إبداع

عن تشوهات القفص الصدري

كتب: محمد عبدالرازق
كتب: محمد عبدالرازق

فقدت قلبى مرة، ولم أسترده أبداً
يمكن للرجل أن يفقد قلبه بطرق عدة، كحادثة سيارة، أو جرعة زائدة من الهيروين، أو حتى كلمة جارحة، لكنى فقدت قلبى بأسهل طريقة وأعبطها؛ أحببت فتاة صدفة.
 حدث ذلك بسهولة، كأن تشرب كوب ماء لأنك عطشان. كنت أقف على الطريق ورأيتها قادمة من بعيد، أحسست بشيء مختلف فى نبض قلبي، مشيت نحوها وأخبرتها أننى أحبها، ابتسمت وعبرتني. بعد عدة أيام كنت أقف نفس الوقفة، وجاءت هى تمشى نفس المشية. وقفت بجوارى وقالت إنها اكتشفت أيضا إنها تحبني. اتفقنا سويا أن كلاً منا يحتاج الآخر، برغم أننا لم نتفق على مسمى معين لهذا الحب أو الاحتياج، لكن كل شيء حدث بسهولة، وكنت أشعر بقلبى ينبض فى كل الجهات. حتى جاء يوم كنا نسير فى نفس الشارع، وعند نفس الموضع الذى قالت فيه إنها تحبني، أخبرتنى أنها ستتركنى وترحل، هكذا بدون سبب، كما أحبتنى بالضبط. 
على عكس العادة، نمت تلك الليلة مبكرا. عندما استيقظت فى الصباح لم أجد قلبي، أو بالأدق، لم أشعر به. حاولت ألا أقلق، دخلت الحمام، غسلت أسناني، جلست لأفطر، وشربت الشاي، ولم أشعر به بعد. مددت يدى فى حلقي، وعبرت من القصبة الهوائية إلى صدري، بحثت فى الناحية اليسرى، لكننى لم أجده فى موضعه الذى يعرفه البشر جميعا، بحثت فى الناحية اليمنى ولم أجده أيضا، نزلت حتى الحجاب الحاجز، وفتشت فى تجويف صدرى كله ولم أجده. أرجعت يدى ومددتها مجددا إلى المريء ثم إلى المعدة، كررت البحث كثيرا، فى التجويف البطنى كله، لكننى لم أجده. أخيرا اعترفت بالحقيقة، لقد فقدت قلبي. 
فى عيادة الطبيب، تمددت على السرير. قلت له أنا لا أجد قلبي. فى البداية ظن أننى أشتكى من إرهاق اعتيادي، أو حتى قصور وظائف متكرر. لكن بعد فحوصات رسم القلب والأشعة التلفزيونية، وقف لدقائق مصدوما، مسح عرق جبهته وحاول أن يستخرج كلمات يعبر بها عما لا يفهمه. تساءل الطبيب كيف أواصل الحياة هكذا، وأنه لا يصدق ما يرى بعينيه، كيف يمكن لرجل أن يحيا دون قلب؟ 
نزلت من عند الطبيب وقد تركته مهدما من الذهول. مشيت فى الشارع ببطء شديد، كشجرة اكتشفت لتوها أنها إنسان، كنت أتوقف بعد كل خطوة تقريبا، وأسأل أول شخص عن يساري، سؤالاً واحداً  كررته على الجميع: هل فقدت قلبك من قبل؟ لكن أحدا لم يأبه لسؤالى أو يأخذه على محمل الجد، بعضهم مشى مسرعا، والآخرون ابتسموا أو ضحكوا من تفاهة السؤال. أنا الوحيد الذى كنت أعرف إجابته تماما. 
وصلت إلى البيت بعد ساعات من المشى المتقطع. تمددت على السرير، تحسست صدرى كثيرا، على أمل أن أكون أخطأت فى البحث، أو أن يكون قلبى قد عاد إليّ بعد غفوة. لكن شيئا لم يعد. قمت إلى أدراج المكتب حيث أحتفظ بأشيائى الثمينة، أخرجت الهدايا التى أحضرتها لى البنت، كانت ثلاثة أو أربعة أشياء تقريبا، أمسكت زجاجة العطر اللامعة، قربتها من وجهي، لكن لم أشتمها، وإنما فتحت فمي، ومددت بها يدي، لأثبتها مكان قلبي. 
