مصر في عشر سنوات.. ما الذي تغير؟

طارق عبيد
طارق عبيد

مرت مصر والمنطقة بعشرة سنوات عصيبة تغيرت فيها مفاهيم كثيرة، سقطت دول في فخ الفوضى بلا رجعة واخرى لازالت تحاول النجاة، سقطت اقنعة واساطير دينية وسياسية صنعها وعي زائف و دولة عاشت جل عمرها مرتبكة.تلك التحولات الجذرية تتطلب مننا لحظة توقف وتبين نقدم فيها ما يشبة التقدير الاستراتيجي لوضعنا الحالي ، نحاول تلمس مسار عقلاني في فهم سنوات المنطقة العجاف.

- الموقف الاستراتيجي للدولة ، كيف كنا وكيف اصبحنا:

في صبيحة الثاني عشر من فبراير 2011، كانت مصر على موعد عصيب مع لحظة تاريخية من لحظات الانكشاف والحقيقة، مصر اقدم بلاد العالم وصاحبة الحضارة الاعظم في تاريخ البشر انهكتها الايام وتمكن منها الاهمال فتحولت  الى شبه دولة بمفهوم العلوم السياسية.

عسكريا: قبل 2011حافظ الجيش المصري على قوامه وقدراته بالحد الذي يحفظ الدولة لكنه افتقد الى التطويرالاستباقي لمواجهة تطور العدائيات في الاقليم و اتساع دواير الامن القومي من حدود ايران في الخليج العربي الى وسط افريقيا حيث منابع النيل، تباطىء تحديث القوات المسلحة كما تباطىء وترهل كل شيئ في الدولة. تقادم سلاح الغواصات وتخلف عن مجاراة المنافسين الاقليميين في المنطقة (اسرائيل وتركيا ) واكتفينا بطراز قديم منذ منتصف الخمسينات.

سلاج الجو لم يكن احسن حظا في ظل الاعتماد على طرازات قديمة غيرقادرة على التعاطي مع اتساع نطاق العدائيات في الاقليم. منذ 2013 حدثت نقلة نوعية في تحديث القوات المسلحة بشكل يفوق تقديرات اكثر المتفائلين، خضعت كل افرع القوات المسلحة لتطوير جذري وخاصة في سلاح البحرية والقوات الجوية مكنت  مصرمن امتلاك الادوات لفرض سياستها في الاقليم، حسمت ملفات الغاز في حماية غواصات ال Type 209الحديثة وفرقاطات الفريم والجويند، وصنعت خطا احمر للجميع في ليبيا تحت مظلة الرافال والميج 29.

اصبحت قادرة لاول مرة على الوصول لأبعد نقطة في دايرة الأمن القومي. لما امتلكنا تلك الادوات العسكرية اعتدلت موازين الاقليم المائلة وطبقنا مبدأ ان قوتك الدبلوماسية يصنعها اقصى مدى تصل اليه مدافعك.

اقليميا: في اخر عشر سنوات من حكم الرئيس الاسبق مبارك انسحبت مصر من كافة الملفات الاقليمية لصالح قوى اقليمية اخرى مثل تركيا وايران وحتى قطر من خلال نفوذها المالي والاعلامي.

تولت قطر تغيير المعادلة الفلسطينية بدعم حماس والقوى الراديكالية ماليا ووفرت تركيا الدعم اللوجيستي والسياسي والايدولوجي لتلك الجماعات وخلقت لها نقاط ارتكاز داخل بلادنا في ظل حالة من الجمود السياسي والاعلامي  المصري تصل لحالة الشلل فتغيرت المعادلات واصبحت تركيا وقطر قبلتا التغيير والحركة في المنطقة  و تمددت ايران فسيطرت على القرار السياسي السوري واللبناني بشكل تام. كان الربيع العربي اعلان صريح عن  سيطرة تلك القوى الاقليمية على المنطقة التي حصدت ثمرة تراجعنا وملأت الفراغ الاستراتيجي الذي تسببنا فيه بحالة الترهل والانكفاء،اصبح القرار المصري والليبي والتونسي والسوداني وباقي الدول السنية يصدر من اسطنبول ويعلن عنه في الدوحة، فيما خضعت الدول ذات الطابع الشيعي في البحرين وسوريا ولبنان واليمن للقرار الايراني. 

