وكأننا فى القاهرة ..

 الفنان عمر الفيومى
الفنان عمر الفيومى

منى عبد الكريم

فى الصباحات التى كانت نباتات الصبار تجود بوردة واحدة، كان الصبى يقرر ألا يذهب إلى المدرسة ويجاورها، ولم تكن تلك هى العلاقة الوحيدة التى ربطت الفنان عمر الفيومى بالورد، ففى بيته القديم كانت هناك عشرات النباتات والزهور التى تسكن بلكونته والتى كان يحصل عليها من المشتل المجاور للمدرسة، الذى يزوره أيام الخميس ليبتاع بالقروش التى يمتلكها كلها زرعا، لقد ورث الفيومى محبة الورد عن أبيه الذى كان يمتلك محلا لبيع الورد بشارع طلعت حرب والذى ورثه بدوره عن والده، وكأن تلك الوردات البديعة التى يقدمها الفيومى فى كثير من لوحاته قد جاءت معه منذ الطفولة.
لم تكن الوردات وحدها التى رافقت الفنان عمر الفيومى، ولكن وجوها عديدة سجلها فى ذاكرته حيث كان يقضى أيامه فى تأمل الوجوه وملامحها وما تحمله قسماتها من شجون وفرح ليعيد الفيومى  تقديمها بطريقة جمعت بين وجوه الفيوم التاريخية وأسلوبه الفنى، ولكنه لم يحتفظ فقط بملامح البشر ولكن أيضا ملامح المدينة التى كان يتجول بين شوارعها وحواريها يوميا، حتى أنه حين اختار بيته اختاره بشارع محمد على.
فى معرضه الأخير الذى استضافه جاليرى النيل بالزمالك، اختار الفيومى عنوانا خرج من علاقته الوطيدة بالمدينة التى كانت دوما حاضرة فى ذاكرته البصرية وفى أعماله بشوارعها وبمقاهيها تيمته الأثيرة .. المدينة التى قدمها فى التسعينيات والتى اختلفت تماما عما هى الآن..
يبدو العنوان «وكأننا .. فى القاهرة» يخص مدينة أخرى تشبه القاهرة.. ولكنها ليست كذلك إنها بالفعل القاهرة .. قاهرة اليوم .. التى اختلفت تماما عما كانت عليه فى طفولته، تتغير القاهرة يوما بعد يوم، تضيع ملامح الشوارع، يشعر الفنان عمر الفيومى بأن هناك مدينة تستبدل أخرى لا تحمل سوى الاسم وبعض الملامح البعيدة الغائمة، إذ يقول: الناس اختلفت .. والشوارع، البيوت تم هدمها وظهرت عمارات أخرى.. قبيحة ، حتى واجهات المحلات أصبحت مزعجة ..يبدو أن التغيير لم يصب المدينة فحسب بل أصاب الأرواح المرهقة الباحثة عن الونس والرفقة، وكأن عمر الفيومى يشرد بعيدا ليردد على نفسه كلمات محمود درويش «إن أعادوا لنا المقاهى القديمة.. فمن يعيد لك الرفاق؟».. قبل أن يختار تلك الكلمات ليستهل بها كلمته عن المعرض.. قبل أن يستكمل قائلا وكأنه يطرح تساؤلا على نفسه قبل جمهوره: وكأنهم نفس البشر ونفس الكائنات وكأنها نفس الأماكن والمقاهى والبيوت..نفس الكراسى والموائد والطرقات.. تتعدد الأزمان وتمر.. وتبقى القاهرة .. قاهرة.
ويبدو أن الفيومى قرر تقديم كل تلك المفردات كل على حدة ومجتمعة فى معرضه ليستنطقها ويتعرف منها عما حدث، يسأل الكراسى والموائد والبشر والطرقات ما الذى حل بالمدينة التى يعرفها.
إذ يعود الفنان عمر الفيومى لتقديم المدينة التى سبق وأن رسمها عام 1997 والتى قدم من خلالها أيضا تيمة القديس مارجرجس يتجول بين مبانى القاهرة، إذ تبدو مدينة اليوم كذلك بحاجة لمعجزة جديدة، ربما لهذا بإمكاننا أن نلمح ملائكة يحلقون فى بعض الأعمال فى حالة سريالية تطرح أمنية أن تعود المدينة لسابق عهدها، وأن تتخلص من الحزن ومن الوجوم ومن العزلة التى فرضت وجودها،  إذ أن هناك حالة تباعد لم تعرفها ليالى القاهرة من قبل، تباعد حتى بين رواد المقهى، وجوم المدينة المنهكة انتقل للملامح، حتى لاعب الشطرنج الذى جلس فى مواجهتنا لا نرى شريكه فى اللعب، جلس أمام الرقعة الممتدة لتتساءل إن كان يلعب وحيدا . تلك الحالة من الوجوم والوحدة انتقلت بالتبعية للكراسى التى تحولت لأبطال يحاورون بعضهم البعض باحثين عن الحياة ، تشعر الكراسى بالاغتراب حين يغيب الإنسان عنها ، تجلس غارقة فى خلفية قاتمة، تعلوها سحابة وردية. وتبدو إحدى اللوحات كذلك شاهدة على ما طرأ من تغيرات زمنية، إذ تحمل تاريخين 2014 و2020 ، حيث يدون الفنان تفاصيل جديدة ويمحو أخرى كمفكرة بصرية ورفيق يؤكد صدق هواجسه.
معرض «وكأننا.. فى القاهرة»  كان بمثابة دفتر حواديت، حملت  كل مجموعة من الأعمال فصل من فصول حكاية عمر الفيومى الفنية فى علاقته الممتدة بالمدينة والبشر، بل إن فى واحدة من غرف الجاليرى تجاورت نساء الفيومى، جلسن يفتشن فى فناجين القهوة وأوراق الكوتشينة وعيونهم مليئة بالحيرة والانتظار عما يحمله المستقبل.. ربما لهن أو لنا أو للمدينة الغارقة فى الحيرة.