أمس واليوم وغدا

التنـويـر علــــى الطريقة المصرية

بقلم : عصــام السـباعى :essamsebaie@yahoo.com
بقلم : عصــام السـباعى :[email protected]

قضايا التنوير من الموضوعات المهمة ذات الأولوية، ليس فقط بالنسبة لبلد مثل مصر، ولكن أيضا بالنسبة للبلاد التى نبع منها التنوير الأوروبى وسطع نوره فى كل العالم، والتى كانت التربة الخصبة التى نبتت ونمت فيها بدايات النهضة الأوروبية، وربما يكون العنوان واحدا، ولكن المضمون مختلف تماما بين الأولويات هنا فى بلد مثل مصر أو الجزائر أو حتى فى فرنسا، يكفى فقط متابعة القانون الفرنسى الجديد الخاص بحماية أسس الجمهورية الفرنسية أو باسمه القديم الخاص بمكافحة النزعة الانفصالية، وهو السبب الرئيسى ونقطة الانطلاق فى  ذلك المقال، لأن قضايا التنوير بطبيعتها ليست منفصلة عن الحركة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فهو أحد نتائج كل تلك العوامل، والأمر الثانى أنه يحتاج لوقت وزمن، وخذ عندك على سبيل المثال: حق المساواة الذى نادى به جان جاك روسو المتوفى 1778م، لم يتحقق سوى فى عام 1944 عندما حصلت النساء الفرنسيات على حق التصويت، وحتى الرق واستعباد الزنوج الذى رفضه وأدانه معظم فلاسفة التنوير، لم يصبح واقعا إلا فى نهايات القرن التاسع عشر، ومازالت بقاياه موجودة فى زمننا الحالى حتى فى فرنسا أم التنوير.

تلك‭ ‬القضية لا يمكنك أن تفهمها من المفكرين والتنويريين المصريين، لأسباب عديدة أبسطها هو غياب الموضوعية، وأعقدها تحول تلك القضية إلى باب رزق للبعض، ولو جاز لى القول، فأنا أرى أن أفضل من تقرأ له فى ذلك المجال هو تلميذ أركون المفكر السورى والعربى الكبير هاشم صالح، وقد تناولها فى عدة كتب أرشحها للقراءة لكل من تهمه تلك القضية، ومنها: "الانسداد التاريخى.. لماذا فشل مشروع التنوير فى العالم العربى".. مدخل إلى التنوير الأوروبى.. الإسلام والانغلاق اللاهوتى.. مخاضات الحداثة والتنوير.. وكذلك الكتاب الأهم بالنسبة لى وهو "معارك التنويريين والأصوليين فى أوروبا"، ولا أخفيكم سرا لو قلت إننى قرأته لعدة مرات، وفى كل مرة كنت أتوقف عند الجزء الأول فى الكتاب الخاص بتناوله للكتاب العبقرى للمفكر الفرنسى الكبير ريجيس دوبرييه وهو كتاب "الأنوار التى تعمى"، ومما قاله: إن التنوير قد يعمى العيون عن أشياء كثيرة. وهو هنا يتحدث فى إطار الحالة الفرنسية، التى حولت التنوير إلى وحش مادى يطغى على كل شىء، وبتعبيرنا فالشىء إذا زاد عن حده انقلب لضده، ويفرق هنا بين التنوير العميق على طريقة جان جاك روسو، والتنوير السطحى على طريقة فولتير وتابعيه أصحاب الأفق الضيق، تماما كما تفرق بين التنوير العميق الذى دعا له فى منطقتنا الدكتور طه حسين، والتنوير التغييبى الذى يدعو له البعض حاليا، ومبتغاه تحقيق أقصى الحريات الشخصية فى الكتابة والنقد ورفض الدين وحرية بلاحدود فى الجنس والشذوذ الجنسى وغير ذلك.

توقفت كثيرا عند الفقرات التى  ركز عليها هاشم صالح وتتعلق بزيارتين قام بهما المفكر الفرنسى دوبرييه للقاهرة، ويقول عنهما: فوجئت بمدى التغيير الذى طرأ على المشهد الثقافى المصرى، فقبل عشرين سنة عندما زرتها لأول مرة، لم تكن هناك محجبات كثيرات، أما الآن فالحجاب يطغى فى كل مكان، فهل انتهى عهد هدى شعراوى يا ترى، كما لم يكن المثقفون المصريون يبدأون كلامهم باسم الله، ولكن ببعض الاستشهادات من ماركس أو سارتر أو عبد الناصر، فماذا حصل لهم يا ترى، هل انتهى عهد لطفى الخولى ومحمد سيد أحمد وبقية العلمانيين، أين ذهبوا وتبخروا؟! 

يشير المفكر الفرنسى إلى أنه تجول فى شوارع القاهرة فى العام 2006، وفجأة وقعت عيناه على بعض الكتب التى تزعج المثقف الغربى، مثل كتاب "كفاحى" لهتلر و"بروتوكولات حكماء صهيون"، وعندما يلتفت إلى مرافقه المترجم، ويسأله: ما هذا؟.. هل يعقل ذلك الاهتمام بتلك الأدبيات الرثة، فيتلعثم المرافق ولا يدرى بماذا يجيب!

الخلاصة أن  ذلك المفكر وهو يعيش فى فرنسا وجّه انتقاداته اللاذعة للتنوير فيها ودعا للتخفيف من طغيانها، وعندما زار القاهرة كان من أكبر المدافعين عنها ودعا إلى دعمها، وبالطبع فهو يشير إلى تحولات تحدث فى المجتمع، دعته إلى اتخاذ هذا الموقف أو ذاك، وبالتالى يكون من المنطقى أن يرى أن هناك خطأ ما فى إدانة البعض لسلوك المتعصبين الإسلاميين، وانتشار حركات التطرف فى مجتمعاتهم، بينما يعيشون فى شققهم الفاخرة فى باريس ولندن وبرلين، ويقول: نحن نعيش فى عالم لا يرى بعضه الآخر، عالم الأغنياء المتغطرسين، وعالم الفقراء المحرومين، فالمشكلة أعقد وتحتاج لنفهم مشاكل هؤلاء الناس من الداخل، ويعقد هنا مقارنة بين وضع الأراضى الفلسطينية المحتلة ووضع الضواحى المغاربية الإسلامية، والأحياء الإسلامية الفقيرة فى باريس، ويقول: "لا فرق بينها فى الذل والقهر".

ما‭ ‬أريد أن أقوله إن  التنوير قضية مجتمعية ثقافية، فلا تنوير لمجتمع فقير مادياً وثقافياً، وأن المحلل والمراقب لما يحدث فى مصر، يدرك أن هدف كل ما يتم من مشروعات ومبادرات فى العديد من المجالات، هو تحسين جودة حياة المواطن المصرى بصفة عامة فى الحياة والصحة والتعليم والصناعة والزراعة وكافة الأنشطة، وكلها تستهدف تحسين معدلات النمو والفقر، وخلق فرص العمل، ومحاربة العشوائيات وتحقيق نتائج ملموسة يشعر بها الناس، والارتقاء بالذوق العام والشفافية والمصارحة والثقة والعدل، وكل ذلك جزء مهم من عملية التنوير بما لها من خصوصيات مجتمعية، وبوصفها عملية تراكمية تحتاج إلى وقت، نحصد بشائر نتائجها حاليا، ويقطف ثمارها الأجيال التالية، من أجل صناعة مستقبل أفضل لمصر.

 ويبقى للكلام بقية فى  قضية "التنوير على الطريقة المصرية".