قصة خروج المخطوطة السينائية من مصر

اكتـُشـِفت قبل 162 عاماً وقد تغير مصير دراسات الكتاب المقدس

دير سانت كاترين
دير سانت كاترين

حسن حافظ

قبل أيام حلت الذكرى 162 لاكتشاف "المخطوطة السينائية" إحدى أهم الاكتشافات الأثرية فى مجال المخطوطات على مستوى العالم، والتى توجد أوراقها فى أربع دول حاليا هى بريطانيا وألمانيا وروسيا فضلا عن مصر الدولة التى خرجت منها المخطوطة وتحديدا من دير سانت كاترين بجنوب سيناء، ولا تزال الآمال معقودة على أن تعود هذه التحفة المكتوبة التى تعد واحدة من أقدم النسخ المحفوظة من الكتاب المقدس مع النسخة الفاتيكانية (وهى نسخة صنعت فى مصر أيضا)، فى وقت بدأت الدول المالكة للمخطوط مشروعاً لإتاحة نص المخطوطة عبر الوسائط الحديثة، «آخرساعة» تستعرض قصة تلك المخطوطة منذ اكتشافها قبل أكثر من قرن ونصف القرن.

ترجع أهمية المخطوطة السينائية إلى أنها تضم نسخة تعتمد على النص اليونانى للتوراة المعروفة بـ"الترجمة السبعينية" وهى نسخة تم إنجازها فى مصر البطلمية وعنها تم أخذ مختلف النسخ الخاصة بالتوراة التى تعرف عند المسيحيين بـ"العهد القديم"، وتكون الشق الأول من الكتاب المقدس، كما تضم المخطوطة المصرية نسخة من الإنجيل (العهد الجديد)، وتضم أيضاً بعض الكتابات التى اعتبرت هرطقة فيما بعد، كما تضم ترتيبا مختلفا لبعض مواد الكتاب المقدس، وهو ما يقدم رؤية مهمة لكيفية تشكل الكتاب المقدس.
وتكتسب المخطوطة السينائية ميزة إضافية، إذ تم كتابتها فى شكل كتاب كما هو شكل الكتب الحالي، وهو من الأمور النادرة فى وقت كانت معظم الكتب تكتب فى شكل جلد الحيوانات مثل معظم مخطوطات البحر الميت، أو نبات البردى كما هو حال الكثير من اللفافات التى تم العثور عليها فى مصر وتغطى فترة الحكم الرومانى والقرون الأربعة الأولى من الإسلام فى مصر، لذا كان من النادر أن تصل لنا مخطوطة فى شكل كتاب تعود إلى القرن الرابع الميلادي، ما يزيد من أهمية المخطوطة السينائية التى تعد نموذجا لمرحلة متطورة من أشكال إنتاج الكتب.
الدكتور ماجد عزت إسرائيل، الباحث التاريخى فى الدراسات القبطية، وصاحب كتاب "فريدريك تشيندروف والمخطوطة السينائية"، اختص «آخرساعة» ببعض المعلومات عن هذه المخطوطة ومكتشفها، إذ أكد أنها تعود إلى عام 350 ميلاديا تقريبا، وهى واحدة من أهم المخطوطات المسيحية فى العالم، وقد حافظ رهبان دير سانت كاترين على المخطوطة لنحو 1500 عام، إذ ظلت هذه النسخة نادرة الوجود فى أرض مصر تعامل باحترام وتبجيل داخل أروقة الدير، ولم يعرف العالم عنها شيئا حتى زار العالم الإيطالى فيتاليانو دوناتى مصر بهدف جمع الآثار المصرية تنفيذا لرغبة الملك كارلو إمانويلى الثالث آل سافوي، وأثناء تواجد دوناتى فى دير سانت كاترين سجل رؤيته لنسخة نادرة وقديمة من الكتاب المقدس مكتوبة بخط جميل على ورق كبير وفريد.
