د.رمضان بدرى : ورشة تحنيط سقارة الحلقة الأولى لفهم «اقتصاد الجنازة» فى مصر القديمة

الدكتور رمضان حسين يحمل القناع الفضى المذهب
الدكتور رمضان حسين يحمل القناع الفضى المذهب

حوار: شهاب طارق

أثناء أعمال المسح الأثرى بمقابر العصر الصاوي، من جانب فريق الباحثين المصريين الألمان من جامعة توبنجن الألمانية عام ٢٠١٨، أعلنوا عن اكتشاف ورشة لتحنيط المومياوات، كشف أثرى ما يزال حتى اليوم يثير فضول كثير من علماء الآثار حول العالم ليس لأنها أول ورشة تحنيط يتم العثور عليها، لكن لأنه أثبت أن الموت فى الدولة الحديثة وتحديدًا فى عصر الأسرة الـ٢٦ قد تحول إلى عمل تجارى كبير، له اقتصادات قائمة بذاتها، تدر أرباحًا كبيرة فيما يمكن أن نسميه بـ«تجارة الموت»!
الدكتور رمضان بدرى حسين أستاذ الآثار المصرية بجامعة توبنجن الألمانية، ورئيس البعثة الألمانية، يقول إن أهمية الكشف تكمن فى أن المعلومات عن ورش التحنيط وعناصرها المعمارية وما يتم داخلها من طقوس دينية وإجراءات حفظ الجسد وتحويله إلى مومياء كانت مستمدة من مصدرين أساسيين فى الماضى ألا وهما؛ برديات التحنيط من الدولة الحديثة والعصرين المتأخر والعصر اليونانى الروماني، إضافة إلى بعض المناظر القليلة جدًا عن ورش التحنيط مصورة على مقابر أفراد الدولة القديمة، لكن ومع معرفتنا التامة بورش التحنيط من خلال المصادر النصية هذه، إلا أننا لم نعثر على أى من هذه الورش فى أى موقع بمصر، لذا اكتسب اكتشاف ورشة تحنيط سقارة وملحقاتها أهمية قصوى لدى علماء الآثار فى العالم، لأنه أكد على ما ورد فى المصادر النصية؛ أن ورشة التحنيط الواحدة تتكون من عدة مباني، إلا أن هذا الكشف أضاف معلومات هامة، منها أن أحد هذه المبانى كان مبنيًا تحت الأرض على عمق ١٣ مترا، وهو عبارة عن غرفة طولها ٩م وعرضها ٥م، ومزودة بسرير مقطوع فى الصخر وعلى جانبيه قنوات تصريف سوائل، إضافة إلى إناء ضخم وُضع فى ركن الغرفة الجنوب الشرقى وأُحيط بجدارين من الاحجار، واستُخدم فى حرق البخور، وعلاوة على هذا كان للغرفة نظام تهوية رائع سمح بتجديد الهواء وتلطيف درجة الحرارة تحت الأرض.
وكلها أمور تساعد المحنط على استخلاص أحشاء المتوفى فى بيئة ملائمة مناخيًا، كما اكتشفت البعثة فى هذه الغرفة أعداد كبيرة من أوانى التحنيط، مدون عليها أسماء مواد التحنيط وكيفية استخدامها خلال السبعين يوم، وهم فترة التحنيط، كما أننا كشفنا عن «القناع الفضي»، وهو المكتشف على وجه مومياء كاهنة «الآلهة موت والآلهة نيوت-شاس»، وهذا القناع هو الثالث من نوعه فى تاريخ علم المصريات. وقد اكتشف القناع الأول فى عام ١٩٠٢ على وجه مومياء «ودجاحور» بسقارة على يد عالم المصريات الإيطالى بارزانتي، لكنه كان متآكلا تمامًا من الصداء. أما القناع الثانى فكان على وجه مومياء «عنخ حور» فى تونا الجبل، وكشفه عالم المصريات سامى جبرة عام ١٩٣٩، وبعده فى عام ٢٠١٨ قناع سقارة، حيث إن الفضة كانت مادة ثمينة وذات قيمة اقتصادية، بل كانت العملة المالية فى ذلك الوقت. وقناع كهذا يدل على ثراء صاحبته ومكانتها الاجتماعية، إلى جانب أن له قيمة دينية ورمزية، لأن المصريين تصوروا أن عظام الإله رع من الفضة وجلده ولحمه من الذهب. وعلى هذا يصبح القناع الفضى المذهب هو عظم وجلد إله الشمس، والمومياء نفسها تصبح كإله الشمس.