منذ 2013 انتهجت مصر سياسة مغايرة وقررت العودة لممارسة دورها الاقليمي المستحق بحكم قواعد الجغرافيا وشواهد التاريخ، دخلت مصر في حلف عربي يمثل الاعتدال والدولة الوطنية مع المملكة العربية السعودية و الامارات في مواجهة النفوذ التركي والايراني في المنطقة ، حقق هذا الحلف نجاح في وقف التمدد الاقليمي لتلك الدول و تحول من حالة الدفاع لحالة الهجوم لكن لازال هذا الحلف يحتاج الكثير من العمل من اجل صياغة آلية مستديمة للعمل المشترك على المستوى الاستراتيجي.

اكملت مصر عملية التمدد بالدخول في حلف شرق متوسطي مع كل من اليونان وقبرص استطاعت من خلالة صياغة معادلات جديدة للقوة والطاقة في شرق المتوسط وحاصرت النفوذ التركى الذي كان يعتبر المتوسط ساحتة ونقطة نفوذة الاكبر بالسيطرة على طرق انتاج وامداد الطاقة لاوروبا.رسمت مصر حدودها البحرية و اصبحت من منتجي الغاز واقامت منتدى غاز شرق المتوسط جمعت فيه المنتجين الاقليميين  واصبحت مركز لتجميع الغاز وتسييلة اقليميا ، صفعة استراتيجية لتركيا لازالت تبحث لها عن رد مرة بالسياسة من خلال محاولة جذب مصر بعيدا عن محور شرق المتوسط او بالقوة من خلال ارباك الملف الليبي للضغط على مصر، لكنها فشلت الى الان في تغيير الموقف الاستراتيجي المحمي بقوة القانون الدولي و اتساع النفوذ المصري في ليبيا و المتومسط.

في ملف المياة، اكثر الملفات تعقيدا اتبعت مصر سياسات متوازية بدأتها بالتوسع في انشاء محطات التحلية والمعالجة العملاقة ثم الدخول في مفاوضات ماراثونية مع الجانب الاثيوبي المتعنت والموقف السوداني الداعم له في فترة حكم البشير واتبعت سياسة التمدد افريقيا لمحاصرة صانع القرار الاثيوبي وداعميه اقامت منتديات التنمية الافريقية و دخلت في مشروعات تنموية في تنزنيا وجنوب السودان وباقي دول حوض النيل في ظل عملية اعادة تموضع كاملة افريقيا.

ثم استفادت من تغير النظام في السودان ودخلت في شراكة استراتيجية وامنية و قدمت دعم لوجيستي واستخباراتي عظيم للجانب السوداني مكنهم من التعامل مع ازمات الفترة الانتقالية باقل الخسائر وانعكس هذا الدعم على مفاوضات سد النهضة فتحول الموقف السوداني جذريا متوافقا مع الموقف المصري العادل .كل هذا التحرك الاقليمي والدولي لملف المياة محمي بيد عسكرية مصرية طويلة تستطيع تغيير الوضع اذا اقتضت الضرورة.

دوليا، حافظت مصر على علاقات متوازنة مع القوى الدولية رغم التناقضات الرهيبة في سياسات تلك القوى،شراكة مع الولايات المتحدة و الاتحاد الاوروبي في ملفات المنطقة والطاقة ثم شراكة مماثلة مع روسيا في مجالات التسليح والملف الليبي والسوري و علاقات متزنة مع الصين كبوابة لافريقيا.

الوضع الداخلي:

الترهل الذي اصاب الدولة المصرية قبل 2011 ضرب الجبهة الداخلية في مقتل على كل المستويات.

