يوميات الأخبار

«التحرش بالأهرام».. هواية ملعونة عابرة للعصور!

علاء عبدالوهاب
علاء عبدالوهاب

هيرودوت يمارس كذبا بشعا وافتراء بالغا، ثم يأتى ديورانت ليعتمد روايته دون أى محاولة لتفنيدها، أو تمريرها على عقله.

الاثنين ١٨ يناير (صباحا) :
«هل استوحى الفراعنة الأهرامات من مدافن فى شمال لبنان؟" تحت هذا العنوان المثير، نشرت صحيفة عربية تقريرا من بيروت، يصاحبه مجموعة من الصور لأكواخ أو خيم حجرية، ذات علاقة مشوهة بالشكل الهرمى، بعد اكتشاف مدفن رابع فى عكار بشمال لبنان، وفى السطرين الرابع والخامس من التقرير أعاد تكرار الزعم الذى طرحه فى العنوان.
الأكثر إثارة أنه سبق العنوان الرئيسى، عنوان فرعى من نوعية اللامعقول، فقد صاغته المحررة على النحو التالى: "جبل أكروم" ينام على أسرار قد تغير فهمنا لتاريخ المنطقة(!!!).
فى مثل هذه الأحوال يلجأ المحرر المحترف، الذى يلتزم بالأصول والقواعد المهنية لأهل العلم والمعرفة، لكنها لجأت لرئيس مجلس البيئة فى المنطقة، وإلى راهب راحل كتب من ٧٠ سنة عن آثار المنطقة، وإلى دليل جبلى، ثم مصادر مجهلة أشارت إليها بأن "هناك من يعتقد بأن هذا الشكل الهرمى للمدافن سبق الأهرامات"! ثم من وصفتهم بـ"أثريون آخرون يعتبرون أن هذا الموضوع يحتاج لمزيد من البحث والتدقيق، ولا يزال الوقت مبكرا للخروج باستنتاجات"، وقد جاءت هذه الشهادة فى نهاية التقرير، أو بصيغة أدق "فى ذيله"!
ألف باء التزام مهنى يفرض على من يحرر موضوعا مثل ما نحن بصدده، وقبل أن يذهب إلى ما تم طرحه فى العناوين، ثم فى المقدمة، التوجه إلى الاثريين أولا، ويبدو أن من لجأت إليهم رفضوا مجاراتها فى مزاعمها، أو انه لم يكن هناك أثريون من الأساس توجهت إليهم، ولكنها حاولت أن يكون ثمة "خط رجعة" إذا ما جاءت ردود الفعل شديدة، وأن يتصدى لتلك المزاعم من يفندها.
فى التفاصيل، ثمة إشارات كفيلة بهدم المزاعم التى قفز إليها التقرير: مثلا فإن ارتفاع المدفن نحو  ثلاثة أمتار، ويتكون من ألواح حجرية، لا كتل .
كنت أتمنى أن تسمح طبيعة النشر لليوميات بأن تصاحبها الصور، كنت عندئذ ارفقت هذه "السطور بالصور المنشورة مع التقرير العجيب ليرى القارئ انعدام العلاقة بين تلك المدافن وأهرامات مصر، حتى أكثرها بدائية وتواضعا.
الأمر -برمته- لا يتجاوز عملية تحرش أو كما يقول أولاد البلد "تماحيك" فى تاريخنا العظيم!
مجرد تخاريف وادعاءات
الخميس ٢١ يناير :
اهتمامات متنوعة، وهموم وانشغالات متعددة باعدت بينى وما قرأت من ترهات وتخاريف تتنافى مع منطق الأشياء، فى محاولة هزلية بامتياز للاجتراء على تاريخ أهراماتنا.
مرت ثلاثة أيام قبل أن تسيطر علىّ رغبة عارمة فى استرجاع محاولات يصعب حصرها إما بالاساءة لبناة الاهرام، أو سرقة التاريخ ونسب بنائها لغير أبناء مصر!
عمليات فلاش باك تتلاحق على ذاكرتى.
من ذهب إلى أن كائنات فضائية حطت بأطباقها الطائرة فى مصر، وقام ركابها بتشييد هرم خوفو، وغيره من أهرامات!
