أ.د.محمد أبوالفضل بدران
كان أبى - رحمه الله تعالى - إذا ذُكِر الخضر عليه السلام اعتدل فى جلسته؛ وقال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فسألته عندما كنت صغيرا : على ترد السلام؟ فقال أبي: على الخضر فما ذُكر فى مكان إلا وكان حاضرا به.
كم استهوتنى هذه المقولة من أبى فرحتُ أستحضره فى ذاكرتى ممنيا نفسى برؤيته والحديث معه، جمعت أسئلة كثيرة فى انتظاره وطوال حياتى ورحلاتى كنتُ أبحث عنه وحالى كما قال الشاعر:
أمُرُّ على الأبوابِ من غيرِ حاجةٍ
لعلى أراكمْ أوْ أرى مَنْ يراكمُ
جمعتُ من الكتب كل ما قيل عنه والتقيت من سمعت أنه رآه وجمعتُ هذا وذاك فى كتاب أصدرته عن «الخضر فى التراث العالمي» الذى أقدمه لكم عسى أن تروا كيف انتشر الخضر فى العالم أيقونة إبداعية تتخذ من القلوب مكانا ومن الأدب إبداعا.
ومن الطريف أن المستشرقة الألمانية أنمارى شيمل كانت تنادينى مولانا صاحب الخضر، وقد أرسل لى الصديق الأديب أحمد فضل شبلول مقطع قصيدة شدا بها الشاعر المالى بكرى سيسى فى حفل أقيم بملتقى النيلين للقصيدة العربية بالخرطوم فى مارس 2021 مستحضرا الخضر.
يقول الشاعر المالى بكرى سيسى فى قصيدته «بوصلة تائهة» :
رأيتنى فى مَغَارِ الفِكْرِ
أكتبنى بَوْحاً جَلِيًّا
وفِكْرِى تَوأمُ الفَلَقِ
والخِضْرُ
فى مَرْتَعِ الألفاظِ يُنبِئنِي:
عَصَاكَ للكلماتِ السِّحْرِ
فائتَلِقِ
بنيتُ
من رَحِمِ الإبداعِ قافيةً
وزني
تُعانقهُ خيَّالةُ الشَّفَقِ
يعد الخضر- وهذا لقبه - وكنيته أبوالعباس من الشخصيات التى اختلط فيها الدينى المقدَّس بالأسطورى الشعبى وقد أدى هذا الخلط إلى ديمومة حضور هذه الشخصية فى التراث الدينى والأدبى والنقدى وفى الفُلكلور الإنسانى ولم يكن هذا مقصوراً على التراث العربى بل تخطاه نحو آداب الشعوب الإسلامية جمعاء؛ فى التراث الإندونيسى؛ وفى الفارسى؛وفى التركى بل فى التراث الآسيوى نلمح Al-Khizr أيضا؛ فعند مسلمى الهند وغير المسلمين أيضا "صار مقدساً عند صيادى الهند، فغدا مرشد البحارة ودليلهم، ومايزال يُذكر اسمه حتى الآن من قبل البحارة فى كل مرة يبحرون بقواربهم فى اتجاه الشرق الأوسط والهند الشمالي" فقد أضحى الخضر مقدسا لدى البحارة فى الهند وأضحى "راعى الملاحة فى الهند حيث يقال هناك إن "رجا كيدار" هو الحارس ضد أخطار الملاحة" أى صار رمزا للحماية لدى الهنود وغيرهم فى أصقاع المعمورة؛ وفى تركيا يطلقون على سيارة الإسعاف خِزر كما يُسَمَّى فى سريلانكا Kilur،أو Kalir أو Halir كيلُر، كالير أو هالير، أى كلّ المشتقّات من خضر العربيّ وأيضًاHayatun Nabi "النبى الحي" لقد أضحى "الخضر مثل الهواء . عندما يفكّر أحد فيه, فإنه هناك" وفى التراث الفارسى نجد الخضر أو خِيسير متواترا، ولم يقتصر وجود الخضر عند المسلمين فقط بل تجاوزهم إلى الملل الأخرى لنجده فى التراث اليهودى الذى يراه الـحَبر يهوشع أو يوشع او إيليا؛ والتراث المسيحى الذى يسميه القديس جورج أو جورجيوس أو مارى جرجس؛ وكأنه إرث يرغب الجميع فى ملكيته؛ كما أن حضوره لم يكن محدوداً بكتب التراث بل تعايشت هذه الشخصية مع العصور لتتجاوزها وتظل حية لدى بعض البيئات والأمم حتى يومنا هذا، وما مزارات الخضر المنتشرة فى سوريا ولبنان وتركيا وغيرها من البلدان إلا صورة من حضور الخضر فى المعتقدات الدينية ومحاولة تجسيده فى المزارات والإبداع.
فالباحث عن عين الحياة، والشارب منها يمُنح الخلود، ويتحول إلى نقطة التقاء بين الأديان مع اختلاف حول اسمه وعصوره؛ وشبه إجماع على مواصفاته وأدواره؛ وهذا ما جعل توظيفه فى الأدب والنقد معينا لا ينضب ورؤى إبداعية لاتُحد، قد يتغير اسمه وشكله وأوصافه تبعا للبيئات والأزمنة لكن يظل نقطة إبداع ومحور خيال لم يجد من النقاد من يحاول فكّ طلاسمه فى إطار الإبداع والنقد.
فالتراث الشفهى يوظّف الخضر، ويتمثله ويجسِّده ويتوسَّل به ويراه قائداً للأولياء، يقلدهم الولاية، يجتمع بهم؛ وفى معظم الملاحم والسِّيَر الشعبية يطل الخضر مُنْجداً أبطالها فى لحظات الضيق والمخاطر .
ولم تقف الآداب العالمية بمعزل عن الخضر فوظفه الأدباء فى شعرهم ونثرهم، وهذا مانراه فى الأدب التركى والفارسى والألمانى والهندى وفى أدبنا العربى على نحو ما سأوضحه لاحقاً.
وقد توقف النقد الأدبى أمام الخضر وحاول النقاد أن يسبروا أغوار هذه الشخصية، وأن ينـزعوا عنها ما أحاط بها من غموض وتداخل، فالخضر فى التراث الأدبى تحوَّل إلى معين لقصائد الشعراء يوظفونه فى رؤاهم، فغدا رمز الخلود، وتلامست شخصيات أخرى مع الخضر فى التراث النقدى، فجلجامش الباحث عن الخلود يتحول إلى أسطورة تنـزاح رؤاها فى التراث الإنسانى لتتجاوز حدود الشخصية لمناقشة قضايا الإنسان عبر عصور الزمن المختلفة؛ فيتماهى جلجامش فى شخصية الخضر، ويتشابه تموز مع الخضر، وفى عودة أوزيريس الذى "ساعده ملك الخلود" وجعله Thot ينتصر على أعدائه كما ورد فى كتاب الموتى، فتجمع زوجه إيزيس أشلاء جسده الممزق فيعود حياًّ مرة أخرى؛ ونشاهد التشابه بين الخضر و"نفركاه بتاح" ابن الفرعون الباحث عن الكتاب السحرى الذى كتبه الإله توت "ومن يتمكن من الحصول على هذا الكتاب ويقرأ أول حكمة فيه يستطيع أن يسلط سحره على السماء والأرض ...وأما من يتمكن من قراءة حكمته الثانية فإنه يستطيع أن يعود إلى الحياة الدنيا بعد مماته إلا أنه لا يستطيع الإقامة فيها"، ويترك نفركاه بتاح امرأته وابنه الوحيد بمدينة قفط باحثا عن الخلود فيدركه؛ نرى ظلال الخضر وملامحه فى ديونيسوس – زاغروس فى التراث اليونانى؛ وفى الإمام الغائب نلمح صفات الخضر أيضاً؛ وتتعدد الأسماء لكن للخلود صيغته الوحيدة.
