أمس واليوم وغدا

أول التنوير .. نظافة!

عصام السباعي
عصام السباعي

الكــلام فى ملف التنوير يحتاج إلى حد أدنى من الموضوعية والفهم والتجرد، وأهم شىء هو الصدق الذى يجعلنى أطبق ما قاله الفليسوف «كانت» فى بدايات كتاباته التنويرية: «قد لا أقول كل شيء أعتقد فيه، ولكنى لن أقول شيئا لا أعتقد فيه»، والحقيقة أن كلمة التنوير رغم أهميتها وعظمتها قد أصبحت سيئة السمعة، من كثرة  ترديدها على لسان بعض المفكرين من الدخلاء على دنيا الفكر الذين تمت صناعتهم خصيصا لهدف أو لآخر، فترى بعضهم يكتب فيما لا يفهم، أو يروِّج لما لا يفهمه الناس، أو يحاول أن يفصِّل جلبابا تنويريا جاهزا «فرى سايز» صالحا لكل المسلمين، فكانت النتيجة هى بقاء الأمور على ما هى عليه، وربما زادت تعقيدا، لصالح تلك القوى التى تعرقل التنوير الحقيقى، وتحاول أن تستغل خطايا هؤلاء الدخلاء و«أرزقية التنوير»، وسمعتهم التى تسبقهم، فتصنع حائط صد كبيرا أمام الجهود المخلصة المتجردة التى يقوم بها المسئولون والمفكرون الحقيقيون من أجل تحريك المياه الراكدة فى العقلين العربى والمصرى .

