيبق، فكان يتمثل فى مخطوط القصة نفسه؛
لكن هذا المخطوط قطعا قد تغير بعد انتقاله من المرحلة الشفاهية إلى المرحلة الكتابية، وبالتالى لن تستطيع الباحثة أن تعوّل عليه كثيرا فى وضع أية أحكام قاطعة خاصة ببحثها.
المصدر الثالث لدراسة مغامرات الزيبق كان يتعلق بالسردية الحديثة، وذلك من خلال النص الروائى الحديث المتمثل فى نص "ملاعيب على الزيبق" للكاتب الروائى فاروق خورشيد، وهو نص جميل فعلا؛ لكن خورشيد – بدوره- قد تأثر بثلاثة مصادر عندما كتب روايته، وهي: ألف ليلة وليلة، ومخطوط السيرة، وسيرة روبين هود الإنجليزية، وهو ما لم تنوه عنه الباحثة.
وفى موضع آخر من الدراسة، تقدم لنا الباحثة تحليلا وافيا عن سيرة على الزيبق، فهى تعرض لنا وظائف الشخصيات فى هذه السيرة ثم تقدم البناء الداخلى والخارجى لبطل السيرة، مشيرة إلى أن البطل كان يميل إلى صفات ومسالك اللص الشريف المدافع عن الفقراء والمظلومين، من خلال أساليب التنكر المتعددة التى كان يمارسها بمهارة وحذق.
وهنا يبدو جليا لنا أن ثمة أثرا واضحا للشعراء الصعاليك فى هذه السيرة الشعبية، فقد كانوا سباقين فى هذا الفعل بالذات، وليس علينا إلا أن نعود قليلا إلى سيرتهم لنعرف ذلك، فلنرجع إلى سيرة الشنفرى الأزدى أو تأبط شرا أو السليك بن السلكة، هؤلاء السود ممن كان يطلق عليهم أغربة العرب؛ لأنهم استمدوا السواد من أمهاتهم الجواري، وقد دخلوا الصعلكة من دون عمد؛ لأنهم كانوا منبوذين من قبيلتهم.. ربما شذ عن هذه القاعدة عروة بن الورد الذى دخل الصعلكة مختارا؛ لذا فقد كان صعلوكا شريفا استطاع أن يرفع الصعلكة ويجعلها ضربا من ضروب السيادة والشرف، ذلك أنه كان ينطلق من نفس حرة كريمة، فهو لم يكن يغزو للنهب والسلب، وإنما كان يغزو ليعين الفقراء والمستضعفين على حياتهم الجافة المجدبة.
وهنا نتساءل: ما الخلاف بين مسلك الشعراء الصعاليك ومسلك على الزيبق؟ بالقطع المسلك واحد، وهذا ملمح مهم كنا نتمنى أن تفطن إليه الباحثة، وتلتقط تفاصيله الكثيرة والممتعة، فإنها لو فعلت لزادت دراستها جمالا فوق جمال، وأغدقت عليها رصانة فوق رصانة.
وفى سياق آخر، عندما ذكرت الباحثة أن السيرة قد أصابها تغيير وتبديل وحذف وإضافة وانتحال عند نقلها من الشفاهى إلى الكتابي، وهى تعتبر هذا أمرا متاحا للجميع، فلماذا لم تؤكد على هذا المبدأ وتتبناه؟ لأنه إذا كانت الحال كذلك فمن حقنا نحن اليوم أن نعيد من جديد صياغة كل سيرنا الشعبية بما يناسب ذائقتنا وتفكيرنا، وهو ما يعد فتحا مبينا فى هذا المجال، وربما أفادنا فى كثير من المجالات الأخرى؛ لكن هذا لا يحدث اليوم، على اعتبار أن السيرة تعد مقدسا، والمقدس لا يجب المساس به.
وفى السياق نفسه، نلمس ملمحا آخر يتعلق بفكرة البحث عن اكتشاف سير شعبية أخرى.. فهل من سبيل إلى ذلك؟ أم أننا أوقفنا اجتهاداتنا عند تلك السير المعدودة مثل ألف ليلة وسيف بن ذى يزن وحمزة البهلوان والأميرة ذات الهمة.. فهل انتهت السيرة عند هذا الحد؟ وهل مات الباحث الشعبى ومات دوره البحثي؟
وأما عن الشق الثانى من هذه الدراسة والذى يتعلق بروبين هود، فقد استندت الباحثة إلى ثلاثة مصادر، الأول: هو مجموعة الأغانى والقصص الشعبية القديمة التى جمعها جوزيف ريتسوس.. والثانى: هو مغامرات روبين هود فى السرد الوسيط، من خلال رواية "المغامرات المرحة لروبين هود ذائع الصيت" للكاتب والمصور الأمريكى هاورد بايل.. وأما المصدر الثالث: فهو يتعلق بمغامرات روبين هود فى سرديات القرن العشرين من خلال رواية "مغامرات روبين هود" للروائى الإنجليزى روجر غرين.
وقد استخدمت الباحثة المنهج نفسه الذى قدمت به سيرة على الزيبق، فقد قدمت لنا الوظائف المتعددة للشخصيات التى تتغير بتغير المكان والأحداث والظروف والملابسات، كما قدمت لنا البناء الداخلى والخارجى لأبطال القصة، والذى لم يختلف كثيرا عن منافسه العربى الشاطر على الزيبق، وهذه التفاصيل لا نحب أن نغرق القارئ فى تفصيلاتها الكثيرة، فهى موجودة فى متن البحث لمن أراد أن يطالعها.
لكن ما نحب أن نشير إليه - وربما تكون نسيته الباحثة- هو أننا كنا نستبشر خيرا بأن القصص الشعبى الإنجليزى كان سيختلف عن منافسه العربى، فيما يختص بكسر قاعدة البطولة الذكورية التى تسيطر تماما على السيرة على حساب العنصر الأنثوى ولكن ظننا قد خاب، فلقد ظل الذكر هو البطل الأوحد، بل قد ظل هذا المفهوم قائما حتى فى عصرنا الحالي.. وأفلام الحركة والإثارة والمغامرات تشهد بذلك.
لكن ما قلناه آنفا عن سيرة على الزيبق، سوف نقوله هنا عن سيرة روبين هود، فرغم تأثر هذه السيرة بالقصص الشعبى فى عصر الرينيسانس، وبالتحديد شعراء التروبادور أو الشعراء الجوالين أو شعراء المواويل الشعبية، وما قبلهم من شعراء الإغريق وعلى رأسهم زعيمهم العظيم هوميروس.. أفليس هوميروس نفسه شاعرا جوالا وإلياذته العظيمة هى قصص شعبى بامتياز.. وبالمثل دانتى أليجيرى فى كوميدياه الإلهية، وكذا الديكاميرون لبوكاشيو؟ فكل هذه الملاحم وغيرها تحمل فى نغمتها الأساسية قصصا شعبيا أفادت منه كل الأعمال اللاحقة التى تتعاطى هذا اللون.
كما لم تقل لنا الباحثة إن مغامرات روبين هود وعلى الزيبق وغيرها قد ألقت بظلالها على كثير من الإبداعات الأوروبية اللاحقة التى حازت شهرة واسعة، فلا نستطيع أن ننكر تأثر المبدعين الروس بهذا القصص الشعبى وخصوصا ألف ليلة وليلة التى ظهرت أصداؤها فى أعمالهم، وهنا نذكر: تولستوى وديستويفسكى وكيرلوف ومكسيم جوركى وغيرهم.