نرى الخلط بين الخضر من جهة وبين إلياس من جهة أخري؛ وبينه وبينGeorge جورجيوس المقدس الذى ورد ذكره عند ابن الأثير والثعلبى وغيرهما ..كما نرى امتداد الخضر فى الربوع الإسلامية وغيرها؛ ترى ما الذى منح هذه الشخصية التى تلامس فيها الواقعى التاريخى بالمتخيل البقاءَ والتجدد فى الذاكرة الإنسانية؟ هل يعود ذلك إلى تداخل الثقافات؟ هذا الخلط جعل حسنى حداد يرى أن "بعل – هدد الأوغاريتى يتحول إلى نبى فى اليهودية [إيليا]،وإلى مقدس فى المسيحية[جورجيوس]،وإلى وليّ فى الإسلام[الخضر]"
وفى نص عثرت عليه لأبى منصور الثعالبى فى ثمار القلوب فى المضاف والمنسوب ينبئ عن مدى اشتداد النقاش حول الخضر؛"قال القاضى أبو الحسن على بن عبد العزيز: أما الخضر فالناس فى أمره فريقان: منكر ومكذب، ومقر ومصدق. ومعظم أهل الشرائع والنبوات يثبت عينه وإن اختلف فى نعته، وإنما ينكره خواص من متكلمى الإسلام ومتخصصى الملل؛ فأما عوام ملتنا والسواد الأعظم من أهل الكتابين والمجوس، فهم على افتراق المذاهب بهم فى اسمه وصفته، وفى زمانه ومدته، مطبقون على إثبات عبدٍ لله صالحٍ، حى على الدهر، ممدودٍ له فى الأجل، جوالٍ فى الأرض، مغيب الشخص عن الأبصار.وربما تجاوز جهال هذه الأمم إلى تثبيت أمورٍ هى أبعد من العقول، وأذهب فى طريق الاستحالة"
ولهذا النص أهميتان فهو يلقى الضوء على اشتداد الحوار بل الخلاف بين المصدقين والمنكرين لوجود الخضر فى عصر الثعالبى، ومن جهة أخرى يذكر الثعالبى أن عوام المسلمين و أهل الكتابين والمجوس يتفقون على وجود عبد صالح بينما يختلفون على اسمه وصفاته.
ولعل ما يؤكد مقولة الثعالبى ما كتبه أسيف حسين فى مقاله المعنون بـ" كاتارجاما أرض الخضر" يقول فيه"إن القليل من يعرف أن كاتاراجاما, مركز طائفة سكاندا بين الهندوسيّين و البوذيّين, لها مكانة فى القلوب المسلمة أيضًا .إذ لحقت القدسيّة بالمكان من قبل المسلمين المحلّيّين حول سكاندا, لكنّ كائنا غامضا يدعى الخضر أو الأخضر الذى يُعْتَقَد وجوده ومأواه هنا رُبِطَ مع خالير ماكام فى الحيّ المسلم كاتاراجاما غير البعيد عن مينيك جانجا بالطّبع, بل نجد من يعتقدون أنّه الخضر هو الذى تنسب له مسمىكاتاراجاما"
لقد طغى الخضر فى الشعر العربى والعالمى، فقد جمعتُ مئات الأبيات التى تناول أصحابها الخضر مستشهدين به معلما وهاديا أو مسقطين عليه رؤى معاصرة فى توظيف إبداعى متجدد؛ نراه عند مجنون ليلى والمتنبى والمعرى وابن حجر العسقلانى وابن نباتة المصرى والسراج الوراق والشاب الظريف وبهاء زهير والبوصيرى و صفى الدين الحلى وخضر القزوينى ومحمود سامى البارودى وغيرهم؛ كما ألفيته حاضرا عند الكتّاب كأبى حيان التوحيدى وأبى منصور الثعالبى والجاحظ وابن الجوزى وابن الأثير وأبى حاتم السجستانى والعماد الأصفهانى والميدانى والنويرى وابن خلكان وغيرهم، وقد رآه إخوان الصفا فى رسائلهم "عبدالله مولانا الخضر وأنه عليه السلام صاحب سر غَيب وكتمان.
لقد شغل الناس يقظة ومناما، فالناس يتوقون شوقا لرؤيته؛ ولكثرة من يحلم بمشاهدته ولو مناما فقد فسر ابن سيرين أنه «من رأى الخضر عليه السلام، دل على ظهور الخصب والسعة بعد الجدوبة، والأمن بعد الخوف» كما فسر ابن شاهين فى كتابه الإشارات فى علم العبارات أن "من رأى الخضر فإنه يسافر سفراً بعيداً بالسعة والأمان، وقيل من رأى الخضر فإنه يحج ويكون عمره طويلاً"
وقد تتبعتُ هذا الحضور اللافت فى الشعر والمعاجم والقصة والرواية والأدب الشعبي؛كما ألقى الخضر بظلاله على الفن فكم من اللوحات الفنية صورت الخضر ولقاءاته عبر مدارس الفن المختلفة، وقد صور الرسام الشعبى "النبيَّ الخضر على هيئة شيخ جليل تشع علامات الإيمان والتقوى من عينيه ووجهه، فى يده مسبحة، وحوله نوق، وزرع أخضر" وكم من المقامات والمزارات أقيمت شواهد على مروره هنا أو هناك وكم من المدن والقرى والجُزر سميت باسمه لرؤيته مارا بها أو مكتشفا لها، وقد يحدث الخلط كما فى مدينة الخضر برام الله التى يروون أنها " دعيت الخضر باسمها هذا نسبة إلى دير أقيم فيها تخليدا للقديس مار جرجس من أمراء القبادون الذى استشهد كما تقول الرواية النصرانية فى عام 303م وعيده فى أواخر شهر نيسان" وكأن هذا الخلط متعمد للتداخل والتعدد.لقد كان المفسرون يبحثون عن شخصية الخضر فى الأدب، حتى يفسروا النص القرآنى فلماذا لا نحلل أقوال المفسرين فى إطارها التحليلى البلاغى والنقدي؟
1-2 الخضر حضور إنساني
يمثل موضوع الخضر إشكالية فى عقلية الفكر الإنسانى إذ تطور تشكيل هذه الشخصية وقدرتها على الصيرورة والديمومة وتجاوز البيئات والفرق والأزمنة والاختلافات حول وجوده؛ َفى أى عصر كان؟ أهو كائن دوماً؟؛ وهل ما يزال حياً ومتى سيموت إن كان مايزال حيا؟ وما سبب خلوده وبقائه ؟ ومَن حظى بمقابلته ومن تعلّم على يديه ؟ وما درجته؛ أهو وليٌّ أم نبيٌّ أم رسول أم ملكٌ من الملائكة أم هو شيء لا يعرف كُنهه؟
لم يرد اسم الخضر فى القرآن الكريم؛ فكيف نفسر هذا التتبع والشغف بسيرة حياته منذ مولده وعلاقته مع أبيه وموقفه من النساء ورقّه، وأوصافه وبقائه أو عدم بقائه؟ "فالجمهور على أنه باق إلى اليوم"على نحو ما سنرى؛ هذا الجمهور هو الذى روى هذه الروايات حول سيرة حياته، فما أصولها ؟ إنها إنتاج الذاكرة الجمعية للشعوب. ولِم لا يعد الخضر نقطة بحث فى الأدب المقارن؟ ففى تركيا نجد سيارات الإسعاف عليها اسم "خزر" كما نجد Trabzon-Khidr-Festival الاحتفال بعيد الخضر فى مدينة ترابزون التركية و"لم يكن خزر إلياس التركى ذا شعبية عند الفلاحين فحسب بل فى الدوائر الرسمية العثمانية أيضا" لقد تناوله الأدباء الأتراك فى أشعارهم ونثرهم،وربما يعود لون الرايات الخضراء التى غدت رمزا للدين الإسلامى للخضر بما يوحيه من تجدد واخضرار ونمو وبقاء.وفى لون الخرقة الأخضر ما يوحى بارتباطها بالخضر ضمنا.