اقتصاديا تركز المال في يد مجموعة من رجال السلطة واصبحت البلد منقسمة على نفسها بين دولة رجال الاعمال والمحاسيب وبين دولة موازية تدير انشطتها ومصالحها بعيدا عن الدولة ودعم عشوائي لا يصل لمستحقية، هذا الوضع المرتبك تسبب في كوارث قومية، طالت العشوائيات كل الاماكن وتضررت البنية التحتية و غاب القانون وغابت معه قواعد البيانات الحاكمة والمنظمة لحركة الناس  فتحولنا لشبة دولة تسير بلا عقل ولا قانون و لا مستقبل.

في ظل هذا الوضع الكارثي كان لابد من تدخل جراحي يزيل تلك الاورام السرطانية التي لحقت بجسد الدولة المنهك.قررت دولة 30 يونيو اصلاح جذري عن طريق خطوات اهمها  تحرير سعر الصرف ووقف الهدر الناتج عن دعم العملة الاجنبية ثم معالجة التشوه في سياسات الدعم واعادة توجيهه لمستحقية ، والاهم هو معالجة البناء الطبقي الوهمي الذي نشأ في اخرسنوات حكم الرئيس مبارك. هذا التشوه الناتج عن التقييم الطبقي الخاطىء فلا يمكن تحديد المكون الطبقي الا بعد تحييد عملية الدعم و حساب التكلفة الفعلية للخدمات، بعدها يتم تسكين كل فرد في طبقته الحقيقة و ليس الطبقة المتوهمة.رغم قسوة تلك العملية على معظم فئات المجتمع الا انها عملية حتمية اذا ارادنا ان نكون دولة وليس شبه دولة. اعادة اصلاح البنية التحتية والتمدد خارج الوادي الضيق بمدن وطرق جديدة اعادت ربط البلاد ببعضها وتفعيل مبادرات صحية لتعويض خلل النظام الصحي المتهالك،مثل مبدرة فيروس سي وغيرها من المبادرات.

لكن المأخذ ان هذا التحول لم يقابلة تحول على الارض او على الاقل لم يسير بنفس معدل الاصلاح، استمرت فوضى الشارع و واستمر انهاك المواطن في انهاء معاملاته الحكومية ثم الاهم والاخطر غياب عدالة القانون في كثير من المواقف والازمات.استمر غياب الدولة اجتماعيا فلا دور لمراكز البحوث في رصد التحولات التي طرأت على المجتمع نتيجة الصدمات السياسية والامنية والاقتصادية بعد ثورتين ، التعاطي البطيء في ملف اصلاح و تغيير الخطاب الديني و انهاء وصاية المؤسسات الدينية على صناعة القرار. كل هذا مع فشل اعلامي مرعب ترك الساحة خالية للخصوم و اربك وعي الناس و فاقم في اوقات  كثيرة من الازمات وكان عبىء على الدولة والنظام السياسي.

النظام السياسي:

رغم المجهود الذي يقوم بيه الرئيس السيسي في اعادة ترتيب الدولة المصرية الا اننا لازلنا في المربع صفر في ملف الاصلاح السياسي، لم يتم بناء نخبة وطنية تشكل واجهه مرنة للنظام السياسي وتحرك المياة الراكدة، ولم يتم دعم معارضة وطنية وتقويتها حتى نغلق كافة الابواب في وجه المعارضة المهندسة مخابراتيا في  السفارات الاجنبية.نحتاج حركة سياسية تواكب التطور في ملفات الاقتصاد والامن، نحتاج الانصات لاصوات مختلفة تفرغ طاقتها في النقد السياسي داخل اروقة الدولة الشرعية. نحتاج بناء سياسي قوي يملك المرونة والمناورة في التعاطي مع ازمات الدولة ويكون بمثابة حبل سري بين الشارع والنظام السياسي.

أثق ان تجربتنا  التنموية التي اصبحت مضرب للامثال  سوف تكتمل بعد ان تستقر الاوضاع في المنطقة ويتراجع خطر المتربصين، بتجربة ديمقراطية تسمح لنا بصيانة العمران و استدامة التنمية لتقود مصر المنطقة كما كانت دائما. ومصر دائما من وراء القصد

 

 
 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي

 
 

 
 
 

ترشيحاتنا