من قال إن سكان قارة أطلنطا الغارقة جاءوا إلى مصر قبل غرق قارتهم، وأنهم من بنوا أهراماتنا، وكان البناء على شكل المعابد المقامة فى قارتهم المفقودة!
من تكهن أنه وقبل عشرة آلاف سنة وصل إلى مصر من شيدوا هرم خوفو ليس كمقبرة أو مدفن، وإنما لأغراض أخرى، وغايات يعلمونها، وعلينا البحث جديا فيما فكروا فيه!
ومن نسب البناء إلى قبائل البربر التى جاءت من الغرب!
هناك من أكد أن رحالة ومستكشفين من قارات أخرى، من آسيا وأمريكا الجنوبية وأوروبا،أبحروا وتكبدوا عناء رحلات يمكن أن يدفعوا حياتهم ثمنا لها، وشيدوا على غرار ما هو قائم فى مواطنهم الأصلية، وربما كان هرم خوفو مجرد "باترون" أو نموذج قلد المصريون القدماء ما شاهدوه، وبدأوا فى بناءأهرامات على غراره!
و... و.... و...
ثم يأتى الادعاء القديم المتجدد من جانب اليهود، بزعمهم أن أجدادهم شيدوا الأهرامات ، على خلاف الوقائع التاريخية الثابتة التى تؤكد انه لم يكن لليهود وجود بالأساس فى مصر، خلال المرحلة التاريخية لعصر الأسرة الرابعة التى ينتمى إليها الملوك العظام خوفو وخفرع ومنقرع.
لكنهم لا يكلون، ولا يملون من التحرش بالتاريخ المصرى، لاسيما الفرعونى، فى محاولات فاضحة لتزييف تاريخ بناء الأهرامات، خاصة هرم خوفو، وربما كان أقربها مزاعم مناحيم بيجين رئيس وزراء الكيان الصهيونى، وتبجحه - قبل أربعة عقود- بأن أجداده هم من بنوا الأهرامات، الأمر الذى لم يستدع إلا السخرية، لأنه لا يستند إلى شواهد تاريخية تدعو لتصديقه.
افتراءات هيرودوت المعتمدة!
الأحد ٢٤ يناير (مساء):
لا بأس أن يذهب أصحاب التفكير الأسطورى فى دروب عدة، عند تفسيرهم حتى للوقائع التاريخية الثابتة، لكن ماذا عساهم أن يسعوا، وهم المؤرخون الثقاة، إلى ما يهز مكانتهم، عندما يتخلون عن أى أداة منهجية فى فحص وتمحيص ما يخطونه ليصبح مراجع معتمدة؟
امتدت يدى لأتناول المجلد الأول من "قصة الحضارة" لـ"ديورانت"، فإذا به يعتمد شهادة مستقاة من كتاب "هيرودوت يتحدث عن مصر"، فإذا به ينسب إلى خوفو صاحب الهرم الأكبر ارتكاب كل أنواع الخبائث، وتسخير المصريين لخدمته وحده و... و... "ووصلت شرور خوفو - طبقا لهيرودوت- الحد الذى جعله بعد أن صرف كل أمواله وأراد المزيد أن يرسل ابنته إلى بيوت الدعارة ويأمرها أن تحضر له مبلغا معينا من المال، ولست استطيع معرفة كميته لأنى لم اسمع ذلك من أحد هكذا يقول(!!) وحصلت على المبلغ، وفى الوقت ذاته رغبت فى أن تترك أثرا يخلد ذكراها، فطلبت من كل رجل أن يقدم لها هدية من حجر ليفيدها فى العمل الذى كانت تفكر فيه، ألا وهو بناء هرم خاص بها"!!
هيرودوت يمارس كذبا بشعا وافتراء بالغا، ثم يأتى ديورانت ليعتمد روايته دون أى محاولة لتفنيدها، أو تمريرها على عقله، وكأنه استملح ما قاله رجل تفصله عن المرحلة التى يؤرخ لها آلاف السنين، أليس لقبه "أبو التاريخ"!
الأدهى أن يقتفى أثر ديورانت عالم الآثار الشهير أ. س. ادواردز فى كتابه "اهرام مصر" فيقتبس ذات الفقرة تماما كما فعل الأول، وكأنه ينقل عن كتاب مقدس، أيضا دون أى محاولة للتفنيد أو إعمال المنطق!!
