يوميات الأخبار.. اللقاء الأخير

د. مبروك عطية
د. مبروك عطية

بقلم/ د. مبروك عطية

أوهم الأصمعى الناس بأن الغلبة له لا لسيبويه، بعلو صوته، وقوة نبرته، ووضوح عبارته، وقد أقر هو بذلك فى اللقاء الأخير.

السبت:

لماذا اللقاء الأخير بالذات هو اللقاء الذى يترتب عليه الانطباع الدائم بعده، ونحن نشهد ذلك اللقاء الأخير فى القرآن الكريم، والسنة المطهرة، ففى القرآن الكريم يقول تعالى "أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدى قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلها واحدا ونحن له مسلمون" ففى تلك النهاية، وهذا اللقاء الأخير وجدنا الوالد يقول لبنيه: ما تعبدون من بعدى؟ فأجابوه: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلها واحدا ونحن له مسلمون، كانت العقيدة أهم ما لديه، ولم لا وما بعث النبيون إلا من أجلها: "أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره" ولأن كل نبى أرسل بها، ولما لها من قيمة فى حياة كل إنسان ما خلقه الله إلا لها كانت محور الخطاب فى اللقاء الأخير الذى كان بين الوالد وأولاده، وفى السنة المطهرة وجدنا اللقاء الأخير فى خطبة الوداع.

وقد سميت بهذا الاسم لأنها كانت فى حجة الوداع، وفيها لخص النبى صلى الله عليه وسلم الدين، وبين فيها ضرورة الثبات على التوحيد، وحرمة الدم والمال والعرض، وأمر بالتواصى بالحق، وألا يرجع الناس بعده كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض، ووصى صلى الله عليه وسلم خيرا بالنساء، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن الأعمال بالخواتيم، وهذا يشعرنا بقيمة اللقاء الأخير، وأن المرء يبعث على ما مات عليه، ففكرة اللقاء الأخير ثابتة فى الكتاب والسنة، وثابتة كذلك فى الفكر الإنسانى السوى الذى يجعل من اللقاء الأخير وداعا يذكر فيشكر، ويمتد معناه إلى ما بعد هذا اللقاء من فراق الأبدان، بموت أحدها، أو بانتقال كل منهما إلى مكان بعيد، يقول الواحد منهم، وآخر ما وصانى به فلان كذا وكذا، أو آخر ما قال لى كذا، وهكذا، وقد كان اللقاء الأخير زمنا للوصية بالمعروف، وخلاصة لتجارب الناس، وقد حكى عن الأصمعى أنه فى مرضه الأخير قال: لولا أنى أشعر أنى ميت فى مرضى هذا ما قلت لكم ما أقول، وذكر أنه ناظر سيبويه، عالم اللغة الكبير، وكان يعلم أنه إذا غضب وانفعل حدثت لكنة فى لسانه؛ فلم يبن الكلام، فاستثاره حتى أغضبه، وكانت هذه اللكنة، وكانت المناظرة التى انتصر فيها سيبويه بلا شك لكن أوهم الأصمعى الناس بأن الغلبة له لا لسيبويه، بعلو صوته، وقوة نبرته، ووضوح عبارته.

وقد أقر هو بذلك فى اللقاء الأخير، وتاب إلى الله واستغفر، ثم لقى ربه، ويذكر الشافعى عليه رحمة الله فى كتابه الأم أن أحد الصحابة كان فى مرض الموت، واستدعى قريبة له عقد عليها، ولم يمسها، وقال: والله ما بى حاجة إلى النساء، ولكنى تزوجتها؛ لأنها قريبتى، وفقيرة؛ فأردت أن ترثنى حتى تعيش غنية، كما روى أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما وهو فى مرض موته سأل أحد أبنائه أن يدعو له شابا من قريش، وقال لولده: ائتنى به لأزوجه أختك فلانة؛ لأنى وعدته بذلك، ولا أحب أن ألقى الله تعالى بثلث نفاق، أى لا يريد أن يلقى الله، وقد وعد فأخلف، ومن آيات المنافق أنه إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان؛ فهذا ثلث النفاق، وهو يريد أن يلقى الله تعالى بقلب سليم من الشرك، سليم من النفاق، ولا شك أن هذه الآية كانت تسكن قلبه، وهى قول الله تعالى: "يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم" ومن تأمل سلوك الناس فى اللقاء الأخير وجده لقاء حافلا بكبار المعانى، عظيما فى معناه، وما حمله من معان يعض عليه بالنواجذ، فما أعظم ذلك اللقاء الأخير.

