لوحات فنية تتلاعب بالجينات الوراثية

إيفلين عشم الله تحلق بريشتها فى فضاء الكائنات المهجنة

لوحات من الثمانينيات
لوحات من الثمانينيات

فاطمة على

استطاعت الفنانة المصرية، إيفلين عشم الله، التحليق مبكراً فى فضاءٍ فنى مغاير عن السائد لسنوات طويلة فى الفن التشكيلي، عبر لوحات قفزت فيها بخيالها إلى عالم الكائنات المهجنة، وبعد سنوات طويلة من تنبؤات عالمها الفنى المُهجن فوق أسطُح لوحاتها، بدأت محاولات لفنانين عالميين يستلهمون فنهم من نتائج أبحاث العلم حول التلاعب الجينى والتعديل الوراثى فى فنونهم داخل مراسمهم التى تحولت إلى ما يشبه المعامل التجريبية فى الفن إلى حد تجريب الفنان على نفسه.. والأمثلة عديدة فهناك الفنان استيلارك المعروف بأدائه الفنى الذى يعتمد على الانتقال بالجسم البشرى إلى أقصى حدود التعديل، وقد زرع بعملية جراحية أُذناً فى الجزء الداخلى لذراعه اليسرى مستفيداً بأبحاث الجينوم، وبالفعل تمت العملية بعد مشكلات خطيرة أثناء تدوير موضع الأذن حول الذراع.
وفى عام 1994 لعب الفنان ماثيو بارنيه فى الجينات، فأطال الأذنين ومنطقة أعلى الحاجب الأيسر، بينما فى عام 2000 قام الفنان إدواردو كاك بعمل فنى بيولوجي، حيث صبغ أرنباً سماه "ألبا" بلون أخضر فوسفوري، وقد أدخل اللون إلى جسد الأرنب من بروتين متوهج لقنديل بحر، بخلاف الفنان الأشهر داميان هيرست، الذى قدّم خنزيراً بجناحين محفوظاً داخل سائل الفورمالين.
ومنذ أكثر من 30 عاماً، وقبل فوز إيفلين عشم الله بالجائزة الأولى فى مسابقة "فاوست" العالمية عام 1992، كأول مصرية تفوز بهذه الجائزة عن رسمها شخصية "هومونكولوس"، وهى صفة الشخصية الذى باع نفسه للشيطان فى رواية الأديب الألمانى "جوته"، توهجت لوحاتها عام 1983 بظهور الحيوان الديناصورى الأزرق، وكذلك فى عام 1988 برسمها عملاً رائعاً لطائر مُهجن برأس إنسان يرتكز بثبات فوق كرة تشبه الكرة الأرضية، ناظراً إلينا مبتسماً بحكمة وثقة كجزء من ملامح عالم سيريالى أسطورى متمرد لا يحده زمان ولا مكان.
أما عالم إيفلين الذى احتضن مخلوقات مهجَّنة هبطت من حكايات الجدات والأساطير القديمة والكوابيس والأحلام، فقد سبق بخيالها ما تحقق بالعلم فيما بعد، لتبدو كائناتها مزيجاً من حيوانات وطيور وآدميين يتحركون بحرية بألوان زاهية متوهجة بعضهم جميل وبعضهم دميم وكثير منهم ظريف ترتسم على وجهه ابتسامة دائمة وينظرون جميعاً إلينا مباشرة ليكاد يختلط لدينا الشعور باللاشعور، وكأن الجهاز العصبى للفنانة هو المحرك الرئيسى لكائناتها وليست الفرشاة التى فى يدها.
وداخل لوحاتها يستشعر المتلقى أنه مغمور بوسيط ميتافيزيقى حكائى أكثر منه وصفي، كإبداعات الحكائين، لكن بالشكل واللون لتتداخل معاً حكايات كائناتها المتوهجة، ويمتزج لديها فن السحر بالطلسم البصري، كأن الفنانة تريد جمع الكون كله فى تمازج وتداخل ككلمة واحدة لمخلوقات متعددة الأشكال والمعانى إثراءً للخيال ولفن الإبداع، وليبدو لنا كأن غطاء اللوحة رُفع فجأة ليكشف من خلال العين عن عالم يسيطر عليه الوعى واللاوعى معا، وكأن المتلقى يحلم كالفنانة بعيون مفتوحة.
ثم أخذت إيفلين تظهر الكلمات داخل لوحاتها منذ 2015، لتجمع بذلك بين سحر الصورة المرسومة ومعانى الكلمات، قبل أن تختتم الفنانة عام 2020 بلوحة تظهر انتظار جنينين للخروج إلى الحياة من بطن أمهما وأرفقت باللوحة كلمات الجنينين، حيث يقول أحدهما: "ستلدنا أمنا قريباً وسنكبر معاً"، ويرد الآخر: "سنأكل بلحاً طازجاً مسكراً وسنستظل بفيء تلك الشجرة"، وهى الشجرة الحية التى نبتت فوق رأس الأم مثل الجنينين النابتين بالحياة فى جوفها.