لقد وجدت المخيلة الشعبية الجمعية الباحثة عن الخلود والعلم ضالتها فى الخضر وأَلْفَت فيه البديل عن الفناء الذى يزعج الجموع فبحثت من خلاله عن خلودها المنشود المخبوء الذى تُسقط عليه همومها الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والسياسية وغيرها؟ كيف لنا أن نفسر انشغال المفسرين وعلماء الحديث وأصحاب الفِرق وعلماء الكلام والنقاد والشعراء والكتاب والفلاسفة والفنانين بالخضر؟
كيف تحوَّل الخضر إلى مصدر إلهام للأولياء ؟ ومصدر إبداع وكيف أدخل الخضر عامة الناس فى الإبداع فمنهم من يُقسم أنه رآه وأنه صاحَبه؛ لقد حوَّل الخضر المتلقى من قارئ سلبى إلى متلقٍ مبدع، وكيف وظفه الأدباء فى إبداعهم؟ ما مرجع الخلط بين الخضر وإيليا (إلياس) "عن طريق المقامات والأضرحة المنسوبة لهذا الاسم أو ذاك فى الوقت نفسه" وما مردّ الخلط بين الخضر وإلياس وجورجيوس "فما يزال مزار الخضر – جاورجيوس قائما على مقربة من البحر عند ميناء السويدية على مصب نهر العاصي" لقد تحول الخضر عبر البيئات والأزمنة إلى أخضار متعددة.
هذه الآراء والأسئلة آمل أن أجد لها أو لبعضها أجوبة فى هذا البحث. ولا يدخل الباحث فى شَرَك إثبات بقائه أو موته بل يهدف إلى إثبات حضوره الإبداعى ومن ثم النقدى وأثر هذه الروايات سوسيولوجيا ونقديا.
1-3 كارل يانج
سأتبع المنهج التاريخى الذى سيدلنى على تطور تكوين هذه الشخصية عبر القرون وصولاً إلى واقعنا المعاصر.
وتبعاً للمادة التى سأعثر عليها فإن المنهج التحليلى سيكون أوفر حظاً من غيره من المناهج النقدية الأخرى فى تحليل هذه الظاهرة فى التراث الأدبى والإبداع المعاصر.
كما أنى سأقفو خطى المفكر السويسرى Carl Gustav Jung (1875 – 1961) كارل جوستاف يانج الذى درس الأديان والحضارات وفق نظريته حول "التزامن" و"الـ لاشعور الجماعي" من خلال العقل الباطن الذى يفسر الظواهر المتشابهة للبشر من خلال الإرث المعرفى للبشر.
1-4 الدراسات السابقة:
لقى موضوع الخضر اهتمام المفسرين على نحو ما سأوضحه فيما بعد، كما لقى اهتمام الفقهاء والمؤلفين ولعلنا عندما ننظر فى أسماء الكتب التى وردت فى المصادر والمراجع نجد عناوين كتب أُلفت عن الخضر بيد أنها فُقدت أو لـمَّا تُكتشف بعد أو لم تحقق؛ فنظرة فى كشف الظنون تنبىء عن وجود ثلاثة عشر كتاباً عن الخضر؛ كعجالة المنتظر فى شرح حال الخضر لأبى الفرج عبدالرحمن بن الجوزى (ت597هـ) وكتاب "قصة الخضر عليه السلام" لشمس الدين محمد بن أحمد البساطى (ت 843) و"الزهر النضر فى أنباء الخضر" لشهاب الدين بن حجر العسقلانى (ت 852) و"الوجه النضر فى ترجيح نبوة الخضر" لجلال الدين عبدالرحمن السيوطى (ت911) و"رسالة الأولياء وحياة الخضر وإلياس" لعبدالأحد بن مصلح الدين النورى (ت 1061)و"القول الدال على حياة الخضر ووجود الأبدال" لنوح بن مصطفى الرومى (ت1070) وغيرهم كما ذكر الكتانى أن يحيى الشاوي"نظم جواباً فى إثبات حياة الخضر فى أبيات 36 فى درجين" والعجيب أن معظم هذه الكتب لم نرها حتى الآن، بيد أن هذه الكتب والأبواب التى تناثرت فى معظم كتب التراث تؤكد مدى حضور الخضر فى العقلية العربية والإسلامية وكيف شغل الخواص والعوام، وكيف احتلت موقعا مميزاً فى التراث العربى والإسلامي.
وقد وضع الشعرانى كتابه "الميزان الخضرية" وقد تحدث فيه عن تجربة شخصية مع الخضر عليه السلام، بعد أن تبحر الشعرانى لكن تشعبت المسائل عليه، وتناقضت الأجوبة "فتوجهتُ إلى الله تعالى، وسألته أن يجمعنى على أحد عنده علم ذلك، فمن الله تعالى على، وتفضل وأجاب على سؤالى، وجمعنى على سيدنا ومولانا أبى العباس الخضر عليه السلام، وذلك فى سنة إحدى وثلاثين وتسعمائة بسطح جامع الغمرى، حيث كنت ساكنا فيه، فشكوت إليه حالى، فقلت له: أريد أن تعلمنى يا نبى الله ميزاناً أجمع بها بين مذاهب المجتهدين ومقلديهم، وأردها كلها إلى الشريعة؛ فقال عليه الصلاة والسلام :ألق سمعك، وافتح عين قلبك،فقلتُ له :نعم، فقال:اعلم..." " وبدأ الخضر فى تعليم الشعرانى، وحَفِظ ما أملاه وفسّره فى كتابه هذا.
وقد ألّف أحمد بن عبدالعزيز الحصين رسالة أسماها"الخضر وآثاره بين الحقيقة والخرافة" وقد أوضح هدفه "بيان الخرافات التى يعتقدها العامة وبطلانها وخصوصا فى آثار الخضر" والكتاب يعتمد على الخطابة والنقل دون النقد والعقل، إذ حوّل الكتاب إلى سباب واتهامات "للمتربصين بالإسلام وأهله المنتحلين لعقائد أهل الزيغ والفساد الذين استمرأو[!] حياة الوهم والخرافة أدعياء التصوف الكاذب والكشف المزعوم أبوا إلا أن يجعلوا من شخصية الخضر عليه السلام شخصية أسطورية" ومضى"وما يشيعه بعض المتصوفة الجهلة إنما هو هواجس ووساوس" وقد ذكر أن الشيخ على القارئ ألف كتابا أسماه"كشف الخدر عن أمر الخضر؛ وهو مطبوع فى روسيا فى قازان سابقا"؛ وربما عنى كتاب"الحذَرُ فى أمر الخضر"لعلى بن سُلطان محمد القارى الهروي، وقد نُشر محققا.ويبدو أن الحصين لم يقرأ هذا الكتاب لأنه مبنى على الانتصار لحياة الخضر وتفنيد رأى من قال بموته.
وقد ذكر ابن القارى أن من البدع "اجتماع النساء وبعض السفهاء ولو فى صورة الفقهاء عند باب الحزورة وقيت صلاة المغرب فى أول ليلة سبت من ذى القعدة معتقدين أن أول من يخرج من المسجد الحرام حينئذ هو الخضر عليه السلام" وقد رد على ابن قيم الجوزية الذى ذهب إلى موته، وأوضح أنه حى لا خالد "إذ المخلد من لا يموت إلى الأبد، ولم يقل بهذا فى حقه أحد" كما ردّ على ابن تيمية الذى ذكر "لو كان الخضر حيا لوجب عليه أن يأتى النبى صلى الله عليه وسلم ويجاهد بين يديه ويتعلم منه؛ فقال ابن القاري:"هذا الكلام غريب من شيخ الإسلام" واستشهد بأويس القرني.وانتهى إلى أنه حى فى الخفاء يتشكل كيف يشاء.
وضع محمد رمضان يوسف كتاباً حول "الخضر بين الواقع والتهويل" وهو كتاب حاول مؤلفه أن يناقش قضية وجوده حياً أم ميتاً وبعد استقصاء خلص إلى حلٍّ وسط يرضى الطرفين "إن الخضر على ما هو عليه [أى يراه الناس فى كل عصر] فى عالم المثال لا فى عالم الحقيقة والواقع، ولعل هذا الرأى محاولة منه للتوفيق بين الأقوال" فمن رآه فقد رآه فى عالم المثال لا فى الحقيقة.ويبدو أن المؤلف – نفسه - لم يقتنع بما وصل إليه فأردف "أما موته فإن قامت عليه أدلة قطعية، فكل نفس ذائقة الموت، ومالم تقم تلك الأدلة فلا مانع عقلاً ولا نقلاً من أن تستمر حياته، لوجود أصناف من خلق الله كذلك" والكتاب لايتعرض لتوظيف الخضر فى الأدب ولا يقدم رؤية نقدية بل ركز على الوصول إلى أن الناس تراه فى عالم المثال ؛ أو على حد قوله "إن الحديث عن الخضر وحده دون غيره من الناس، وأنه باق إلى الآن ويلتقى بالناس، ربما كان له أساس من الصحة، فإن لم يكن حقيقة ففى عالم المثال" ولكن هذا لا ينفى أنى أفدتُ من هذا الكتاب.
