من دفتر الأحوال

«جاكتـة» الانتفاضـة

جمال فهمى
جمال فهمى

قبل أيام مرت الذكرى الـ٤٤ لانتفاضة الشعب المصرى المعروفة باسم انتفاضة ١٨ و١٩ يناير، وسوف أكرس هذه السطور للاحتفال بها، وسأغرف حالا من مخزن ذكريات مشاركتى فيها متظاهرا ثم سجينا.

 

بدأت الانتفاضة وأنا بعد غر صغير، وانتهت بأول رحلاتى السياحية فى زنازين وتخشيبات وسجون الوطن، غير أن تلك "الحبسة" الأولى ظلت أكثر "حبساتي" ثراء وأشدها تميزا وتأثيرا فى وجداني، على الأقل لأنها لم تخل من مشاهد وحكايات طريفة جدا، بل إن بعضها رغم "ميلودراميته" الفاقعة، يفطس من الضحك.

 

وسأكتفى الآن برواية واحدة فقط من هذه الحكايات، وقد اخترتها، ليس لأنها الأطرف والأظرف وإنما لأن "الحبسة" كلها بدأت بها.

 

كان انضمامى لموكب المعتقلين بتهمة التحريض والمشاركة فى الانتفاضة، تأخر إلى عصر يوم 12 فبراير 1977، أى بعد إعادة افتتاح الجامعة التى كان صدر قرار بإغلاقها مع تفجر الأحداث.

 

فى صباح هذا اليوم حاولت حفنة من الطلبة الناشطين فى جامعة القاهرة الذين أفلتوا من حملات الاعتقال تحدى مناخ الخوف والإرهاب الذى كان مخيما على البلد آنذاك بعدما استعاد نظام المرحوم الرئيس أنور السادات زمام الأمور، وفى أول ظهور علنى له عقب خمود الانتفاضة أصر على دمغها بأنها مجرد "انتفاضة حرامية"، وطلب أمام عدسات التلفزة من الأستاذ فوزى )عبد الحافظ سكرتيره( أن يناوله "قلم الإمضاء"، فلما ناوله فوزى القلم وضع توقيعه علنا فوق ورقة قال للناس إنها تحمل نص قانون يجعل "السجن المؤبد"عقوبة كل من يشارك فى مظاهرة أو "يحبذها" أو "يشجعها"!!

 

نجحت محاولاتنا واستطعنا بجهد ليس قليلا جمع بضع مئات من الطلاب فى تظاهرة طافت بكليات الجامعة حتى استقرت فى الباحة الرئيسية أمام قاعة جمال عبد الناصر وقد تضاعف عددها مرات عدة، وأغرانا العدد الكبير فى تحويل المظاهرة إلى مؤتمر ضخم انتهى بإعلان تأسيس ما سميناه "اللجنة العليا للتضامن مع الطلبة المعتقلين"، وقد تبوأ العبد لله منصب منسقها العام.

 

لكن ما ان انفرط عقد المؤتمر حتى بدا واضحا أن أعضاء "لجنة التضامن" تلك ربما سيحتاجون قريبا جدا لمن يتضامن معهم، إذ ظهرت للتو حشود من المخبرين وضباط أمن الدولة أخذت تنتشر وتعشش وتتلطع فى كل زاوية، ورأينا عيونهم تترصدنا وتلاحقنا كلما تحركنا، تعبنا وسلمنا أمرنا لله، وقررت أنا واثنان من الأصدقاء أن ننهى هذا الموقف العبثى ونغادر الجامعة معا واللى يحصل يحصل، غير أن الصديقين ركبا رأسيهما وأصرا ألا يخرجا من باب الجامعة إلا بعد أن يستنفدا كل وسائل "التمويه الاستراتيجي" وتطبيق نظرية "الحرب خدعة" بحذافيرها، لهذا اختفيا من أمامى دقائق معدودة ثم فوجئت بهما يعودان وقد استبدلا سترتيهما من دون أن يهتما بالاختلاف البين والفادح فى طول وعرض كل منهما!!

 

قاومت الضحك من منظر الصديقين، وتحرك ثلاثتنا نحو باب الجامعة الصغير المقابل لمنطقة بين السرايات غير أننا ما إن خطونا خطوة واحدة بعد الباب حتى وجدنا الأفق كله ينسد أمامنا، إذ انشقت الأرض عن حائط من جثث ضخمة انتصب فجأة قاطعا الطريق علينا، وفى لمح البصر انقسمت هذه الحيطة لحيطتين إحداهما انقضت على الصديقين، وتفرغت الثانية لعبد الله الفقير.. وبينما أنا مُنتزع وغائص تماما فى بئر الجثث، كان بمقدورى أن ألمح على وجهى رفيقاى فى رحلة السجن التى بدأت للتو، علامات دهشة واستغراب شديدين، وبدا كلاهما وكأنه يسأل نفسه: لماذا ياترى لم تنجح خطة التمويه الاستراتيجى القائمة على تبادل الجاكتتين؟!

 

لحظتها لم يكن بوسعى أن أقول لهما: إن الخطة فشلت ليس بسبب ذكاء رجال المباحث، ولكن لأن هؤلاء قرروا القبض على الجاكتتين وخلاص، ثم بعد ذلك يفرزونهما ويتعرفون على سكانهما، براحتهم!!