الأكثر غرابة أن ديورانت يرى فى حرص بناة الاهرام على الضخامة شيئا من النزعة الهمجية البدائية! لكن ما بث فى صدرى الدفء وأنا أكتب فى عز البرد، أن المترجم لجأ للدكتور محمد إبراهيم بكر لأنه من أهل الاختصاص، ليعلق على تبجح صاحب قصة الحضارة بقوله: آمن المصريون القدماء بالبعث والخلود، وكان لإيمانهم هذا تأثير بالغ على كل مظاهر حياتهم، وحرص المصريون زمن الأسرة الرابعة، عصر بناة الأهرام، على عنصر الضخامة هو نوع من تحدى عوامل الفناء، ومحاكاة الطبيعة فى بناء مقابر هرمية من الأحجار كالجبال، هو تطبيق صادق لإيمانهم بالخلود، والمؤلف -يقصد ديورانت- نسى أن الفنانين المعاصرين لبناء الأهرام، قد أبدعت ايديهم آيات من روائع فن النحت لتماثيل الملوك والأفراد التى تزخر بها المتاحف المصرية، والرسوم الجميلة التى زينت جدران المقابر بمنطقة أهرامات الجيزة.
التعليق لا ينم عن غيرة وطنية، وإن كان ذلك مقبولا وواردا، ولكنها قبل ذلك وبعده الأمانة العلمية والموضوعية التى يجب أن يتحلى بها العلماء والمؤرخون، دون تحيزات تفقد الكتابة التاريخية مصداقيتها وموضوعيتها، وللأسف رغم تعمد الافتراء تصبح وكأنها حقائق معتمدة!
البناؤون العظام
الثلاثاء ٢ فبراير:
قبل أكثر من أربع سنوات شرفنى بالزيارة د. زاهى حواس، وكنت وقتها رئيسا لتحرير كتاب اليوم، كان غرض الزيارة الاتفاق على نشر كتاب عن أسرار مصر القديمة، إلا أن تقييمى للمادة جعلنا نتفق معا على كتابين، لا كتاب واحد.
يومها أهدانى د. زاهى كتابه "بناة الاهرام"، وفيه رد مفحم عن كل من ادعى أن غير المصريين هم بناته، ، والأهم أن الأهرام لم تبن بالسخرة .
الكتاب قليل فى صفحاته، لكنه خطير فيما كشف عنه من حقائق .. يؤكد د. زاهى أن الكشف عن مقابر بناة الأهرام أوضح للعالم كله، ان المصريين هم بناة الأهرام، وأن الأهرام لم تبن بالسخرة، بل بنيت بالحب والعقيدة الراسخة.
تعود الوقائع المهمة إلى العام ١٩٩٠ اثناء عمليات للحفر بحثا عن مقابر العمال الذين بنوا الهرم الأكبر، ولعبت الصدفة دورها حين سقطت سائحة من فوق صهوة جوادها، إذ اصطدم حافره بجدار من الطوب اللبن على بعد عشرة أمتار فقط من موقع الحفائر، حينها صاح د. حواس : هذه هى مقابر العمال بناة الأهرام، والمثير ان كل مقبرة كانت تأخذ شكلا يشبه الشكل الهرمى، أو تعد بمثابة صورة مختزلة منه.
لم يكن كشفا أثريا مهما فقط، إنما كان كشفا له أثره فى نفوس فريق، د. زاهي، لأنهم أمام بناة الاهرام، ومن المكتشف؟ المصريون ولا أحد سواهم.
تأكد انه لا صلة لأى حضارة مفقودة بالأهرام، ولا اليهود أيضا لهم أية صلة بالأهرام، فما زاد اليهود عن كونهم خدما فى المنازل المصرية فى أعقاب احتلال الهكسوس.
فى ختام الكتاب يقول د. زاهى: إذا كنا نعجب دائما من عبقرية المصرى فى بناء الهرم، فإن العجب الأكبر يجىء من كيفية إدارة هذا المشروع العملاق: الهرم.
وإذا كان لى أن أعلق، فلابد من الإشادة بالعناق بين روعة الإنسان وعبقرية المكان ليصنعا تاريخاً عظيماً.