وقد ظهر كتاب "كشف البيان عن حال الخضر أبى العباس عليه السلام"، جمعه واعتنى به الشيخ خضر العبيدي، قدم له الشيخ محمد عبد الله عيتاني،وقد ادّعى محمد رمضان يوسف أن هذا الكتاب مأخوذ من كتابه "الخضر بين الواقع والتهويل" ورد الثانى أنه جمَع كما جمَع .
وقد ألف محمود شلبى كتابا وسمه بـ"حياة الخضر" تحدث عن الخضر فى كتاب الله والأحاديث النبوية، ولم يدل برأى واكتفى بقوله"إذا تحدث الأكابر فليصمت الأصاغر أمثالي" لكنه أورد مسرحية فى نهاية كتابه تقرب القصص الدينى إلى عقول المعاصرين – على حد قوله- وهى مسرحية تعليمية لا بأس بها.
كما ألف الشيخ محمود على الرفاعى كتيّبا عن "قطب الأقطاب وعالم الزمان الخضر عليه السلام" دافع فيه عن بقائه وقال"وأعجب لمن يصدق بطول بقاء إبليس وينكر طول بقاء الخضر" وجمع بعض الأدعية التى وردت عن الخضر فى كتب التراث وبعض معاصريه كالشيخ أحمد رضوان
وقد ألف محمود المراكبى كتابه عن "موسى والخضر عليهما السلام؛ علمى الظاهر والباطن"وأوضح فى المقدمة أنه صوفى "خضتُ التجربة الصوفية كاملة غير منقوصة، فقد تلقيتُ الطريق وسلكت مقاماته السبع المعروفة؛ ثم كُلّفتُ برتبة مشيخة الطريق(...)ثم تلقيتُ الإذن بدعوة الخلق إلى طريق الحق ثم الإذن بترقية السالكين إلى مقام المشيخة" ثم حكى أنه يود نقل مشاهداته وعلمه فى مسألة الخضر فعقد فصلا عن أسطورة عين الحياة وانتهى إلى أنها "أسطورة لا يقبلها العقل والفطرة السليمة، وهى من جنس حكايات العجائز عن الغول والشاطر حسن" وهو رأى ندر أن نراه من صوفي. ثم تحدث عن لقاءات "مزعومة بين الخضر وإلياس" وأرجع الحكايات عن الخضر إلى الفرق الباطنية ، ونفى حياته وأن "من يدعى صحبة الخضر والاجتماع به فى اليقظة إما جاهل أو مبتدع فى الدين" لكنه وقع فى التناقض فهو من ناحية يرفض الروايات ولكنه ينتقى منها ما يشاء بانيا على انتقاءاته أحكاما، ثم إنه ناصب التصوف العداء، والتصوف عنده بوتقة واحدة، يحكم عليها أنه "تبين لى الشطط والغلو فى الفكر الصوفي" و"أن مزاعم الفرق الباطنية عن اجتماعهم بالخضر أو أخذهم عنه هى من جنس مزاعم الصوفية، وكلها من تلبيس إبليس"
والظاهر من الكتب التى ألفت أنها تدور فى رحى الخلاف على نبوته أو ولايته؛ وعلى الخلاف حول حياته أو مماته؛ وهما جوهر الخلاف بين المؤلفين؛لكن لم يتوقف أحدهم – على حد علمي- أمام الظاهرة نقدياً بعيدا عن نقطتيْ الخلاف المذكورتين آنفا، من هنا فإن الحاجة إلى دراسة هذه القضية من منطلق أدبى نقدى تبدو حاجة ملحة.
2- المستشرقون والخضر:
نظر معظم المستشرقين إلى الخضر على أنه أسطورة، ومن هذا المنطلق تعاملوا معه على اختلاف رؤاهم ومشاربهم.
2-1 . Wensinck والخضر:
فى EI دائرة المعارف الإسلامية الألمانية كتب A.J. Wensinck مقالاً حول الخضر بعنوان:
al-Khadir Sagen und Legenden von al-Khadir knuepfen in erster Linie an die koranische Erzaehlung Sura XVIII (18) 59-81
أوضح أن "الأساطير Legenden und Sagen عن الخضر ترتبط فى المقام الأول بالقصص القرآنى؛ و تعود (...) إلى ثلاثة مصادر : ملحمة جلجامش، رواية الإسكندر وإلى الأسطورة اليهودية حول إلياس و الـحَبر يهوشع بن ليفي.
ويتعلق المصدر الأَوّل بالثانى أما قصة السمكة فهى غير موجودة فى ملحمة جلجامش ولكنها موجودة فى رواية الإسكندر.
2-1-1 جلجامش والخضر:
هناك ربط كبير بين الخضر وجلجامش، ففى جلجامش : بسبب حزن البطل جلجامش على موت صديقه إِنجيدو سافر جلجامش إلى ملتقى نهرى Khasisatra und Xisouthros كى يلتقى بجده الأكبر Utnapishtim أُتنابشتيم الذى يسكن هناك والذى مُنح الخلود . يريد أن يسأله جلجامش عن سر النبات الذى يقهر الموت.ويلقاه فى العالم السماوي""السماء من فوقه تستند على جبلين، والعالم السفلى من ورائها يحرسه الإنسان الثعبان ...وأخيرا وصل إلى أُتنابشتيم فقص عليه قصة وصوله إلى الخلود، إنها قصة إذا كانت قد حدثت مرة فلن تحدث مرة أخرى ...ثم طلب منه أن يظل مستيقظا ستة أيام وست ليالٍ، وعجز جلجامش عن تنفيذ ذلك، إذ سرعان ما غلبه النوم، ولم يكن هناك مفر من أن يرجع خائبا...ثم ركب السفينة، وقد عزّ على زوجة أُتنابشتيم أن يرجع جلجامش هكذا خائبا، فطلبت من زوجها أن يمنحه شيئا يجعله سعيدا فى رحلته، وهنا يوقف سفينته متلهفا سماع كلمة أخرى منه، ويحكى له أُتنابشتيم قصة الأعشاب ...ويعثر فى أثناء سيره على الأعشاب، وهنا يثق جلجامش كل الثقة أنه قد حقق أمله، فيلقى الأعشاب جانبا حتى يرجع بها سعيدا إلى أوروك، وينـزل ليستحم فى نشوة من السعادة، وفى لحظة لم تكن فى حسبانه يفقد جلجامش الأعشاب وتنهمر الدموع من عينيه خائبا" وقد رأى الأفعى تلتهم آخر عشبة من أعشاب الخلود.
بين الخضر وجلجامش أوجه اتفاق واختلاف:
إن جلجامش يبحث عن الخلود بينما الخضر لا يبحث عنه لكنه وُهِبَه؛ وشتان بين الباحث والموهوب.
إن الخلود هبة وليس كسبا.
انطلاق جلجامش للبحث عن الخلود موقف نابع من تأثره بفقد صديقه إنجيدو وحتى يهب الخلود للمقاتلين معه؛ بينما الخضر لم يبحث ولم يمنح الخلود لغيره .
يبدو موقف Utnapishtim أُتنابِشتيم موقفا للمخلّد الذى لا يتكرر والخضر كذلك، ويلتقيان فى الحكمة، والاختبار والتعليم.
لم يوهب جلجامش الخلود وقد طلبه بينما أدركه الخضر دونما طلب.
