من قصص القرآن.. «قصة مريم» أول بداية لقانون «من أين لك هذا؟»

الشيخ الشعراوي
الشيخ الشعراوي

يقول الحق: "وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مَرْيَمَ".. قصة مريم فى واقع الأمر كانت قبل قصة زكريا ويحيى؛ لأن طلب زكريا للولد جاء نتيجة لما سمعه من مريم حين سألها عن طعام عندها لم يأْتِ به، وهو كافلها ومُتولّى أمرها، فتعجب أنْ يرى عندها رِزْقًا لم يحمله إليها، وهى مقيمة على عبادتها فى محرابها، فقال لها: "يا مريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ" {آل عمران: 37}.

وكأن هذا أول بداية قانون: من أين لك هذا؟ لكن عطاءه تعالى لا يخضع للأسباب، بل هو سبحانه يرزق مَنْ يشاء متى شاء وبغير حساب. وشاءتْ إرادة الله أن تنطِقَ مريم بهذه المقولة: "إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ" {آل عمران: 37} لأنها ستُنبِّه زكريا إلى شيء، وستحتاجها أيضًا مريم فيما بعد حينما تشعر بالحَمْل من غير زَوْج، فلن تعترض على هذا الوضع، وستعلم أنه عطاءٌ من الله.

وكذلك نبَّهتْ هذه الآية زكريا عليه السلام إلى فَضْل الله وسِعَة رحمته، وهذا أمر لا يغيب عن نبى الله، ولكن هناك قضايا فى النفس البشرية إلا أنها بعيدة عن بُؤْرة الشعور وبعيدة عن الاهتمام، فإذا ما ذُكِّر بها انتبه إليها؛ لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: "هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ" {آل عمران: 38}. فما دام أن الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب، فلماذا لا أدعو الله بولد صالح يحمل أمر الدعوة من بعدي، وطالما أن الرزق بغير حساب فلن يمعنه كِبَر السِّنِّ أو العُقْم أو خلافه.

إذن: فمريم هى التى أوحَتْ لزكريا بهذا الدعاء، واستجاب الله لزكريا ورزقه يحيى؛ ليكون ذلك مقدمة وتمهيدًا لمريم، فلا تنزعج من حَمْلها، وتردّ هذه المسألة إلى أن الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب، وليكون ذلك إيناسًا لنفسها واطمئنانًا، وإلاَّ فمن الممكن أن تلعبَ بها الظنون وتنتابها الشكوك، وتتصور أن هذا الحمْل نتيجة شيء حدث لم تشعر به، أو كانت نائمة مثلًا.

لكن الحق تبارك وتعالى يقطع عنها كل هذه الشكوك، ويعطيها مقدمة تراها وتعايشها بنفسها فى طعام لم يَأْتِ به أحد إليها، وفى حَمْل زوجة زكريا وهى عاقر لا تلِد.

قوله تعالى: "واذكر فِى الكتاب مَرْيَمَ" (مريم: 16) الكتاب هو القرآن الكريم، أي: اذكُر يا محمد فى كتاب الله الذى أوحاه إليك مما تذكر قصة مريم، وقد سبق الحديث عن هذه القصة فى سورة (آل عمران) لما تكلم الحق سبحانه وتعالى عن نَذْر أمها لما فى بطنها لخدمة بيت المقدس، ولم يكن يصلح لخدمة بيت المقدس إلا الذكْران الذين يتحمَّلون مشقة هذا العمل، فلما وضعْتها أنثى لم يوافق ظنّها إرادة الله، ولم تستطع مريم خدمة البيت مكانًا أفرغتْ نفسها لخدمته قِيمًا، ودينًا حملتْ نفسها عليه حَمْلًا، حتى إنها هجرتْ أهلها وذهبت إلى هذا المكان الذى اتخذته خُلْوة لها لعبادة الله بعيدًا عن أعيُنِ الناس.