اقتصاديات الموت
يرى الدكتور رمضان أنه نتيجة لاختلاف طبقات المجتمع داخل العاصمة انعكس ذلك على سقارة وعلى تنوع مقابرها، وهذا ما كشفت عنه ورشة التحنيط وكذلك الاكتشافات التى تمت مؤخرًا، ونتيجة لذلك تحول الدفن لعملية تجارية، وأصبح الموت يدل على مدى قدرة الشخص على الاستثمار داخل مقبرته، وهذا بالطبع ما يحدده دخل الشخص، ونظرًا لازدهار وتطور منف كقوة اقتصادية، تغيرت اقتصاديات الجنازة، وظهرت مهن جديدة قائمة على فكرة الموت، وعلى الرغم من أن الكشف عن ورشة التحنيط قد سبق الاكتشافات الأثرية التى تمت بجبانة البوباسطين وجبانة تيتى بسقارة، إلا أنه ساعد فى تفسير ما يسمى بـ«اقتصاد الجنازة» وهو الاقتصاد القائم على خدمات ما بعد الموت فى مصر القديمة، فورشة التحنيط المكتشفة كانت هى الحلقة الأولى والأهم فى ذلك الاقتصاد، حيث يعمل بجانبها اقتصاديات مساعدة كثيرة مثل: «صناعة النسيج لتوفير اللفائف الكتانية، وصناعة التوابيت، وكذلك أعمال المحاجر لتوفير التوابيت الحجرية والأوانى المرمرية، وصناعة الفخار لتوفير أوانى القرابين، والتجارة الخارجية لاستيراد مستلزمات التحنيط من بخور وزيوت وأصماغ وكذا الاخشاب للتوابيت»، وهناك بحث علمى نعده عن تلك الأصباغ والزيوت المستخدمة فى الورشة، ونتيجة لتلك التحليلات الكيميائية سنتمكن من معرفة حجم التجارة الدولية المرتبطة لتوفير المواد الأولية للتحنيط فى مصر، وكذلك الموردون الذين تم التعامل معهم، فالأمر كان عبارة عن اقتصاد محلى وعالمى مرتبط بتلك الصناعة. والكشف قادنا للوصول لعدة حقائق منها؛ أن سقارة لم تقتصر على دفن المومياوات، حيث كان يتم بداخلها طقوس دينية تخص المتوفى وهى المرحلة التى  كانت تتم لإعداد جنازة المتوفى مثلًا؛ عندنا كهنة الـ«واح موو» وهم من نطلق عليهم عندنا كمتخصصين اسم «السكيبة» لأن وظيفتهم أشبه بنثر المياه ورّشها على القبور، ووظيفتهم تلك كانت منذ عصر الدولة القديمة وبمقابل مادي، لكن فى عصر الدولة الحديثة وجدنا أن نشاطهم داخل الجبانة بدأ يتزايد وتوسعت أنشطتهم الجنائزية من خلال إدارتهم للجبانة بل وأصبحوا «سماسرة للموت» حيث بدأوا عملية بيع المقابر، وإنشاء مناطق جديدة لبناء مقابر بداخلها ليتولوا بيعها فيما بعد، ونحن لدينا أرشيفات عقود لعائلات من كهنة الـ«واح موو» وكانت عبارة عن عقود مكتوبة بين الـ«واح موو» وبين الأفراد فى حياتهم، والتى يلتزم فيها الكهنة بنقل جثة المتوفين من بيوتهم، وتوصيلها إلى ورشة التحنيط، وشراء مستلزمات التحنيط، وشراء تابوت للدفن، وشراء الأوشابتى وشراء مكان دفن للمتوفي، وعندنا الكثير من العقود التى كتبت بالخط الديموطيقى والهيراطيقى والتى كتبت بين المحنطين وبين الأفراد فى حياتهم، لترتيب عملية التحنيط والمقابل المادى، وجميع تلك الأشياء تؤكد على أن التحنيط تحول من طقس جنائزى إلى ما نسميه بـ«اقتصاديات الموت»، وقد جمعوا بين مهنتين هما؛ وظيفة كهنية، بجانب عملهم فى التحنيط الذى كان عبارة عن طقوس دينية فى الأساس تستمر لمدة ٧٠ يومًا، إلى أن يتحول جسم المتوفى فى النهاية إلى مومياء، وهذه المومياء ستتحول فى النهاية إلى إله وهذا الإله هو أوزوريس، والأمر لم يقتصر على البشر فقط بل امتد إلى الحيوانات المقدسة والتى كانت تباع كنوع من النذر، وهذا ما يفسره الكشف الذى يخص جبانة الحيوانات المقدسة «البوباستيم» حيث وجدنا الكثير من مومياوات لقطط، والمومياوات كانت تحنط كنوع من التبرك، وذلك بتقديمها عند معبد الإله باستيت.
