أمس واليوم وغدا

عاشت مصــــر ويحيا السودان

عصــام السـباعى
عصــام السـباعى

ما جمعه التاريخ واحتوته الجغرافيا، وصهرته الدماء الواحدة، لا يمكن أن يفرقه كائن أو أى شىء مهما كان، هكذا حال مصر والسودان شقيقين يعيشان فى بلد واحد كشعب واحد، الأول فى الشمال وشقيقه فى الجنوب، يربطهما شريان يضخ الحياة فيهما هو نهر النيل، ووريد لا تراه العيون، بحيث إذا مرض الأخ الشمالى، تأوه «الجنوبى»، وإذا  اشتكى واحد منهما، سارع الآخر متلهفا إليه، فكلاهما السند والظهر والحمى لبعضهما البعض.

شعبان عريقان تمتد جذورهما فى أعماق التاريخ، أرض كيميت، وأرض «تا ـــ سيتى» وكوش، مدن طيبة ومنف، بجانبهما مدن كرمة ونورى ومروى، ونبتة، هرم خوفو وهرم الملك العظيم تهراقا، معابد آمون فى الجانبين، نساء عظيمات بداية من الملكة حتشبسوت، الجميلة نفرتيتى  فى الشمال، والملكة المحاربة أمانى شاخيتو والملكة الكنداكة أمانى ريناس، زوجة الملك النوبى ترتيقاس فى الجنوب.. وكوكب الشرق أم كلثوم التى غنت فى الخرطوم، وحواء الطقطاقة كوكب الجنوب، التى شدت بصوتها فى القاهرة، هنا وادى الملكات وتونا الجبل، وهناك جبل البركل المقدس والمسكن الجنوبى للإله آمون  داخل حدود مملكة نبتة الخالدة، ومنذ الأزل، زرع الله فى جنودهما الشجاعة والبسالة، وفى أبنائهما روح الصوفية والشهامة، وتلك الخلطة السحرية التى صهرت شخصية «ابن البلد» فى مصر و «الزول» فى السودان.
هناك الكثير الذى يمكن ذكره بشأن تلك الخصوصية، وهناك الكثير الذى يمكن ذكره أيضا عن مؤامرات تعرضت لها علاقات الشقيقين عبر العصور، بهدف الوقيعة بينهما، فهما بخير مادامت العلاقات بخير، ومن لا يرد لهما الخير، يعمل على إحداث الفتنة بينهما، بإثارة خلافات طبيعية لا يسلم منها أبناء الأم والأب، ومن الممكن احتواؤها بسلاسة وهدوء وإيثار، أو من خلال فرق وجماعات تبث الطاقة السلبية فى مجرى نهر العلاقات، أو تشيع الفرقة وتطلق النعرات الكاذبة، أو تشحن الصدور وغير ذلك كثير، سواء  بعد  الاستعمار البريطانى الخسيس، أو بعد الاستقلال، وحتى اليوم فى عصر مابعد الثورتين العظيمتين «25 يناير ـــ 30 يونيو» فى مصر، و «ديسمبر» فى السودان، التى ساندتها مصر وعملت على دعم  كل خيارات الشعب السودانى الشقيق.
وعلى هذه الخلفية كانت هناك أهمية كبيرة لتأكيدات الرئيس عبد الفتاح السيسى المتواصلة بأن موقف مصر تجاه السودان الشقيق، ينبع من الترابط التاريخى الذى يجمع شعبى وادى النيل، وأن ذلك الموقف لم ولن يتغير تحت أى ظرف، باعتباره نهجًا ثابتًا للسياسة المصرية على مدار الزمن، وهو الأمر الذى تم تأكيده مجددا فى اللقاء الذى جمع الرئيس السيسى، مع الفريق أول ركن شمس الدين كباشى، عضو مجلس السيادة الانتقالى السودانى، الذى زار مصر قبل أيام، على رأس وفد رفيع المستوى، وحضره الفريق أول ركن جمال عبد المجيد مدير المخابرات العامة السودانية، والسيد عباس كامل رئيس المخابرات العامة، وتم خلاله بحث العلاقات الثنائية والقضايا الإقليمية الراهنة محل الاهتمام المتبادل، وفى مقدمتها بطبيعة الحال مايحدث فى منطقتى القرن الأفريقى وحوض النيل، وتبع ذلك الزيارة التى قام بها اللواء عباس كامل للعاصمة السودانية، حيث استقبله رئيس مجلس السيادة الانتقالى السودانى عبد الفتاح البرهان، حيث تم كذلك بحث القضايا ذات الاهتمام المشترك فى إطار جهود البلدين الشقيقين لتطوير العلاقات بينهما وتعزيز التعاون المشترك.
