إبداع

فايولينا

زيزيت سالم
زيزيت سالم

داخلى قوةٌ غريبة لا تتناسب مع جسدى النحيل، شيءٌ ما يجذبنى لكل ما هو جماد، تتردد أصواتهم فى عقلى وأشعرُ بروحهم فى المكان، وأكاد أُجزم أننى أرى ابتساماتهم إن مرَّ بهم يومٌ سعيد وأسمع بكاءهم عند فراق أصابحهم.
ولأننى صحفية فى جريدة الأهرام بقسم الأدب، أخفيت تلك الهِبة عن الجميع حتى لا أُتهم بالجنون، لكن ظلت تراودنى دوما فكرة سبْق صحفى عن الحكايات المثيرة التى أسمعها منهم لأتخطى بها زملائى فى الترقية، ثم أتردد فى اللحظات الأخيرة وفاءً لوعدٍ أقطعه على نفسى وأؤجل الأمر إلى فرصة أخرى.
ذات مساءٍ، وبعد انتهائنا من تغطية حدَث ثقافى بدار الأوبرا، تنامى إلى سمعى عزف موسيقى ساحر ينبعث من إحدى القاعات التابعة للأوبرا، تتبعت الصوت حتى القاعة الكبيرة لأجد سيدة فى منتصفِ العمُر ذات جمالٍ هادئ، تعزفُ عزفًا منفردًا وتحتضن بشغفٍ بالغٍ آلتها الموسيقية، يتمايل جسدُها هبوطًا وصعودًا مع النغمات فى رقةٍ وعذوبةٍ، فينصت إليها الحاضرون بسعادةٍ واهتمام .
كمانٌ أبنوسى رائع الجمال، مجرد أن وقع نظرى عليه، نفذ إلى عقلى بصوتٍ هادئ، لم يشتكِ من بنى البشر كما يفعل أقرانه، بل استكان بأحضان معلمته كعاشقٍ ولهان.
ابتسم لى وبدأ يحدثنى عنها بهمسٍ ينفذ إلى عقلي:
لا تفارقنى معلمتى رغم إجادتها العزف على باقى الآلات، ألحّت على والدها أن يدعها تلتحق بمعهد الموسيقى لكنه رفض بشدة، إذ حصلت على مجموعٍ عالٍ فى الثانوية العامة فوجهها إلى كليةٍ أخرى تستحق درجاتها الشاهقة، جادلَته كثيرًا ثم استسلمَت فى النهاية ووافقت على مضضٍ.
توقف والدها عن العزف لظروف صحية فأهدانى إليها إرضاءً لها وتعويضًا عن عدم تحقيقه لرغبتها القديمة، فصرت ألازمها ولا أغادرها أبدًا.
***