كهنة الـ«واح موو»
نستنتج إذًا أن سقارة كان يحكمها جهاز إدارى متكامل تحت إشراف كهنة الـ«واح موو»، وحين كانوا يقومون بإنشاء مقابر جديدة للدفن، كانوا يبحثون داخل الجبانة عن موقع يكون ذا قدسية، لذلك أخذوا يبحثون عن المبانى الهامة داخل منف، فورشة التحنيط التى كشفنا عنها، تقع بالقرب من هرم أوناس، ونفس الأمر عند هرم زوسر حيث قاموا بإنشاء مقابرهم، وكذلك داخل فناء معبد البوباستيم أنشأوا آبار للدفن وباعوها، وقد سعوا لإنشاء تلك المقابر بالقرب من المعالم التاريخية كنوع من الـMarketing الذى يدر عليهم دخل أكبر، وتحول الموت إلى عمل تجارى داخل الجبانة. لذلك أرى أن اكتشاف هذا الكم من التوابيت داخل سقارة، لم يكن مصادفةً لأن تلك كانت طبيعية المكان، وقد سبق أن كشفت بعثة متحف اللوفر كم هائل من التوابيت عندما عملت بالقرب من هرم زوسر، وتوصلت تلك البعثة لآبار دفن بنفس العمق، وكذلك بنفس طريقة «رص» التوابيت المكتشفة مؤخرًا، والذى كان يحدث أن هذه الآبار كانت تقطع بالقرب من معبد قديم أو فى فناء مبنى مقدس، ونتيجة ازدهار منف، وازدياد عدد سكانها بدأ يحدث تغير فى نمط الإنفاق على الجنازة وعلى المقابر، وبدأ الناس بالاستغناء عن المقبرة الكبيرة، لكنهم اكتفوا بالتابوت الملون والمصنوع بخشب جيد، فى مقابل دفنهم داخل بقعة مقدسة، لأن الدفن داخل جبانة تقع بالقرب من مبنى تاريخي، وداخل منطقة مقدسة كان هدفًا تسويقيًا يسعى إليه الجميع، ولإقناع المستهلك بقدسية الأماكن، لذلك تجدها موجودة عند مصاطب الدولة القديمة، والفارق الزمنى بين الأسرة الـ٢٦ وبين تلك المصاطب حوالى ١٦٠٠ عام، وبالتالى كان الأمر بالنسبة لأفراد الأسرة الـ٢٦ يحمل بعدين؛ أحدهما تاريخى وآخر مقدس، لذلك تغيرت عادات الدفن فى تلك الفترة.
 تخطيط عمراني
 ظلت سقارة تستخدم لفترة تقارب الـ٣ آلاف عام، حيث نشأت عام ٣١٠٠ ق.م، واستمرت عاصمة سياسية وإدارية لمصر؛ أى أن جميع مؤسسات الدولة تواجدت بداخلها، وبالتالى كان الجهاز الحكومى بموظفيه متواجدين بها منذ نشأتها وحتى نهايات العصر البطلمي، وعندما بدأت الإسكندرية ترتفع مكانتها كمدينة ظل الجهاز الإدارى لمصر داخل العاصمة «منف»، وقد كانت مدينة متطورة قابلة للنمو نتيجة تمركز المؤسسات الحكومية فيها، كما أن عدد سكانها كان كبيرًا ومتنوعًا، من حيث الدخل الاقتصادي، فضمت الفقراء، والموظفين الحكوميين متوسطى الدخل، وكبار الموظفين والكهنة، ونتيجة تطور التخطيط العمرانى بداخلها، أدى ذلك بأن صارت جاذبة للسكان حتى نهاية العصور اليونانية الرومانية ودخول الإسلام، ونتيجة لهذا الازدهار داخل المدينة، لجأ المصريون لفكرة الـ«Zooning» أى ما نسميه بالتخطيط العمرانى داخل عاصمتهم، وقاموا بتقسيم المدينة لأحياء، وظهرت أحياء مختلفة؛ مثلًا كان هناك حى خاص لمعابد الآلهة التى عبدت داخل منف، وحى آخر للمصريين، وآخر للأجانب، وهذا الوصف هو ما قُدم لنا فى العصر المتأخر حينما جاء اليونانيين، وبدأوا يصفونها فالمؤرخ والفيلسوف سترابو وصف المدينة وتخطيطها، والأحياء الموجودة بداخلها، لذلك يمكن أن نطلق عليها اسم «مدينة مليونية»، ومدينة بهذا الحجم، كان وجود سقارة ضرورة ملحة لدفن الموتى، والتى استمدت قوتها كجبانة مقدسة من منف العاصمة.