2-1-2 رواية الإسكندر:
فى رواية الإسكندر: قصة السمكة - وهى التى تعنينا هنا لأن Wensinckاستند عليها كما مر بنا آنفا- التى تصور بحث الإسكندر عن عين الحياة تأتى بالتفصيل فى الأدب الآشورى وفى ملحمة الإسكندر التى يرويها لأمه ولأستاذه أرسطو عن سفره فى بحر الظلمات باحثا عن عين الحياة التى سمع بها؛ وبينما هم يسافرون فى مشقة عبر بلاد الظلام إذ بالطباخ أندرياس يغسل سمكة مملحة فى الماء فيفاجأ بأنها تحيا وتسبح بعيدا.فيسبح أندرياس وراءها ويصل بهذه الطريقة إلى الخلود بعدما شرب من النبع ولم يحك للإسكندر عن ذلك حتى رحلوا بعيدا . بعد ذلك يحكى للإسكندر عما حدث ويوقن الإسكندر أنه قد أدرك عين الخلود فيبحث عنها بيد أنه لم يجدها. ويعلق فينسينك على ذلك "هكذا يصل الطباخ المتشائم إلى الخلود وهو لا يستطيع أن ينتفع منه كما سينتفع منه الإسكندر [لو أدركه]"
ويحاول الإسكندر أن يقتل الطباخ ولكن هيهات لقد شرب من ماء الخلود. وتقارن نبيلة إبراهيم بين ملحمتى جلجامش والإسكندر وترى أن اتفاقا بينهما فى الخطوط العريضة "فالبطل يسعى للحصول على الخلود وبعد تجوال طويل يرجع فاشلا، فى حين يحصل عليه من لا يحلم به ولا يسعى إليه، ولكنه بعد أن يحصل عليه لا يسعد به، فقد قدر لطاهى الإسكندر أن يعيش فى قاع البحر مع الحيوانات المائية إلى الأبد، كما قدر لأوتنابشتيم أن يعيش حياته منعزلا عن الحياة الإنسانية التى كان يحياها"وهذا التقاء بين ملحمتيْ الإسكندر وجلجامش.
بين الخضر ورواية الإسكندر التى لم تترجم إلى العربية أوجه اختلاف أيضا:
الإسكندر يبحث عن الخلود مثل جلجامش بينما الخضر لا يبحث عنه
لا يدرك الإسكندر الخلود بينما يدركه طباخه إندرياس
إن إندرياس لا ينتفع بالخلود بينما ينفع الخضر الناس مرشدا ومنيرا ومنقذا.
تبدو هذه الرواية قريبة من قصة "الصعب ذى القرنين" رواية وهب بن منبه الذى رفع الحديث إلى على بن أبى طالب كرم الله وجهه – التى وردت فى كتاب التيجان فى ملوك حمير- حيث يحكى وهب أن ذا القرنين سار إلى بيت المقدس حتى يلقى النبى الخضر حتى يفسر له رؤى رآها لا يعرف تأويلها فالتقاه فى بيت المقدس، والرواية تجعل مسمى الخضر "موسى الخضر" ثم فسر له الخضر رؤاه وأمره بالسير نحو المغرب فسارا معا، وأخذ الخضر ينصحه ويعلّمه ؛حتى وصلا إلى الصخرة، فدنا منها ذو القرنين "ليرقى عليها، فانفضت وتقعقعت، فرجع عنها فسكنت ثم عاد إليها ثانية ، فانفضت وتقعقعت فرجع عنها فسكنت ثم عاد إليها ثالثة، فانفضت كذلك فرجع فسكنت، ثم دنا منها الخضر فسكنت فرقى عليها فلم يزل يرقى وذو القرنين ينظر إليه والخضر يطلع إلى السماء حتى غاب عنه فناداه منادٍ من قِبل السماء :ياموسى [الخضر] امض أمامك واشرب فإنها عين الحياة، وتطهر فإنك تعيش إلى يوم النفخ فى الصور، ويموت أهل السماء وأهل الأرض فتذوق الموت حتما مقضيا، فمضى حتى انتهى إلى رأس الصخرة فأصاب عينا ينـزل فيها ماء من السماء فشرب وتطهر(...) فقيل اشرب وارجع وبلّغ علمك، قال :فلما رجع الخضر عليه السلام إلى ذى القرنين قال له: يا ذا القرنين :إنى شربت من عين الحياة وتطهرت منها وأعطيت الحياة إلى يوم القيامة وأموت حتما مقضيا، ومُنِعْتَ أنت ذلك، ولك مدة تبلغها ثم تموت فارجع فليس بعد هذا مزيد لإنس ولا جن..."
أ.لو أخذنا بالرأى الذى يذهب إلى أن الصعب ذا القرنين هو الإسكندر الأكبر فالروايتان عن شخص واحد، وفى رواية وهب نجد أن ذا القرنين يتسبب فى إدراك الخضر عين الحياة بينما فى رواية الإسكندر لا نجد الخضر بل نجد الطاهى إلياس.
ب.يبدو خيال وهب ومن روى عنهم فى روايته خيالا إبداعيا خصبا يصلح أن يكوّن رواية بمقاييس الرواية العصرية.
ج.يبدو الخضر فى رواية وهب نبيا يوحى إليه.
د.ينبئ الخضر ذا القرنين بإدراكه عين الحياة بل يتركه يحاول ثلاث مرات بينما يخفى إندرياس فى الرواية عن الإسكندر هذا السر.
هـ. لايتخاصم ذو القرنين والخضر فى رواية وهب بل يسيران معا بعد ذلك حتى ينشرا الإيمان بين الأمم، بينما يحاول الإسكندر قتل إندرياس أكثر من مرة.
و.فى رواية وهب نجد نهاية ذى القرنين مذكورة "لما نزل ذو القرنين بالحنو حنو قراقر من أرض العراق مرض ثمانى ليال ثم مات ثم غاب الخضر فلم يظهر إلى أحد بعده إلا إلى موسى بن عمران عليه السلام، ودُفن ذو القرنين بحنو قراقر" وربما كان هذا مناقضاً للتاريخ.
ز.تاريخيا تبدو رواية وهب أقدم من رواية الإسكندر التى لم تكتشف إلا فى 1846م
2-1-3 الخضر والأسطورة اليهودية:
يرى Wensinck فينسينك أن المصدر الثالث للخضر هو الأسطورة اليهودية التى تحكى "كيف سافر الحبر يهوشع بن ليفى مع إلياس . واشترط إلياس عليه أشياء مشابهة لما اشترطها عبدالله[على موسى عليه السلام] فى القرآن. يقوم إلياس بأعمال شنيعة [ويأتي]رد فعل يهوشع عليها قريباً من رد فعل موسى فى القرآن"
التناقض موجود لديه فهو يذكر أن الأساطير تتصل فى المقام الأول بالقص القرآنى ثم يرجع هذه القصة إلى مصادر ثلاثية بعيدة عن القرآن لمجرد وقوع تشابه شكلى فى بعض أحداثها ولمجرد أنها وقعت فى تاريخ قبل نزول القرآن. وترجع نظرية تشابه القرآن مع هذه الأسطورة إلى Zunz زونز.
عندما أدركWensinck أن حججه واهية راح يتلمس أشياء مضحكة فيرجع رفيق السفر إلى رواية الإسكندر لأنه غير موجود فى ملحمة جلجامش؛ ويرجع مجمع البحرين إلى مصدر رابع شفهى مجهول له لأن هناك بحرا ومحيطا فى رواية الإسكندر ولا يوجد المثنى فى أى من المصادر. ويرجع الصخرة إلى مصدر شفهى مجهول أيضا .أما عبد الله فَيُذكِّره فى البداية بـ Utnapishtim-Khasisatra فى ملحمة جلجامش. ويرجع اختبار الصبر بشكل مؤكد إلى الأسطورة اليهودية.
يعترف Wensinck أنه لا توجد ترجمة عربية لرواية الإسكندر إنما توجد قصص مختلفة لأسطورة الإسكندر درسها Friedlaender ومنها نسخ غير محققة. وإذا كانت رواية الإسكندر غير مترجمة فكيف أخذها العامة والخاصة وبنوا عليها.