فى الصباح التالي، استيقظت بنصف نشاط، كنت أحس بوجود شيء فى صدري، ليس قلبي، لكنه شىء موجود. نزلت إلى الشارع، لم أسرع فى مشيى أكثر من المعتاد. أحسست بشيء مختلف. جلست على مقعد انتظار الأتوبيس، ووجدت نفسى منتبها لحركات الناس من حولي، ليس الحركات بذاتها، وإنما رائحة الحركات. أصبح لكل شىء رائحة واضحة، يمكننى تمييزها وفرزها من الروائح الأخرى، فلم تطغ أى رائحة على الأخرى، وإنما تمازجت الروائح وتسايرت بشكل منظم تماما. قمت من مكانى وتمشيت فى الطريق، واصلت مراقبة أفعال الناس، وكلى فرح بتلك الهبة التى استعضت بها عن قلبى. لكن الفرح لم يدم أكثر من عدة خطوات، لأن الروائح تكدست فى أنفى ودماغى بشكل قهري، روائح للحب، والقلق، والكراهية، والأمل، وغيرها، لكن أقسى الروائح التى أدمت أنفى كانت رائحة الزيف. تقريبا لأنها الأكثر انتشارا، ومخالطة لكل شيء. جلست على جانب الطريق، أغلقت أنفى بأصابعي، كانت الروائح قد عششت فى دماغي، دببت يدى فى جوفي، ونزعت زجاجة العطر بسرعة، رميتها على طول يدي. هدأ عقلى قليلا، عندما عاد قلبى فارغا. عدت إلى البيت. 
فى الأيام التالية، شكل فراغ قلبى هاجسا لم أتمكن من الفرار منه. أعدت تجريب حيلة أن أضع مكانه شيئا من أشياء البنت التى تركتني، لكن للأسف كان كل شيء أضعه يزيدنى تعلقا بها، أو يوترنى أكثر تجاه الناس والحياة. كتابها جعلنى أكثر تحسسا وأكثر انتباها لحركات الناس وسكناتهم. أما نظاراتها الشمسية جعلتنى أكثر خفية ونفاقا. وهكذا. المشكلة، أننى أدمنت استبدال فراغ قلبى بالأشياء من حولي، كنت أركز على أشياء الفتيات، أستلقطها من الشارع، أو أسرقها فى الحافلات بخفة يد، أو حتى أشتريها من محلات البنات، أو محلات الأنتيكا بشرط أن يقسم البائع أن الشيء يعود فى أصله لفتاة. كل يوم أستبدل قلبى بشيء جديد لفتاة جديدة. وكل يوم أشعر بشعور مختلف. فى النهاية أصبحت مشاعرى كالطعام السريع، مغرٍ جدا، لكنه لا يشبع أبدا. 
حتى قابلت الفتاة التى أضاعت قلبي. كنت أتمشى بجوار فاترينات محلات الأنتيكا، توقفت أمام فاترينة مكتوب عليها بالأخضر، وبداخلها كانت شكمجية متربة. رحت أتأمل الشكمجية لدقائق، وأحاول قراءة الاسم الباهت على ظهرها. فى لحظة، لمحت الفتاة داخل المحل، تتحدث للبائع كأنهما فى مقايضة. لم أتمكن من التيقن هل تبيع أم تشتري. شعرت بفوران فى دماغي، وانتشاءة الأمل الكاذبة أنه يمكنى استعادة قلبي. حتى لو لم يكن معها، فهى على الأقل تعرف مكانه. خطوت الخطوتين بين الفاترينة والباب، توقفت بمحاذاة حلق الباب، عند المنطقة الفاصلة بين الدخول والخروج، واستغرقت أفكر كيف سأسألها بعد تلك السنوات، وكيف أشرح لها ضياع قلبي. توقفت ولم أعبر الباب أبدا.