إشارة دوناتى لم تنجح فى لفت الأنظار إلى أهمية المخطوطة، الأمر الذى تأخر إلى أكثر من ثمانين عاما، وتحديدا فى عام 1844، عندما زار العالم اللاهوتى الألمانى فريدريك قسطنطين تشيندروف الدير للمرة الأولى، وكان قد ولد عام 1815، وعاش فى كنف أسرة مسيحية لوثرية، واستطاع أن يدرس اللاهوت والفلسفة فى جامعة لايبزج الألمانية، ليحصل على درجة الدكتوراه فى اللاهوت وهو فى سن الخامسة والثلاثين عام 1840، وقد عاش فى فترة يمكن وصفها بفترة "فتور ديني" فى أوروبا، ما دفع تشيندروف للبحث عن أصول الكتاب المقدس، فدله البحث على أن مصر ربما تكون المكان الذى يمكن العثور فيه على مخطوطاته الأصلية، لذا عزم أمره على السفر إلى مصر.
أثناء تواجد تشيندروف فى مصر زار أماكن عدة، لكن المكان الذى خلد شهرته هو دير سانت كاترين، والذى زاره بين يومى 24 مايو والأول من يونيو عام 1844، فخلال تلك الفترة عقد صداقة مع رهبان الدير، الذين كشفوا له بعض أوراق المخطوطة السينائية، وتمكن من الحصول على 43 ورقة تعود إلى العهد القديم (التوراة)، ليعود إلى ألمانيا وينشر أبحاثه الأولى عن هذه الأوراق عام 1846، وقد تم إيداع هذه الأوراق فى مكتبة جامعة ليبزج.
عاد تشيندروف إلى الدير المصرى مجددا عام 1853، لكن هذه الزيارة لم تكن موفقة، بحسب الدكتور ماجد عزت، الذى أكد أن تشيندروف أصيب بمرض فى عينيه، ولم يتمكن من الوصول إلا لورقة بها 11 سطرا فقط، ومن الملاحظ أن جميع من تعامل مع هذه الأوراق لم يكن يعرف شيئا عن المخطوطة السينائية، لذا تأخر اكتشافها إلى عام 1859، عندما قام تشيندروف بزيارته الثالثة لدير سانت كاترين، بعدما تحصل على دعم من القيصر الروسى ألكسندر الثاني، وقرر تشيندروف فى قرارة نفسه أن تكون هذه هى الزيارة الأخيرة لمصر، وإذا ما لم يتحصل على مبتغاه فسيبدأ البحث بأماكن أخرى فى الشرق الأدنى.
خلال تلك الزيارة وتحديدا فى 7 فبراير 1859، اصطحب أمين الدير تشيندروف لتناول بعض المشروبات فى غرفته، ثم اطلع الباحث الألمانى على سره الخطير، بأنه يقرأ فى مخطوطة نادرة منقولة عن النسخة السبعينية للكتاب المقدس، ثم أخرج رزمة مربوطة بقماش أحمر وفتحها أمام تشيندروف، الذى أخذته الدهشة وهو يرى المخطوطة السينائية لأول مرة، وطلب على الفور من أمين الدير أن يطلع عليها، فوجد أنها تتكون من 346 صفحة، وأنها ترتبط بالأوراق التى سبق أن عثر عليها فى رحلاته السابقة.
طلب تشيندروف الحصول على هذه المخطوط لكن أمام إصرار الرهبان على بقاء المخطوطة داخل الدير، استغل علاقته بالقيصر الروسى الذى تتبعه الكنيسة الروسية التى تؤمن بنفس مذهب الكنيسة اليونانية المشرفة على الدير، للحصول على موافقة الدير بإخراج المخطوطة ونقلها إلى روسيا لاستنساخها ثم التعهد بإعادتها إلى الدير مرة أخرى، وأكد الدكتور ماجد عزت أن تشيندروف، الذى أدرك أنه عثر على أثمن كنز مخطوط فى العالم، كتب تعهداً خطياً لرهبان الدير "بإعادة المخطوطة إلى الجمعية المقدسة فى جبل سيناء بهيئة جيدة عند طلبهم"، وهو ما لم يحدث أبدا، فقد انتقلت المخطوطة إلى روسيا وتم حفظها فى المكتبة الوطنية الروسية.
