ظهور الكتابات الهيروغليفية والسومرية قبل ستة آلاف عام

إحدى الكتابات الهيروغليفية
إحدى الكتابات الهيروغليفية

أحمد عثمان

كان اختراع الكتابة هو أولى الخطوات التى أدت الى قيام الحضارة البشرية الحالية، إذ مكنت الإنسان من نقل ما يكتسبه من معرفة إلى الآخرين الذين يقيمون فى أماكن بعيدة عنه، وإلى الأجيال التالية، وهكذا بدأ التعليم، فأصبح صغار الأجيال التالية يطلعون على معارف كبار الأجيال السابقة ويبدأون مسيرتهم من النقطة التى انتهى عندها آباؤهم. وأصبحت المعرفة تسير فى طريق تصاعدى بعد أن كان كل جيل يبدأ طريق المعرفة من أوله، كما أعطت الكتابة الفرصة للإنسان حتى لمراجعة كلماته المكتوبة، وإعادة صياغتها على نمط معين من قواعد التركيب اللغوى أو الإيقاع والوزن.
أصبحت الكلمة المكتوبة معروضة على الفكر لتمحيصها ونقدها، مما ساعد على نشوء الأدب وقيام النظريات النقدية والفلسفية، فمن يكتب نصاً غير من يلقى كلاماً شفهياً، فبينما يخرج المتحدث الكلام ولا يستطيع التحكم فيه بعد إلقائه، فإن فى وسع الكاتب استبدال كلمة بأخرى أو التحكم فى صياغته لتوافق تركيبة لغوية تقوم على أساس من قواعد اللغة السليمة.
أول ما عرف الإنسان فن الكتابة كان فى مصر وفى سومر خلال الألف الرابعة قبل الميلاد، ولا شك أن الإنسان عرف لغة الكلام قبل أن يخترع العلامات والحروف المكتوبة التى تدل عليها، ولا شك كذلك أن اللغة المكتوبة كانت فى أولى مراحلها تتفق إلى حد كبير مع لغة الكلام.
كانت أول الأقوام التى سكنت جنوب أرض الرافدين، تتكون من مزيج من قبائل عربية سامية قدمت عن طريق الجنوب، وأقوام فارسية جاءت من مناطق خوزستان الجبلية فى الشرق، إلا أن الأقوام السومرية التى أعطت هذه المنطقة اسمها لم تأت إلا فى النصف الثانى من الألف الرابعة ق.م، حينما فرضت سيطرتها على الجماعات التى كانت تعيش هناك من قبل. ولا يعرف أحد بالضبط من أين أتى السومريون، وهناك من يعتقد بأنهم جاءوا من عند جبال القوقاز فى أواسط آسيا أو من أرمينيا وجبال إيران أو من وادى السند وبلاد الهند، لأن الملاحم السومرية القديمة تتحدث عن بلاد تقع خلف الجبال، وكذلك لأهمية «الجبل» فى اعتقاداتهم الدينية، إلا أن غالبية الباحثين تميل الى الاعتقاد بأن السومريين وصلوا عن طريق الخليج فى الجنوب لأن تجمعاتهم كانت هناك.
تكونت مملكة سومر من مجموعة من المدن مستقلة بعضها عن الآخر، فى النصف الجنوبى من وادى الرافدين، مثل «أريد» و«أور» و«سبار» و«لكش» و«شروباك» و«أوروك، وتبادلت ثلاث من هذه المدن حكم البلاد. واستمر حكم السومريين الى 2325ق.م. عندما جاءت أقوام سامية من الشمال والغرب بقيادة ساراجون وغزت مملكة سومر ومعظم منطقة الهلال الخصيب، وبنى ساراجون «أكاد» لتكون عاصمة جديدة، وبدأت الدولة تعرف منذ ذلك الوقت باسم «سومر وأكاد». ولم تدم طويلاً وسرعان ما تعرضت لهجمات من الشرق ومن الغرب، كما نشبت الصراعات بين المدن السومرية نفسها حتى عصر حمورابى، الذى - بانتهائه خلال القرن الثامن عشر قبل الميلاد - انتهت سومر كلية، وبدأ العصر البابلى ذو الطابع السامى العربى.