وقد تحول الخضر فى الهند تحت الاستعمار البريطانى إلى إله الأنهر تحت اسم خواجا خضر الذى يصوَر وهو جالس على ظهر سمكة؛ كما لدى بحارة نهر Indus وهو نهر ينبع من جبال الهمالايا ويمر شمال شرق البنجاب (بالهند وباكستان).وفى محاولة فينسينج لتفسير كلمة الخضر يسوق الأحاديث والمقولات التى ترجع أصل الكلمة إلى الاخضرار والإنبات وهناك مقولة "أنت الخضر حيثما تطأ قدماك تخضرّ الأرض" يعلق عليها أنها تكاد تكون مطابقة تماما لجملة غير مشهورة فى العهد القديم : زكريا 6/12
“Siehe (es kommt) ein Mann, dessen Name ist Spross; unter ihm wird es sprossen”
وترجمتها كما أوردها انظر: "سيأتى رجل اسمه برعم، سينبت (شيء) من تحته..." إلا أنى رجعتُ إلى العهد القديم بالعربية فوجدت النص كالتالى : "هو ذا الرجل الغصن اسمه ومن مكانه ينبت ويبنى هيكل الرب" (Faelschung: es statt Tempel) وشتان بين المعنيين؛ولا أدرى لماذا لجأ Wensinck إلى هذا؟
"وفى المنظور الصوفى فإن كل عصر له خضره حيث إن نقيب الأولياء يكون الخضر نفسه."
وفى بحث Karl Dyroff بعنوان Wer ist Chadir? مَن الخضر؟ يناقش بحث Lidzbarski حول Zu den arabischen Alexandergeschichten "نحو قصص الإسكندر العربية" وتساءل لدزبارسكى "لماذا مزج العرب بين الخضر وذى القرنين"؟ ولم يحدث هذا المزج بل التقيا فى بعض الروايات على نحو ما سيأتى لاحقا.
كما رأى "أن تشابه الأساطير حول الخضر وإلياس يجعلنا نرى أنهما شخص واحد هو الخضر"
والتراث الإسلامى واضح التفريق بينهما فإلياس نبى مرسل، وأما العبد الصالح فغيره؛ والخلط بينهما لا أساس له فى التراث الإسلامى، والتقاء الخضر وإلياس كل عام مشهور فى التراث مما يؤكد عدم الخلط بينهما.
2-2 Julia Gonnella والخضر:
ترى Julia Gonnella يوليا كونيلا فى كتابها Islamische Heiligenverehrung im urbanen Kontext am Beispiel von Aleppo (Syrien) "تقديس الأولياء المسلمين فى بيئة مدنية ممثلاً فى مدينة حلب بسوريا" أن "الارتباط (الخلط) بين الخضر والقديس جورج ربما يعود إلى زمن الحروب الصليبية عندما بلغ تقديس المسيحيين للقديس جورج أَوْجَه وربما نشأت طقوس تقديس الخضر كنوع من التنافس". إلا أن هذا الرأى خطأ لعدة أسباب:
(1) إن المفسرين الإسلاميين للقرآن قد ذكروا الخضر بكل إجلال وتقديس فى معرض تفسيرهم للقاء موسى مع العبد الصالح كما ورد فى سورة الكهف. بل إن كثيرا من الأحاديث النبوية حددت الخضر اسما مما يدل على السبق التاريخى فى تقديس الخضر قبل الحروب الصليبية التى لم تبدأ إلا فى 1096- 99 فى عهد البابا أوربان الثانى واستمرت حتى 1291. بينما كان العكس هو الصحيح إذ إن القديس جورج المتوفى فى 303 م لم يبدأ نسج الأساطير حوله إلا فى القرن الثانى عشر الميلادى أى فى أثناء الحروب الصليبية؛ حيث بدأت أسطورة قتل القديس جورج للتنّين وغدا "الحامى المقدس للمحارب وصانع الأسلحة"؛ أى أن تقديس جورج هو الذى صاحب الحروب الصليبية التى بحثت عن رمز دينى لإخفاء مطامعها فوجدت فى جورج ضالتها.بل إن القديس جورج مختلَف عليه بين الطوائف المسيحية ويرى بعض المسيحيين أنه أسطورة لكنهم لجأوا إليه حتى يكون رمزا حربيا وزراعيا.
لقد وجدتُ أن أقدم نص إسلامى يتحدثُ عن الخضر – خارج الأحاديث النبوية – يعود إلى كعب الأحبار (ت 32هـ = 652م) أى أن النصوص حول الخضر قبل الحروب الصليبية بخمسة قرون، ولكنه البناء على أساس خطأ.
(2)إنه ينبغى أن يفرق بين الضريح والمقام والمشهد والمزار؛ فالضريح بناء فوق قبر لميت مقدس؛ والـمقام كذلك حيث يعبر الناس عن موت الولى تأدباً ـ بـ : انتقل إلى جوار ربه، اصطفاه الله إليه،حُجب عن الأنظار، أقام فى جبانة ...، ومعنى ذلك أنه حى عند ربه قياساً على الشهداء،بينما يعبر عن ظهور الولى فى مكانٍ ما بالمزار لأنه زار هذا المكان أو يُزار فيه، ويعبر العامة فى صعيد مصر عن هذا المشهد بأفعال : علَّمَ؛ نوَّرَ دلالةً على أن هذا الشيخ الميت قد زار هذا المكان ورُؤى نوره فيه.من هنا أود أن أوضح نقطةً لها أهميتها القصوى وهى أن ما يُعد مقامات الخضر هو فى الحقيقة مزارات لأن الخضر حسب اعتقاد معظم الناس حى وبداهةً فإن وجود قبر له يقضى على بقائه ومن ثَم فلا داعى لتقديسه.
(3) إن الحضور القوى للخضر لدى الصوفيين يؤكده اتخاذهم الخضر رمزاً وقائداً منذ زمن طويل ويجعل الخضر ذا خصوصية قوية فى التراث الصوفى .
(4) من خلال ما تأكد لى من ورود الخضر فى الشعر العربى القديم عبر عصوره المختلفة والكتابات النثرية أيضا يستحيل أن يكون الخضر قد نشأ متأخراً فى العقلية العربية ولم يظهر إلا إبان الحروب الصليبية.
وفى محاولة Julia Gonnella لتفسير اسم الخضر ترجعه «لاخضرار جسده» ولا أدرى من أين جاءت بهذا الرأى؟
2-3 Goethe جوته وMelkonian مِلْكونيان و Franke فرانكه و Irfan Omar عرفان عمر والخضر:
احتل الخضر دور المرشد والمعلم ومانح الخلود عند الشاعر الألمانى جوته Goetheالذى قال فى ديوانه الشرقى الغربي"
"هناك، حيث الحب والشرب والغناء
سيعيدك ينبوع الخضر شابا من جديد
إلى هناك حيث الطهر والحق والصفاء
أود أن أقود الأجناس البشرية
حتى أنفذ بها إلى أعماق الأصل السحيق "
وربما أخذ جوته هذا المعنى من شاعره المفضل جلال الدين الرومى الذى نرى حضور الخضر فى مثنوياته وأشعاره حضورا قويا، ففى مثنوياته يتساءل الرومى عن طول الرحلة وحاجته إلى قائد وهو يعنى الخضر المرشد.و قد بنى جوته ديوانه الشرقى الغربى على رؤى روحية استمدها من الأشعار الصوفية التى بهرته وشكَّل منها رؤيته حيال الشرق، ومن يحلل تشكيل فاوست لدى جوته يدرك أن جوته كان متأثراً بقراءاته الإسلامية ولاسيما الخضر الذى وجد فيه ضالته نحو الخلود.
فى دائرة المعارف EI الإنجليزية يذكرV. Melkonian تحت al-Khadir «أنه توجد جزيرة تسمى جزيرة الخضر وهذا الاسم أُطلق على جزيرة عبدان من قِبل العرب لأنه يقال إن الخضر ظهر هناك . وحسب الرواية فقد ظهر رجل رث الثياب على شط قناة بهمانشير؛ وسأل المراكبى أن يعبر به المياه ولكن الرجل رفض.[وعند ذلك] أمر الرجل الغريب القارب أن يأتى إلى المكان الذى يقف عنده [فأتاه ] من الماء إلى الشط عاليا ثم اختفى. بنى أهل (مزارعى ) المنطقة حول القارب سورا من الصلصال وفى 905هـ/ 1501 رمّمه الأسطى جمعة.وفى 953/1546 بُنى مقام [تعلوه]قبة وعُلق القارب من الداخل ويزار المقام حتى اليوم».