ما أسوأ اللقاء الأخير فى زماننا!

الأحد:

وفى زماننا صار اللقاء الأخير سيئا إلى درجة تدعو إلى التوقف، فالناس يسيئون الوداع، وقد قالوا: يا رايح كتر م الفضايح، وما كان طلاق بين زوجين فى الأعم الأغلب إلا بعد ضرب وشتم وتجريح، وأذى، وسوء سلوك وأدب، يمزق كل منهما عرض الآخر، ولا يترك فيه منقصة إلا ذكرها، وكما يقولون: يطلع فيه القطط الفاطسة، يرميه بالسوء الذى قد يكون فيه، وقد يكون منه براء، وهذا السوء يجعل الحسنات التى قد تكون موجودة فى الطرف المهين تسافر إلى غير رجعة، فلا تذكر أبدا.

وقد قال الله تعالى: "فارقوهن بمعروف" وقال عز وجل: "فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" وليس من المعروف، ولا من الإحسان أن يكون اللقاء الأخير بهذه الشناعة، وهذا الحمق، وقد شرع الإسلام الرجعة بعد الطلاق الأول والثانى لأن المطلق قد يندم على وقوع الطلاق منه، فكيف يندم بهذه الطريقة البشعة التى طلق عليها ! ومن تلك التى ترغب فى الرجوع إلى زوج لم يكن نبيلا عند الفراق، ما ذرفت عينه دمعة، وما امتدت يده بإحسان، بل إن من الرجال من يحمل زوجته على الخلع، وحقها أن تطلق للضرر الذى كان منه فى سوء عشرته، من أجل أن تتنازل عن جميع حقوقها، وهذا لن يبارك الله له فى شيء مما أكله من حقوقها، ولو كان رجلا قبل أن يكون مسلما لطلقها، وأعطاها جميع حقوقها، وللمطلقات فى تلك الشريعة الغراء نفقة تسمى نفقة المتعة، وقد قال فيها الفقهاء: إنما شرعت نفقة المتعة جبرا للخاطر عند الوداع، فهى بمثابة التعويض لها، فانظر كيف يكون اللقاء الأخير فى هذا الدين معروفا، وإحسانا، وعطاء، وجبرا للخاطر، الأمر الذى قد يؤدى إلى عدم وقوع الطلاق أصلا، وإن وقع كانت هنالك مسوغات للرجعة، لأن الفراق قد حصل بمعروف وإحسان، والمعروف يستدعى المعروف، والحسان يجلب الإحسان، وصدق الله العظيم حيث يقول: "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان".

ما عسى أن تتذكر مطلقتك منك وقد أهنتها فى اللقاء الأخير؟ إنها لن تذكر خيرا كان منك؛ لأنك قد أسأت الخاتمة، وأهنتها عند الفراق، وتلك الإهانة سوف تمحو كل حسنة كان بوسعها أن تتذكرها، أو أن تذكرك بخير حتى ولو لم ترجع إليك، وكذلك الحال فى سوء اللقاء الأخير بين كل مودعين، أعرف رجلا أراد أن يغير مسكنه، فلما وفقه الله إلى مسكن جديد، وجاء يوم نقل أمتعته من بيته القديم، قال للسائق الذى حمل ذلك المتاع "يلا بينا نغور من هنا، كانت جيرة تقرف" وسمع الجيران تلك العبارة؛ فضرب كل منهم كفا بكف، وقالوا: هل سمعتم، إنه يقول كذا وكذا، وقد أجمعوا على كلمة واحدة هى: روح الله يلعنك، وظلوا يتفنون فى ذكر مساوئه التى لم يذكروها يوما، وتأكد لديهم أنه كان يطوى سريرته على بغض شنيع لهم مع كل ما قدموه له من فضل، إنه اللقاء الأخير الذى كشف المستور، فظهر ما كان مخفيا، إلى درجة أن بعض الذين شهدوا سوء اللقاء الأخير يعجبون وهم يقولون: أهذا هو الذى عاشرناه؟ ويقول بعضهم لقد أجاد الخداع، ولكن ظهرت حقيقته بعد زمن طويل، وكشفه الله لنا، وكم من لقاء أخير كشف سوءا لولا اللقاء الأخير لما كشف أبدا.

