يوميات الأخبار

الحب فى زمن الكورونا

زكريا عبدالجواد
زكريا عبدالجواد

صدقيني.. لم يكن فى نيتى أن أكتب عنك والعالم ينتظر الموت بسبب كورونا الذى قال عنه صديقى الطبيب إنه يفتك بالرئتين, ولكنه أكد أن هذا الفيروس لا يختص بما فى ذات الصدور من مشاعر وقصص عشق, تحيا فينا وربما نموت بها.
بعد كل هذا الوقت الطويل لازلتِ بنفس البريق, لم تستطع السنون أن تسلب شيئًا من رقة ابتسامتك, ولازالت أسنانك مصطفة بذات الجمال, ووجنتاك تحتفظان ببريق لايعرف المساحيق.
كنتِ مبهورة جدًا أنى جنوبى من هناك, واللهجة المختلفة صنعت سحرًا متفردًا, وخاصة حين كنت أحكى حواديت تشبه الأساطير فى عوالم مدينة صاخبة مثل القاهرة.
كان يدهشك قصص تسكن زراعات القصب, ويطرب أذنيك هديل اليمام, الذى أصطاده من وسط الحقول, كانت رقتك تدمع كلما قصصت لك حكاية شاب قُتل فى ثأر على سبب تافه, ولم يكن يذهب حزنك إلا أحد نصوصى الذى أرتله فى محراب جلسة أخصصها مدحًا فى دفء قلبك.
يا صغيرتي.. كورونا لن يريح العالم بانتقاء السيئين فقط, ولكنه سيعصر القلوب بفقد أحبة وأناسٍ طيبين, وربما يقتل عامل النظافة الذى يكنس الهموم بالصبر. ويقبر بائع اسطوانات الغاز, الذى يطهو أوقات العوز بالطرق على الأنابيب, ومن الوارد جدا أن يترك لصوص الأحلام والأوطان.
وربما يموت به حارس الجراج الذى قاد كل ماركات السيارات العالمية ولم يمتلك أيا منها ذات يوم, ويبقى ذلك الرجل الذى حقق حلمه بالزواج منك فاغتصب بكارة الجسد وتركك عذراء الروح.
فى النهاية كورونا لن ينتقي.. حتى الخفافيش البغيضة التى قيل إنه تخلّق من حسائها سيتركها تنعم بالبراح, ويُغيب اليمام من سموات البراءة.
لازلت أتذكر إسدالًا كان يطوقك, فيبدو وجهك المدور كقمر وسط ليل حالك. كنتِ لى روحًا أجيد السباحة فى عوالمها, رغم أنى مع غيرك ربّان خائب جدًا, وكنت كلما حكيت لك عن كد البسطاء هناك, تكشطين عرقك من على جبينك الفضي, كان همسك ترنيمة لم تشِ بالبعد أبدًا ولكن يا صغيرتى هى الأقدار التى تعيد ترتيب كل شيء فى مشاويرنا ولا تتيح لنا حتى اختيار الطريق.
الميراث المؤلم
قال: أورثنى أبى شيئين لم يدونهما فى محرر رسمي:التدخين, والإقدام على الزواج الثاني. أما عشق السجائر فبدأ عندما كان يرسلنى لشرائها, وأراه يبل الواحدة بطرف لسانه, عرفت فيما بعد أن ذلك يطيل عمرها المحترق بين شفتيه.
ورغم فقره الشديد كان ثرى المشاعر, يقسم العاطفة على زوجتيه ببذخ. كانت حلاوة لسانه تنسيهما مرار العيش. كان حكاءً ماهرًا, وخاصة وقت الالتفاف حول طبلية متواضعة الأطباق, فينتصر على قلة الطعام بإشباع آذاننا بحوايت مغمسة بالدهشة.
لم يكن هناك فرصة للسرقة من سجائره الفرط, ولكنى سطوت على كل حواديته الممتعة فى خزانة الذاكرة, لازلت أحكيها لأولادى فتدمع أعينهم من الضحك, ويترحمون عليه. كنت شاهدا على قوله لأمى دائما: لو لم تأسرى قلبى ماتزوجتك على أم حسين, ويقول لزوجته الأولى: أنت أصل إحساسى بكل النساء, فتبتسم وتوارى ضحكتها المبهجة بطرحتها السمراء.
لست نادمًا على الزواج بامرأتين, ولكنى غاضب جدا أنى تعلمت التدخين من أبي, وتركتُ فى جسدى ثروة من الأمراض, ومع ذلك كلما اشتد ألمها أتذكر سيرته, وأبتسم.