يرى Patrick Franke أن الخضرder Grüne، يشترك مع المقدس جورج فى القصة التى تحكى عنهما فى سوريا ولبنان أنهما حررا البلاد من تنين شرير كان الناس يقدّمون له كل عام عذراء كقربان وهذا نقلا عن Friedlaender
ويستشهد «أن سليمان المرشد طلب من الخضر أن يدعو الله ألا يُدخل العلويين النار» أى يقوم بدور الشفيع أمام الله Fürsprecher, ein Patron der Alawiten والمرشدية هم أتباع موسى المرشد ثم ابنه ساجي، وهى طائفة سورية تغلو فى تقديس الخضر غلوا شديدا.
كتب Irfan Omar فى مجلة The Muslim World مقالا عن الخضر فى التراث الإسلامى عرض فيه لأسطورة الخضر –على حد قوله- ورأى أنه "إذا نظرنا نظرة حديثة إلى التاريخ فإن التاريخ الإسلامى يدور حول أساطير كثيرة، وأحداث تاريخية لايمكن أن يبرهن على وجودها [علميا] «ومضى متحدثا عن الخضر كأسطورة وأنه يدخل «فى التصوف الكلاسيكى تحت مصطلح الأبدال» وأنه «كائن ماوراء التاريخ بكونه أزليا» وأننا إذا أخذنا موقف علم النفس التحليلى فإننا نتكلم عن أنموذج، يبدو أنه يفقد حقيقته ويصبح جزءاً من الفكر «وخلص إلى أن قصة الخضر فى القرآن «تصور لنا تناقضات الحياة، وترمز بخاصة إلى التوازن الدقيق بين الصبر والإيمان» وأن من تناقضات الحياة «أن الخسارة الظاهرة ربما تكون فائدة حقا، والظلم الظاهر بإمكانه أن يكون رحمة حقا، والحكمة الإلهية تفوق كل الحسابات البشرية» وهو تحليل جاد وعميق.
2-4 الخضر بين Ruckert ريكرت والقزوينى؛ دراسة مقارنة:
من المستشرقين الألمان الذين فُتنوا بالخضر يأتى Goethe جوته وديوانه الشرقى الغربى، ويأتى الشاعر Johann Michael Friedrich Ruckert(1788 - 1866) فريدريش ريكرت فى قصيدته الرائعة "Chider التى ترجمتُها إلى العربية ويقول فيها:
خضر Chider
الخضر الشابُ الخالدُ قال:
مررتُ عبر إحدى المدن
كان رجل يقطف الفاكهة فى الحديقة
وسألتُ منذ متى توجد هذه المدينة؟
قال وهو ما يزال يقطف الفاكهة:
«هذه المدينة توجد فى هذا المكان منذ الأبد
وستبقى إلى الأبد»
ولكننى بعد خمسة قرون
مررتُ بالطريق ذاتها.
فلم أجد أثراً لهذى المدينة.
وكان هناك راع وحيدٌ ينفخُ فى المزمار
وكانت الأغنام ترعى العُشبَ والأوراق
وسألتُه: منذ متى اختفت هذه المدينة
قال وما يزال ينفخ فى مزماره:
شيء ينمو بينما يجف شيء آخر
هذا مرعاى الأزلي.
ولكننى بعد خمسة قرون
مررتُ بالطريق ذاتها
فوجدتُ بحراً ترتطم فيه الأمواج
وكان هناك صيادٌ يرمى الشبكة فى الماء
وعندما ارتاح من الرمى والشد
سألته: منذ متى يوجد هذا البحر
قال وضحك على كلماتي
منذ أن ترتطم الأمواج
ويصطاد الناس فى هذا الخليج
ولكننى بعد خمسة قرون
مررت بالطريق نفسها
وجدت غابةً ذات أشجار
وكان هناك رجل يقطن فى الغابة
وكان يقطع الشجرةَ بالفأس
وسألته منذ متى توجد هذه الغابة
قال: هذه الغابة هى الملجأ الأبدي
ومنذ الأزل وأنا أعيش فى هذا المكان
وستنمو الأشجار هنا إلى ما لا نهاية
ولكن بعد خمسة قرون
مررتُ بالطريق ذاتها
فوجدتُ مدينةً ذات ضوضاء
ضج السوق بأصوات شعبية عالية
وسألتُ منذ متى بُنيت هذه المدينة؟
أين الغابة والبحر والمزمار
صرخوا ولم يسمعوا كلماتي
هكذا كان الحال دائما فى هذا المكان
وسيظل هكذا إلى الأبد
ولكن بعد خمسة قرون
سأمرُّ بالطريق ذاتها!
فى قصيدة ريكرت السابقة نلمح تشبع الشاعر بالثقافة الإسلامية، ومعرفته العميقة بالتراث الإسلامى وهضمه ثم نظمه، وقد ركز الشاعر على الخضر الخالد وديمومة الحياة فى رؤى فلسفية تجاه الوجود المتغير ذى الحقيقة الواحدة.
وقد وجدتُ نصا للقزوينى (ت 682هـ) فى «عجائب المخلوقات» يكاد يكون النص الذى اتكأ عليه Friedrich Ruckert ريكرت فى قصيدته السابقة.
قال القزوينى: «ولنختم هذا الفصل بحكاية عجيبة وهى ما روى أنه كان من بنى إسرائيل شاب عابد وكان الخضر عليه السلام يأتيه، فسمع بذلك ملك زمانه فأحضره بين يديه وقال: إذا جاءك الخضر فائتنى به وإلا قتلتك، فقال الشاب : ويحك آتيك بالخضر ؟ قال : نعم وإلا قتلتك، فرجع الشاب إلى مكانه متفكراً فى أمره حتى جاءه الخضر عليه السلام فحدثه بحديث الملك فقال امض بى إليه، فلما دخلا على الملك قال له الملك: أنت الخضر؟ قال نعم قال حدثنى بأعجب شيء رأيته، فقال الخضر عليه السلام:رأيت كثيراً من عجائب الدنيا وأحدثك بما حضرنى الآن. كنت فى اجتيازى مررت بمدينة كثيرة الأهل والعمارة سألت رجلاً من أهلها : متى بنيت هذه المدينة؟ فقال هذه مدينة عظيمة ما عرفنا مدة بنائها نحن ولا آباؤنا؛ ثم اجتزت بها بعد خمسائة سنة فلم أر للمدينة أثراً، ورأيت هناك رجلاً يجمع العشب، فسألته متى خربت هذه المدينة؟ فقال لم تزل هذه الأرض كذلك، فقلت أما كانت ها هنا مدينة؟ فقال ما رأينا هنا مدينة ولا سمعنا عن آبائنا. ثم مررت بها بعد خمسمائة عام فوجدت بها بحراً فلقيت هناك جمعا من الصيادين فسألتهم متى صارت هذه الأرضُ بحراً؟ فقالوا مثلك يَسأل عن هذا؟ إنها لم تزل كذلك، قلت أما كان قبل ذلك يبسا؟ قالوا ما رأينا ولا سمعنا به عن آبائنا. ثم اجتزت بعد خمسمائة عام وقد يبست فلقيت بها شخصاً يختلى؛ فقلت متى صارت هذه الأرض يبساً؟ فقال لم تزل كذلك، فقلت له أما كان بحرا قبل هذا؟ فقال ما رأيناه ولا سمعنا به قبل هذا. ثم مررت بها بعد خمسمائة عام فوجدتها مدينة كثيرة الأهل والعمارة أحسن مما رأيتُها أولا، فسألت بعض أهلها : متى بُنيت هذه المدينة؟ فقال إنها عمارة قديمة ما عرفنا مدة بنائها نحن ولا آباؤنا، فقال الملك إنى أريد أن أتبعك وأفارق مُلكي. فقال له : إنك لا تقدر على ذلك؛ ولكن اتبع هذا الشاب فإنه يدلك على الرشاد، والله الموفق للصواب».