طواف الوداع

الاثنين:

ولنا أن نربط بين هذا المعنى، وبين طواف الوداع الذى يكون بعد إتمام المناسك، وقبل مغادرة الحرم إلى حيث يسكن الحاج فى بلاد الله الواسعة، إنه يطوف قبل الرحيل طواف الوداع، قائلا حين يفرغ منه: اللهم لا تجعل هذا آخر عهدى بالبيت، بدأ بطواف، وانتهى بطواف، فيا حسن مبتدأ، ويا حسن مختتم، ونحن نتوقف عند هذه الشعيرة التى فيها وفى غيرها ذاكرين قول ربنا تعالى: "ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب" وكذلك أقول فى كل لقاء أخير يجب أن نعظمه كما عظمنا طواف الوداع، الذى نستثمره هنا؛ لنعلم أن لقاءنا الأخير ينبغى أن يكون طيبا كاللقاء الأول.

فكم كان هذا اللقاء الأول طيبا، تتجلى فيه المشاعر والأحاسيس، وتتجسد فيه المعانى، وتظهر الكلمة الطيبة، وتمتد اليد الكريمة بالعطاء، حتى يظن الناس أن هذا الذى جاء يخطب بنتهم، أو مودتهم سيدوم منه هذا الخير إن لم تحدث عليه زيادة، ولو صاروحوه بما شعروا من تفائلهم به قال لهم: "هو انتوا لسه شقتوا حاجة" أى هذا الذى سركم منى ليس شيئا، إنما الكثير قادم، والعظيم آت، وما هذا الكرم الذى ترون، والعطاء الذى تشهدون، والمودة التى عنها تعبرون قطرة من بحر، والغيث قادم، وهم لا يعلمون أن هذه البدايات كاذبة، وأن الصدق سوف ينطق ذات يوم ببخل الكريم، وسواد قلب من ادعى الحب، وسوء سلوك من تظاهر بالنبل، ولا نبل فيه، وحين تتم الزيجة تصرخ الفتاة، وتتألم، وتشكو، وتضرب، وتهان، وتنتقص كرامتها، وتسمع ما يقال فى غيرها من البذيئات الساقطات، فإن استحالت الحياة، ولا بد أن تستحيل وجدت منه الفصل الأخير من فصول البشاعة، حيث بالغ كل مبالغة فى التشهير بها، وبأهلها، ولست مستغربا أن يكون هذا الجار الذى ذم جيرانه الأول بما قال كان فى أول لقائه بهم شخصا جميلا وديعا، وأنه حسن العشرة، وأنهم استأنسوا به، وذموا الأيام الخوالى التى لم يكن فيها جارا لهم.

 وكم قالوا إذا جاءت سيرته: نعم الجار، حتى قال ما قال فى اللقاء الأخير، وإذا كان بسلامته يرى أن هؤلاء جسران مقرفين فلماذا جاورهم كل هذه السنين؟ إنه لم يكن قادرا على تغيير مسكنه الذى هو بينهم، والذى أعانوه فى تشطيبه، وفى ترتيبه، وملؤوه بالهدايا التى جاءت مصحوبة بالدعوات أن يبارك الله لهم ولأهله فى هذا المنزل، وأنه شرفهم بتلك الجيرة، وأنهم يعتبرونه، وكل جار لهم أخا شقيقا.