ما يهمنى الإشارة إليه أن الأمن القومى المصرى والسودانى وجهان لعملة واحدة، وأن هناك شراكة استراتيجية تعكس المصالح المشتركة بين البلدين فى العديد من المجالات، وتعمل على تنفيذها العديد من الآليات الرسمية لتحقيق آمال وطموحات وتطلعات الشعبين، وأستطيع أن أقول إن تحقيق الآليات الشعبية لا يقل أهمية عن تلك الرسمية، خاصة مع حالة التمازج والانصهار بين المجتمعين أمس واليوم وغدا، ولا أخفى هنا سعادتى بتدشين المبادرة الشعبية المصرية لدعم العلاقات بين مصر والسودان، والتى تضم  العديد  من الكوادر والنخبة المصرية فى تخصصات مختلفة، فى استجابة لتكوين لجنة مماثلة فى «الخرطوم»، وأعتقد أن هناك دورا كبيرا ومهما لمنسقى المبادرتين الدكتورة أمانى الطويل والسفير دكتور على يوسف فى تنفيذ الأهداف السامية التى ينتظرها الجميع لصالح شعبين من أصحاب التاريخ والحضارة والفن والأدب.
أرى أن تلك الخطوات الشعبية أساسية فى المرحلة القادمة، وخاصة فيما يتعلق بكشف المؤامرات والحروب الإلكترونية التى تتعرض لها العلاقات المصرية السودانية، وخاصة على منصات مواقع التواصل الاجتماعى، إضافة إلى الأخبار المضللة والملونة التى تستهدف تعكير هذه العلاقات، والرصد الإعلامى لكل ماينشر عن البلدين، فكم من مرة حدث ذلك وتسبب فى تضليل البعض هنا أو هناك  بأخبار كاذبة، وأتمنى أن تعمل المبادرة على تحقيق هدفها فى التواصل بين الإعلام فى البلدين، وتدشين العديد من المشروعات، وخاصة ما يتعلق على سبيل المثال بإقامة معارض للسلع المصرية التى توفر احتياجات الأسرة السودانية بأقل هامش ربح، أو إنتاج العديد من مشروعات التعاون الفنى والبرامجى بكل أنواعه، بحيث يكون وجود تلك المبادرة مؤثرا فى الحياة اليومية للناس فى البلدين، أتمنى تكرار تجارب الغناء فى مصر على السلم الخماسى الموسيقى الذى تشتهر به السودان، كما فعلت الفنانة الراحلة شادية، أتمنى جهدا أكبر فى نشاط الأوبرا مع الحفاظ على الإجراءات الاحترازية، أو حتى  أونلاين عبر الإنترنت.
أتمنى لو شاهدت نجوم مصر والسودان، وهم يعيدون غناء تلك القصيدة العظيمة التى سبق وغنتها شادية فى خمسينيات القرن الماضى، والتى تقول : «هيا يا سودان يا أخت الحمى فلنعش حرين أو نرضى الفنا.. أيها التاريخ سجل أننا.. قد سئمنا أن نرى ما بيننا، شبحا يفرقنا عن بعضنا. يبذر الأحقاد فى أكبادنا، نحن شعب النيل قد أنجبنا.. توأمان لن يحولوا بيننا، آن يا أختاه وقت العمل.. هاك يا أختاه نور الأمل، أقدمى يا مصر يا عروس النيل.. أنت بنت النصر أنت فخر الجيل، أيها القلب الشقيق.. إن ماضيك العريق.. نورنا عبر الطريق». أو أن أسمع من يغنى كلمات جميل البندارى: «يا جاى من السودان لحد عندنا..  بالتمر من أسوان والقلة من قنا.. يا نعمة من السودان بعتها ربنا.. ومن عمر الزمان وأنت بقلبنا».
عاشت مصر ويحيا السودان.. يعيش السودان وتحيا مصر.