أهم ما قدمته سومر للبشرية هو اختراع الكتابة المسمارية، وأقدم نصوص سومرية مكتوبة تم العثور عليها تعود إلى نحو 3000ق.م، وإن ساد الاعتقاد ببدايتها - فى شكلها البدائى قبل ذلك بخمسة قرون، ولم يتبين وجود أية علاقة بين السومرية التى تحتوى على 15 صوتاً وبين أى لغة أخرى قديمة أو حديثة، فالسومرية لغة تلصق كلماتها سوياً لتكوين وحدة مركبة ذات معنى مركب، وليست لغة تصريف مثل اللغات السامية أو الإندو – أوروبية.
 تتكون الكتابة المسمارية السومرية من مقاطع وليس من حروف، فيقوم الكاتب بالتعبير عن أفكاره عن طريق اختيار شكل العلامات التى يستخدمها، من حيث دلالتها الصوتية والتركيبة اللغوية التى تصاغ بها، ينقشها على ألواح من الطين الطري، ثم يتركها معرضة للشمس حتى تجف. ونحن لا نجد بعض الأصوات العربية الخالصة فى اللغة السومرية مثل «ع» و«ح» و«ض».
كان الوضع مختلفاً بالنسبة إلى اللغة الهيروغليفية التى ظهرت فى مصر فى نفس الفترة الزمنية، والتى تختلف تماماً عن لغة السومريين، فمن الواضح أن اللغة المصرية القديمة كانت تشترك مع اللغات السامية فى العديد من التركيبات الجوهرية، وإن كان بها بعض التشابه أيضاً مع لغات أفريقية، مثل الصومالية فى الشرق والبربرية فى الشمال، مما يدل على أن سكان مصر منذ البداية، كانوا يمثلون خليطاً من أقوام جاءت من الجزيرة العربية وشمال وشرقى أفريقيا.
فالمصرية تشترك مع السامية فى خاصتها الأساسية التى تجعل كلماتها تشتق من مصدر واحد، غالباً ما يتكون من ثلاثة أحرف، كما تشتمل على كلمات مشتركة عديدة. كان الاعتقاد فى البداية، استناداً إلى القوائم التى تحتوى على أسماء ملوك الدولة القديمة وعدد السنين التى حكموها، أن التاريخ المصرى - أى تاريخ ظهور الكتابة المصرية فى عصر نارمر مينا - يرجع إلى عام 4241ق.م. إلا أن الباحثين الذين حققوا هذه التواريخ ولم يعثروا على أدلة تاريخية ترجع الى بعض الأسماء التى ورد ذكرها فى هذه القوائم، اتفقوا على جعل هذا التاريخ هو 3100ق.م. وتم تحقيق تسلسل قوائم الملوك منذ ذلك التاريخ، والتحقق من مدة حكم كل منهم.
وكانت المفاجأة عندما عثرت البعثة الألمانية عام 1993 على نماذج من الكتابة الهيروغليفية - فى إحدى المقابر بمنطقة أبيدوس بصعيد مصر - تعد أقدم من لوحة نارمر بمائة عام على الأقل. فقد أعلن الدكتور «جنتر» الذى أشرف على أعمال الحفر، أن حدود التاريخ المصرى قد تقدمت لتصبح 3200 قبل الميلاد. ومعنى هذا أن أقدم النصوص الهيروغليفية التى تم العثور عليها تسبق أقدم النصوص المسمارية التى وجدت بمائتى عام، وإن ظل الخلاف قائماً بين العلماء فى تحديد تاريخ ظهور المراحل البدائية من كلتا اللغتين، والتى لم يتم العثور على نماذج منها.