بداية من المهم أولا الاتفاق على أن التنوير ضرورة ملحة وعاجلة، وكل يوم تأخير فيها، يجعلنا نتخلف عشرات السنين، وثانيا أن تلك المهمة تحتاج إلى صياغة وطنية، وثالثا أنها لا يمكن أن تنجح بدون مراعاة خصوصيات متعددة، منها البلد الذى تتم فيه وأوضاع المنطقة، واهتمامات القوى الكبرى وتدخلاتها.
والتنوير يا سادة عملية متكاملة، وتحتاج إلى وقت، وتتطلب قوة دفع فكرية وطاقة تدفعها وتسير بها إلى الأمام، لأنها لو تقدمت خطوة ولم تجد ذلك الدعم، ستعود عشرات الخطوات إلى الوراء، وهناك عشرات الدروس التى رصد الكثير منها، المفكر الكبير صالح هاشم فى كتابه المهم جدا «الانسداد التاريخى .. لماذا فشل مشروع التنوير فى العالم العربى؟»، ويمكن أن نفهم منه أن التنوير لا يمكن أن ينجح إلا إذا كان نتيجة عمل ذاتى لا خارجى، وأن الإصلاح يجب أن يتم بالتدريج، فلا يمكن نقل الناس ـــ غير المؤهلين للانتقال ـــ دفعة واحدة من عقلية القرون الوسطى، ولو تم ذلك سيقودنا إلى زلزال ودمار، وليس إلى ازدهار واستقرار، فالغرب قد أخذ الوقت الكافى لتلك العملية، فقد تم الإصلاح الدينى فى القرن السادس عشر، وتمت الثورة العلمية على مدار القرن السابع عشر، واكتملت الثورة التنويرية والفلسفية فى القرن الثامن عشر، ولم تستقر سوى فى القرن التاسع عشر، وهى النتيجة التى نستطيع أن نرصدها بمرور قرن كامل، ما بين إعلان البابا بيوس التاسع فى عام 1864م،  الذى أكد أنه لا يوجد سوى دين وحيد على ظهر الأرض هو المسيحية الأرثوذكسية وما عداها هرطقة وباطل، ثم إعلان مجمع الفاتيكان الثانى 1965 م بحق الحرية الدينية، وقد احتاجت أوروبا أكثر من قرنين من الزمان لتحقيق تلك المصالحة، علما بأن محاكم التفتيش استمرت فى أوروبا وعلى وجه التحديد فى إسبانيا، ولم تنتهِ سوى فى نهاية القرن الـ19، وعلما أيضا بأن التنوير لا يعنى الإلحاد وما أكثر الفلاسفة المؤمنين فى أوروبا، وعلما ـــ كذلك ـــ بأن التنوير لا يعنى اختفاء الأصوليين، فمازالت الأصولية المسيحية موجود فيها، ولكن تم نزع أنيابها .
ونحن قد قطعنا أكبر خطوة على طريق التنوير فى أعقاب ثورة30 يونيو، وهى كشف وإزاحة تنظيم الإخوان وجذور الإرهاب التى كان يخفيها تحت جلده، ويبدو أن المفكر الكبير هاشم صالح كان يقرأ المستقبل، فقد صدر الكتاب قبل تلك الثورة بنحو ست سنوات، وفيه فقرة كاملة لها معنى استكشف فيها ما حدث بعدها وما يحدث حاليا، يوجه حديثه إلى أولئك الذين لا يتورعون عن التشدق بالديمقراطية، وحقوق الإنسان صباح مساء، ويصفهم بأنهم أخطر من الأصوليين أنفسهم، فهم أشخاص مزوِّرون، يدّعون أن لهم علاقة بالحداثة والحرية، بل يكتبون بيانات من أجل الديمقراطية ، وهم فى الواقع من أعدائها، لأنهم يتعاطفون سرا أو علنا مع جماعة الإخوان المسلمين التى أنتجت كل هذا الوباء الذى نشهده، ويتأكد نفس المعنى بما أكده المفكر التونسى الفرنسى الراحل عبد الوهاب المؤدب فى كتابه «حالة التأزم الحرجة للعالم الإسلامى»، ويؤكد  فيه أيضا أن التيار العقلانى والفكر التجديدى للإمام محمد عبده والأفغانى وعلى عبد الرازق وغيرهم، قد تم إجهاضه وهزيمته أمام فكر حسن البنا وجماعة الإخوان، وكانت النتيجة أننا حصدنا ما حصدناه من مرار وتخلف .
ما أريد أن أقوله إن ما يتم فى مصر حاليا من مشروعات، وما نسير عليه من خطوات، ليس عشوائياً وإنما فى إطار خطة متكاملة للتحديث تحمل عنوان «أجندة التنمية 2030»،  ولاحظوا هنا التوجيه المستمر للرئيس عبد الفتاح السيسى، الذى أكده قبل أيام بتوطين الصناعة والتكنولوجيا فى مصر، فهى جزء أساسى من التنوير، ولا يخفى أن الثورة الصناعية الأولى وطرق التجارة، كانت أحد مفاتيح التنوير والبحث العلمى فى أوروبا، وكل طريق وكل كوبرى، كل مدق فى الصحراء ، كل مدينة وكل مشروع وكل مبادرة صحية أو اجتماعية وفى أى مجال، له مكان فى خطة تحديث البلد، كان الهدف فى الفترة السابقة هو تنشيط الاقتصاد وزيادة القوى الشرائية والطلب فى السوق، والحالية فى تحسين المؤشرات الاقتصادية ووضع البنية التحتية، وتتكامل كلها من أجل بناء كل مقومات المستقبل الأفضل، وإعادة إحياء الطبقة الوسطى، والطبقات البرجوازية التى تحمل مشاعل النور فى كل مكان .
لا يمكن مناقشة الإصلاح الدينى من منطلقات أيدلوجية، ولكن بناء على أسس علمية، وليس بناء على نظريات مستوردة، ولكن على أساس منهج علمى مطور يناسب النص العربي.
لا يمكن أن ينجح التنوير بدون ضبط المصطلحات، المتطرفون قلة، وليس كل مسلم إرهابيا، ولا يمكن محاسبة الكل بتجاوزات البعض .
لا يمكن أن يتم ذلك الإصلاح من جانب شخصيات تسترزق من ذلك الإصلاح، ولو بجائزة كانت تحمل اسم معمر القذافى.
لا أمل فى إصلاح ولا تطوير بدون حركة فنية أدبية قوية، وحملات ترجمة واسعة، ولا بدون مسيرة  نقدية ناضجة، وقيادات نقدية علمية، مقنعة، تعطى ولا تأخذ، تهب، ولا تخطف، وليس فى قاموسها كلمة شلة ولا شللية .
لا يمكن لجاهل أن يقود الناس إلى النور.
لا يمكن أن تنير عقل مجتمع أو أى إنسان فقير وجيبه خاوٍ، وصحته مضطربة.
لا يمكن أن تستلهم تجربة التنوير الأوروبية، بأمراض مجتمعات، أفرزتها حروب دينية، وعالمية وفاشية، فنبدأ بالدعوة للإلحاد والشذوذ والمثلية الجنسية.
يبقــى الأمل فى أن تدخل الثقافة والفنون وبقوة وبدور محسوس فى تلك العملية، فلا تحديث ولا تنوير بدون الفلسفة والفكر والثقافة الحقيقية لا السطحية ولا المعلبات المستوردة منها، ولا نجاح بدون أن يكون الكل شريكا مخلصا فى الوطن، والحد الأدنى لذلك الإخلاص أن ينظف كل واحد منا أمام بيته .. فوق مكتبه .. فى مصنعه وعيادته ومعمله .. فالتنوير  يحتاج إلى نظافة!