ورفض ماجد الاتهامات الباطلة التى وجهت إلى تشيندروف بسرقة المخطوطة، مؤكدا أنه عمل بإخلاص من أجل نشر المخطوطة السينائية، وكان يتمنى بالفعل عودتها إلى دير سانت كاترين، معرباً عن أمله بعودة المخطوطة التى اعتبرها أعظم وأعرق مخطوطة خرجت من مصر إلى الدير السينائى أو أن توضع فى مكتبة الإسكندرية باعتبارها أقدم مكتبات العالم، فضلا عن أن الترجمة السبعينية للتوراة تمت داخل أروقتها قبل أكثر من 2200 عام.
نستكمل قصة رحلة المخطوطة مما تعرضه المكتبة البريطانية عبر موقعها الرسمى حول قصة الحصول على هذه المخطوطة النفيسة، فبعد الثورة البلشفية فى روسيا 1917 والتى أنهت الحكم القيصرى وأسست لحكم الاتحاد السوفيتي، رغبت الحكومة السوفيتية بقيادة جوزيف ستالين عام 1933 فى زيادة رأس المال الأجنبى دعما للخطة الخمسية الثانية، من خلال بيع المخطوطة السينائية عبر بائعى الكتب فى لندن، وهنا انتهزت الحكومة البريطانية الموقف وطلبت شراء المخطوطة المقدر سعرها بـ100 ألف جنيه استرليني، وهو مبلغ ضخم جدا وقتذاك، ما استدعى تدخلا من الحكومة البريطانية بقيادة رئيس الوزراء رامزى ماكدونالد، لدعم طلب المكتبة الوطنية لدعم من وزارة الخزانة للمساهمة فى شراء المخطوطة النادرة، وبالفعل وافقت وزارة الخزانة على دفع 93 ألف جنيه على أن يتم فتح باب التبرع لجمع هذا المبلغ فى وقت لاحق، وبالفعل اكتمل المبلغ بدفع المتحف البريطانى بقية المبلغ (7 آلاف جنيه)، لتحصل المكتبة البريطانية على واحدة من أندر المخطوطات فى العالم، والتى وصلت لندن فى ديسمبر 1933.
لكن قصة المخطوطة لم تنتهِ، فقد أرسل المطران بورفيريوس رسالة للمكتبة الوطنية بتاريخ 29 يناير 1934، يؤكد فيها أن المخطوطة مملوكة لدير سانت كاترين، وأن العالم الألمانى تشيندروف تعهد بإعادتها، وأنه حصل عليها على سبيل الإعارة، ورغم أن الجانب البريطانى بدأ فى التحقيق فى واقعة انتقال المخطوطة من مصر إلى روسيا، فإنه رفض فى النهاية الاستغناء عن مخطوطة تعد درة المخطوطات المسيحية المتعلق بالكتاب المقدس، ولم تنته القصة عند الرفض البريطاني، ففى عام 1975 كشف دير سانت كاترين أنه تم العثور على أوراق جديدة تابعة للمخطوطة السينائية، إذ لاحظ الأب سوفرونيوس وجود مخبأ كبير فيه مخطوطات من ضمنها 18 ورقة كاملة أو فى أجزاء، وهى الأوراق التى ظلت فى الدير حتى يومنا هذا.
ووضعت المكتبة البريطانية التى تمتلك الجزء الأكبر من أوراق المخطوطة السينائية، خطة عمل مع المكتبات التى تمتلك بعض أوراق المخطوط وهى المكتبة الوطنية فى روسيا، ومكتبة جامعة لايبزك الألمانية، ودير سانت كاترين بمصر، لنشر صفحات المخطوط على الملأ، عبر بروتوكول تعاون تم توقيعه من قبل المؤسسات الأربع فى 2005، وتم تأسيس موقع إلكترونى فى 2009، للعمل على نشر أوراق المخطوطة كاملة بشكل رقمي، ما يتيح لأى باحث فى أى مكان فى العالم الاطلاع على المخطوطة كاملة دون أن يكلف نفسه مغبة السفر والانتقال بين أربع دول مختلفة.