 تمويل حكومى
يرى بدرى أن وجود هذا الكم الهائل من الاكتشافات بمنطقة سقارة فى الوقت الحالى يعود إلى أنه لم يتم تسليط الضوء على بعثة حفائر متحف اللوفر مقارنةً بما يحدث فى الفترة الحالية، لأنه أصبحت هناك إتاحة كبيرة للمعلومات فى الوقت الحالي، وبدأ الإعلام يركز على الآثار بصورة كبيرة، وهذا لم يكن متاحًا من قبل، فالاكتشافات الأثرية بالبوباستيم هى نفسها الاكتشافات الأثرية التى قامت بها بعثة متحف اللوفر، وكلاهما يجمعهم نفس الفترة التاريخية وكذلك نفس الممارسة التجارية ونفس فئات الكهنة الذين كانوا يديرون هذه الجبانة. يقول: هناك سبب آخر حين عملت بسقارة عام ١٩٩٤ وجدت أن الحفائر المنظمة كانت تقام بالمنطقة منذ عهد عالم المصريات أوجست مارييت أى عام ١٨٥٠ تقريبًا، لكن البعثات التى أتت فى تلك الفترة كانت تعمل لأوقات محدودة داخل سقارة من كل عام وقد تكون أقصى فترة للعمل هناك ما بين ستة أسابيع إلى ثمانية أسابيع وأقصى مدة للاستمرار كانت تصل إلى ثلاثة أشهر فقط، لأن العمل فى الحفائر يتم بطريقة بطيئة للغاية، لذلك الاكتشافات كانت تتم بشكل بسيط للغاية قد يحتاج لأربع سنوات، وما يحدث فى الفترة الحالية هو أن هناك تمويل ودعم حكومى واضح، لذلك استمرت مدة هذه الحفائر لفترة تجاوزت العشرة أشهر فى السنة، وبالتالى تحققت الاكتشافات بشكل سريع، وكانت بوادر هذه الاكتشافات عندما اكتشفنا ورشة التحنيط والقناع الفضى المذهب، ثم اكتشاف مقبرة «واح تي» وبعدها مقبرة «خوي» والتى كشف عنها الدكتور محمد مجاهد، فالبعثات الأثرية هذه لم تتوقف أعمالها منذ عام ٢٠١٨ وظلت تعمل بصورة متواصلة، وبالتالى ما كشفنا عنه خلال سنتين فقط، يعادل ما كانت تقوم به البعثات الأجنبية فى عشر سنوات، وهناك مجموعة كبيرة من البعثات تعمل فى سقارة بالوقت الحالى منها بعثتى من جامعة توبنجن بألمانيا، وبعثة الدكتور محمد مجاهد بجنوب سقارة، وبعثة الدكتور مصطفى وزيرى بالبوباستيم، وكذلك بعثة الدكتور زاهى فى جبانة تى تي، وأيضًا بعثة الفرنسيين والإيطاليين والهولنديين، وبعثة جامعة القاهرة،  والاكتشافات المقبلة أعتقد أنها قد تخص العصر المتأخر، لكن الإشكالية عندنا فى الآثار هو أنك لو ركزت على كشف أثرى واحد دون الالتفات إلى الاكتشافات السابقة سيحدث نوع من القصور فى فهم الاكتشافات، ولكى نفهم التوابيت التى خرجت من البوباستيم يجب أن نربطها باكتشافات البعثة الفرنسية، وبالاكتشافات الأخرى.