فالقصيدة والقصة العجيبة يتناصان فى سياق واضح ، وقد أرجع النويرى (ت 733ه=1333م)القصة إلى مدينة دمشق فقد حكى النويرى «وقيل: كان زمن معاوية رجل صالح بدمشق، كان الخضر عليه السلام يأتيه فى أوقات، فبلغ ذلك معاوية، فجاء إلى الرجل وسأله أن يجمع بينه وبين الخضر، فذكر الرجل ذلك للخضر،فأبى؛ فقال معاوية:قل له: قد قعدنا مع من هو خير منك؛ وحدثناه، وهو محمد صلى الله عليه وسلم لكن اسأله عن ابتداء بناء دمشق كيف كان، فسأله؛ فقال: نعم صرت إليها، فرأيت موضعها...» وقد ألفيت القصة كاملة – مع اختلاف بسيط- عند الأبشيهى 852هـ=1448م) فى «المستطرف فى كل فن مستظرف»
وإذا توقفنا نقديا مقارنين بين هذه المصادر الأربعة وجدنا ترتيبها التاريخى على النحو التالي:القزوينى فالنويرى فالأبشيهى ثم يأتى حديثا ريكرت؛ ومن الواضح أن الأبشيهى قرأ ما كتبه القزوينى لأنه فى كتابه المستطرف نقل عنه فى أكثر من موضع، وفى رواية الأبشيهى زيادة؛ بينما فى رواية النويرى نقص قياسا إلى رواية القزويني.
بين الروايات اتفاق فى الفترة الزمنية التى يزور فيها الخضر المكان نفسه؛إذ يأتى كل خمسمائة عام، كما أن بينها اتفاقا آخر فى أن الخضر هو الراوى؛ كما أن الروايات العربية باستثناء رواية الأبشيهى تكاد تجمع على أن الملك هو الذى طلب أن يسمع من الخضر عن أعجب ما رآه فى حين لا يذكر ريكرت هذا الملك قط؛ ويلتقى القزوينى مع النويرى فى الشاب العابد أو الرجل الصالح الذى يلتقى الخضر، لكن النويرى يوجه الرواية إلى مدينة دمشق وإلى معاوية الذى يرفض الخضر لقاءه لأسباب لايذكرها النص.
تبدو لغة القزوينى ولغة النويرى أبلغ من لغة الأبشيهى، ويبدو أن ريكرت قد اتكأ على رواية الأبشيهى للأسباب التالية:
أولا:بداية ما رآه الخضر مدينة فى روايات القزوينى والأبشيهى وريكرت؛ فى حين أن بداية رواية النويرى بحر.
ثانيا: ما يراه الخضر فى رواية
القزوينى النويرى الأبشيهى Ruckert
مدينة بحر مدينة مدينة لا مدينة (خراب)غيضة أطلال مدينة لا أثر للمدينة
بحر بحر بحر بحر
يبَس مدينة دمشق غيضة غابة
مدينة عامرة
-مدينة كالأولى
مدينة عامرة
-أطلال مدينة تدخن
ما يراه الخضر فى رواية الأبشيهى يكاد يكون مطابقا لما يراه فى قصيدة ريكرت؛ وتنفرد رواية الأبشيهى بنهاية العدم بينما تنتهى الروايات الأخرى بالمدينة العامرة وربما كان مقصد الأبشيهى فى العظة والاعتبار دافعا له لاختيار هذه النهاية؛ ولذا عقب على النهاية بقوله : «فسبحان مُبيد العباد ومُفنى البلاد ووارث الأرض ومن عليها وباعث من خلق منها بعد رده إليها».
الفترة الزمنية فى سياحة الخضر مختلفة فهى عند القزوينى و Ruckert ألفا عام وعند النويرى ألف وخمسمائة عام بينما امتدت فى رواية الأبشيهى إلى ألفين وخمسمائة عام.
حدث اختلاف بين الشخص المسئول من قِبل الخضر عما حدث لكن جميعهم جاهلون بما يحدث من تغير، وتلك نظرة فلسفية فى جهل الإنسان بحقيقة التغير الذى يراه ثباتا وهو ليس كذلك.
وجاء المسئول فى الروايات على النحو التالي:
القزويني النويري الأبشيهي
Ruckert
رجل بالمدينة - بعض أهل المدينة رجل يقطف الفاكهة
جامع عشب بالطلل - راع بالأطلال راع وحيد يعزف بالمزمار
صياد بالبحر العميق- غواص بالبحر العميق صياد يرمى الشبكة فى البحر
رجل يختلى باليبس - صيادون بالغيضة حطاب الغابة يجمع الخشب
بعض سكان المدينة بعض سكان المدينة. الحال «لا أحد يسمع سؤالي» لكثرة ضوضاء المدينة
راع بمدينة محطمة
عندما نوازن بين الروايات العربية ونقارنها بقصيدة Ruckertنجد أن رواية النويرى حذفت السؤال والمسئول مكتفية بمشاهدات الخضر، وتفردت قصيدة Ruckert بحركة أفعال الشخوص الذين يسألهم الخضر : يقطف، يعزف، يرمى الشبكة، حطاب يجمع الحطب وهنا ينتصر للحياة وديمومتها ومن أجل ذلك يسقط Ruckert فى سؤاله الأخير السؤال عن المدينة الخربة التى غدت طللا، إنه لا يعنى بالعدم، إنه معنى بالوجود؛ بينما ينتصر الأبشيهى للعدم والفناء؛ والمجيب عن السؤال فى القصيدة يبدو غير مهتم بالأسئلة فالرجل يجيب وهو يقطف الفاكهة والراعى يجيب وهو يعزف والصياد يجيب وهو يرمى الشباك والحطاب يجيب وهو يحتطب وأهل المدينة لم يسمعوا السؤال فى الأصل بل لا يرغبون فى الأسئلة؛ وهذا ما أشار إليه القزوينى فى موضع واحد عندما سأل الخضر الصيادين عن المدينة؛ «فقالوا مثلك يَسأل عن هذا؟!» وقد ترك Ruckert السؤال العبثى الأخير دونما إجابة :
"وسألتُ منذ متى بُنيت هذه المدينة؟
أين الغابة والبحر والمزمار
صرخوا ولم يسمعوا كلماتي"
فلا مجيب فى الحياة لأسئلة لا يشغل الإنسان بالبحث عن إجابة لها وإذا شُغل بعض الناس بأسئلة من هذا النوع تبدو أسئلة ترف وتبدو غير منطقية لأن منطقها الفلسفى يبدأ بسؤال لا يجاب، ويؤكد Ruckert أن الجميع مشغولون عنه بالحياة، وأن الحياة تلبس أثوابها المتغيرة لكن كُنهها لا يتغير.
"هكذا كان الحال دائما فى هذا المكان
وسيظل هكذا إلى الأبد
ولكن بعد خمسة قرون
سأمرُّ بالطريق ذاتها!"
ويقرر Ruckert على لسان الخضر أنه سيجيء بعد خمسة قرون أخرى ليترك المتلقى يتخيل ما سيراه، طارحا سؤال زمنية الأبد اللامحدود، إنه امتداد لا تعرف نهايته، وإن كانت نهايته محتومة.
وقد أصرّ ريكرت على أن يؤكد أن للأبد وللأزل تعريفات كثيرة :
قال وهو ما يزال يقطف الفاكهة:
«هذه المدينة توجد فى هذا المكان منذ الأبد
وستبقى إلى الأبد»
وقال راع وحيد وهو ينفخُ فى المزمار والأغنام ترعى العُشبَ والأوراق
شيء ينمو بينما يجف شيء آخر
هذا مرعاى الأزلي.
وأجاب صياد عندما ارتاح من الرمى والشد
منذ أن ترتطم الأمواج
ويصطاد الناس فى هذا الخليج
بينما حاول رجل يقطن الغابة أن يفلسف له الإجابة:
قال: هذه الغابة هى الملجأ الأبدي
ومنذ الأزل وأنا أعيش فى هذا المكان
وستنمو الأشجار هنا إلى ما لا نهاية
ولم يعثر الخضر على مجيب أسئلته فى مدينة مزدحمة بالسكان
صرخوا ولم يسمعوا كلماتي
هكذا كان الحال دائما فى هذا المكان
وسيظل هكذا إلى الأبد
وهنا تبدو قصيدة Ruckert قصيدة فلسفية يعتمد فيها على التراث العربى والإسلامى الذى يعرفه Ruckert، حق المعرفة، فالتأثير والتأثر واضح؛ وقد لقيت هذه القصيدة شهرة واسعة وعدت من دُرر القصائد الألمانية.
وقد كان لهذه القصيدة دور فى انتباه الألمان نحو شخصية الخضر وتوظيفها فى الأدب والمسرح الألماني.
إنه الخضر الذى يجتاز الأماكن والبلدان والقارات والأزمنة ليظل وجوده باقيا فى الإبداع الإنساني.