اعتقد المصريون القدماء أن «تحوت» إله المعرفة، هو الذى اخترع الكتابة الهيروغليفية، التى سماها اليونان «هيروجليفيكا جراماتيكا»، أى «حفر الحروف المقدسة». أما المصريون فأطلقوا على لغتهم اسم «مدو نتر» أو مداد نطر - بمعنى «الكلام المقدس. وتطورت الكتابة الهيروغليفية - التى كانت تتم فى البداية عن طريق الحفر على الحجر - عن الكتابة التصويرية البدائية، فكان الكاتب فى البداية يرسم صور الأشياء التى يريد التحدث عنها، إلا أنه بهذه الطريقة لم يكن فى إمكانه التعبير عن الدلالات التى لا يمكن رسمها، كاسم العلم مثلاً، وتطور الأمر بعد ذلك فأصبح الكتبة يقومون برسم الشىء - ليس للدلالة عليه نفسه. وإنما لاستعمال الصوت الناتج عن قراءته فى الدلالة على شيء آخر. فعلى سبيل المثال إذا كان هناك طائر يبدأ اسمه بحرف الألف، فهم قد رسموا صورة هذا الطائر للدلالة على هذا الحرف، وكان أول ما بدأ هذا النظام فى أسماء العلم، وتحتوى اللغة الهيروغليفية على أصوات اللغات السامية الأساسية، مثل الحاء والعين والضاد، لكنها لا تعرف حروف الثاء والذاء والظاء، مثلها فى هذا مثل العامية المصرية حالياً.
لم تقم المسمارية السومرية والهيروغليفية المصرية - وهما أولى اللغات التى ظهرت فى العالم القديم - على أساس من حروف أبجدية محددة، وإنما استخدمت الصور والرموز والعلامات للدلالة على الأصوات والمعانى المقصودة. وكانت الصورة أو العلامة تعبر أحياناً عن صوتين أو أكثر.
يعتبر ظهور حروف الأبجدية - وهو النظام المستخدم الآن فى أغلبية اللغات - هو آخر أشكال تطور الكتابة وأكثرها تقدماً، وهى تحتوى عادة على 22 الى 28 حرفاً. وعند منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد - بعد اختفاء سومر - اتخذت الأقوام السامية فى وادى الرافدين، الكتابة المسمارية واستعملتها فى كتابة لغاتها بعد إدخال علامات إضافية عليها تعبر عن أصوات لغتهم، لم تكن موجودة عند السومريين. وبسبب الخلاف القائم بين لغتهم الأصلية - والتى تنتمى الى العائلة السامية العربية - وبين اللغة السومرية، لجأوا الى إنشاء أول أنواع القواميس التى عرفها الإنسان، فقام الكتبة الأكاديون والآشوريون بعمل قوائم تشتمل على المفردات السومرية ومقابلها فى لغتهم الأكادية والآشورية، كما قاموا كذلك بترجمة النصوص السومرية، حتى يدرسها التلاميذ.
وفى خلال الألف الثانية قبل الميلاد استعارت شعوب سورية وفينيقيا وكنعان اللغة الأكادية فى كتابتها، وإن اختلفت عن لغة الكلام فى هذه البلاد. ثم تطور الأمر بعد ذلك - منذ القرن السادس عشر قبل الميلاد - حيث أصبحت اللغة الأكادية المسمارية هى لغة الكتابة الرسمية، ليس فقط فى منطقة الهلال الخصيب، بل وفى مصر وبلاد الحيثيين كذلك، حيث صارت هى اللغة الديبلوماسية التى يستخدمها ملوك هذه البلدان فى التكاتب والتراسل. فكان ملوك المنطقة يتبادلون كتابة الرسائل التى يحملها السفراء فى ما بينهم، لبحث مشاكلهم ومناقشة علاقاتهم المشتركة. وتم العثور على نحو 350 من هذه الرسائل - والمعروفة باسم «رسائل العمارنة». مصادفة قبل نهاية القرن الماضى. عثرت عليها إحدى الفلاحات بينما كانت تجمع السباخ عند موقع القصر الملكى القديم بتل العمارنة فى صعيد مصر، وهى الآن موزعة بين متاحف برلين ولندن والقاهرة، إلى جانب المتاحف الصغيرة وهواة جمع التحف.