انتهت السيدةُ من العزف ودوَّى تصفيقٌ حادٌّ، التف حولها جمعٌ من الشباب يهنئونها، انتظرت حتى تفرَغ من معجبيها وذهبت لأتعرف عليها:
أخبرتنى أن والدها كان فنانًا يدرّس الموسيقى ويُتقن العزف، فنمت منذ نشأتها على جمال الروح وتغذت نبضاتها على شذى الأنغام، وصعدت مع مشاعرها على درجات السلم الموسيقى إلى قمة الإحساس.
تابعَت بصوتٍ يفيض صدقًا: انصعت لرغبة أبى فى الالتحاق بكلية الهندسة وتفوقت فى دراستى حتى أصبحت مُدرسة رياضيات فى مدرسةٍ دولية شهيرة وأحسب أن الجميع يشهد لى بالتميز.
لم أنسَ عشقى للموسيقى بل أبحرت فى أعماقها كسباحٍ ماهر، يصاحبنى الكمان الأبنوسى أينما ذهبت، فأوحى لى شغفى بفكرةٍ جديدة شرعتُ فى تنفيذها:
أعددتُ أقراصًا مدْمجةً لمقطوعاتٍ موسيقية لمؤلفين مشهورين، أُنصت إليها مع تلاميذى أثناء درس الرياضيات بالمدرسة، فتساعدهم على التركيز وتصفية أذهانهم وترتيب أفكارهم واستدعاء الذكاء الكامن فى طاقاتهم فيتوصلون الى الاجابات الصحيحة بكل يُسر وبساطة.
أعجبتنى تجربتها فسألتها باهتمام:
ـ كيف وضعتِ فكرتك حيز التنفيذ وهل لاقت قبولا لدى تلاميذك؟ قالت بملامح مشرقة:
ـ استغربوا الفكرة فى بادئ الأمر ثم لاقت استحسانهم، فاستزدت بتعريفهم بأسماء المقطوعات الموسيقية وأسماء مؤلفيها، نجحت التجربة نجاحًا باهرًا وتفوق تلاميذى بطريقة لفتت أنظار المرؤوسين وأولياء الأمور، فمنحت المتفوق حق اختيار المقطوعة فى الدرس التالي، فصاروا يتنافسون على التفوق لينالوا شرف الاختيار، ذاع صيت التجربة فى الإدارة التعليمية فبادرت المدرسة فى حفلها السنوى فى نهاية العام الدراسى بإضافة فقرة للتحدث عن تلك التجربة وتكريمى شخصيًا لحصول تلاميذى على المراكز الأولى على مستوى الجمهورية .
استمعْتُ إليها بإعجابٍ وإنصاتٍ شديديْن وقلت لها: 
ـ أحب أن أكون أول المهنئين لكِ فى حفلتك القادمة 
أطرقت فى خجلٍ: ليست هناك حفلات قادمة، تلك كانت حفلة استثنائية لتكريمي، ابتسمتُ وصافحتها وأعطيتها رقم هاتفى وانصرفت.
***

لم يمضِ سوى شهرٍ واحدٍ حتى تلقيتُ منها اتصالًا هاتفيًّا تدعونى إلى الأوبرا، كنت أول الحاضرين كما وعدتها ولم تكن تعزف هذه المرة بل تحتفل بها المدرسة لقبول وزارة الشباب والرياضة الترشّح الذى تقدمت به لتصاحب الوفد المصرى المسافر إلى ألمانيا لعرض تجربتها الناجحة فى ربط الموسيقى بالتحصيل الدراسي، ومن هناك يمكنها لو أرادت أن تلتحق بإحدى الجامعات الألمانية لدراسة الموسيقى.
بدت متألقة، تتراقص الفرحةُ فى عينيْها وتتقافز دقات قلبها من فرط السعادة، هنأتها والتقطت لها بعض الصور وأنا أهِم بالانصراف:
ـ سيسعدنى أن أكتب عنكِ قريبًا فى جريدتي، سأحكى عن تجربتك وعن أشياء أخرى لا تعرفينها أنتِ شخصيًّا.
قالت مبتسمة: أشياءُ لا أعرفها! وهل ستخبريننى عن مصدر معلوماتك؟ ضحكْتُ بصوتٍ عالٍ: انتظرى حوارًا صحفيًّا يليق بكِ ويستحق إعجابك، والتفتُّ مُغادرة، فإذا بصوتٍ هادئ يتسلل الى عقلى: ياسيدتى أنا عاشقها المجهول، فضلا لاتكتبيِ عني، اعتبرى هذا سرًّا بينى وبينكِ إلى الأبد.
استدرت لأجد صديقى الكمان الأبنوسى وابتسامة خجلى ترتسم على ملامحه، فأومأت له بالموافقة فاسترسل فى الحديث: تلمس أوتارى بأناملها المدربة فتصدح مشاعرى ملء الكون، أعشقها وهى تعدو خلف أمنياتها دون كلل فتُشعل الحماس فى قلبي، إرادتها والشغف الكامن فى أعماقها يمنح صوتى وأدائى سحرا يسرق ألباب المستمعين، وأود أن أظل رفيقها وداعِمُها إلى الأبد.
ولأننى صحفية فى جريدة الأهرام بقسم الأدب، أصررتُ أن أفشى سر الكمان الأبنوسى كى أفوز بسبقٍ صحفى أتخطى به زملائى فى الترقية، فانتهيت من كتابة المقال وكما كل مرة ترددت فى اللحظات الأخيرة وأجّلت إرساله إلى الغد.