حديث الأسبوع

اللقاحات.. سلاح النظام العالمى الجديد

عبدالله البقالي
عبدالله البقالي

الحقائق لا تنكشف إبان الأزمات، بل لابد من الانحناء لعاصفة الأزمات والمراهنة على العامل الزمنى ليكشف تباعا ما تخبئه أزمنة الأزمات الطارئة. هذا ما يبدو أنه ينطبق بصفة كاملة ومطلقة على الأزمة الصحية التى تسبب فيها الانتشار السريع والمهول لفيروس كوفيد 19، وعلى التداعيات الخطيرة التى ترتبت عنه خصوصا على القطاعات الاقتصادية والاجتماعية. فقد لوحظ خلال الأسابيع القليلة الماضية تركيز العديد من وسائل الإعلام الغربية على الخلفيات الحقيقية وراء التسابق المهول نحو اكتشاف وتوزيع اللقاحات المضادة لهذا الفيروس اللعين، وانتشرت معالجات إعلامية تتحدث عما سمته بـ (التلقيحات، السلاح الديبلوماسى الجديد) وبـ (الأمصال، الأسلحة الجيواستراتيجية الجديدة) وبـ (ديبلوماسية اللقاحات) وغيرها من المواد الإعلامية التى كشفت عن الخلفيات الجيواستراتيجية والجيوسياسية للفترة ما بعد كوفيد 19.

والواضح من هذا الاهتمام المتزايد والمفاجئ أن الدول الغربية تترصد بتدبير جمهورية الصين لهذه المرحلة الحاسمة فى التاريخ الإنسانى المعاصر. وفى هذا الإطار فهى ترى أن بكين بصدد بلورة ديبلوماسية صحية تكون لها تأثيرات سياسية تخدم المصالح الاقتصادية الصينية فى مختلف ربوع العالم، بدأتها بتصدير كميات كبيرة جدا من الكمامات فى ظروف كانت مختلف شعوب العالم فى أمس الحاجة إليها فى توقيت تميز بندرة إنتاج سلاح ظرفى، وقائى توقف عليه العالم للحد من انتشار الوباء، وكرستها بالتوقيع على اتفاقيات مع العديد من دول العالم بشأن الاستفادة من التلقيحات وصناعتها، والهدف الحقيقى هو رغبة واضحة لدى بكين فى تغيير النظام الاقتصادى العالمى السائد.

هذا الاهتمام الإعلامى الغربى رصد تفاصيل التحركات الصينية خلال الشهور القليلة الماضية، والتى تكشف، حسب اعتقاد الحكومات الغربية، السياسة الجديدة للصين التى توظف اللقاحات لمد جسور تعاون اقتصادى يعود بالنفع الكبير على المصالح الاقتصادية الصينية فى مختلف أرجاء المعمورة. من ذلك أنها انتبهت إلى ما صرح به الرئيس الصينى خلال انعقاد المؤتمر العالمى للصحة فى 18 مايو الماضى، حيث أكد أن ∩اللقاحات ضد فيروس كوفيد 19 يجب أن تصبح ملكا عموميا عالميا∪ وبعد شهر فقط، وتحديدا فى السابع عشر من شهر يونيو، عاد الرئيس الصينى ليؤكد أثناء انعقاد المؤتمر الاستثنائى بين الصين وإفريقيا الذى كان موضوعه (التضامن ضد كوفيد 19) التزام الصين بإعطاء الأولوية فى الاستفادة من اللقاحات إلى دول القارة الإفريقية. وبعد أقل من شهرين، فى الرابع عشر من شهر أغسطس قدم الوزير الأول الصينى نفس الالتزام لحكومات دول جنوب شرق آسيا. وفى التاسع عشر من شهر أكتوبر أعلنت الحكومة الصينية عن انخراطها الكامل فى مبادرة ( COVAX) التى عرضتها منظمة الصحة العالمية، وهى مبادرة عالمية تهم ضمان استفادة الدول الفقيرة من اللقاحات المضادة لكورونا. ولم تتوقف الإرادة الصينية عند حد الوعود والتعبير عن النوايا بصدد أزمة عالمية حادة وصعبة، بل شرعت مباشرة فى تجسيد هذه الإرادة، وكان لافتا بالنسبة لوسائل الإعلام الغربية، السرعة الفائقة التى ميزت انتقال بكين إلى التجسيد، وتجلى ذلك فى العديد من الاتفاقيات التى عقدتها شركات صناعة اللقاحات الصينية خصوصا سينوفارموسينوفاك مع دول من مختلف القارات، كما هو الشأن بالنسبة للإمارات العربية المتحدة ومصر والأردن والبحرين والمغرب والبيرو والأرجنتين والبرازيل وأندونيسيا وتركيا وأزبكستان والباكستان والمكسيك والشيلى، بل وكان لافتا فى إطار الاهتمام الغربى، أن الديبلوماسية الصحية الصينية وصلت مراحل متقدمة جدا حينما أبرمت الحكومة الصينية عبر شركاتها المختصة فى صناعة التلقيحات، اتفاقيات مع دول كالمغرب والبرازيل وأندونيسيا خاصة بصناعة هذه اللقاحات داخل هذه الدول لتصديرها إلى محيطها الإقليمى، بما يعنى ذلك من قيام علاقات اقتصادية بعيدة المدى مع هذه الأقطار. ويتوقف هذا الاهتمام طويلا عند الخصوصيات المتعلقة بالصناعة الصينية التى تتميز بانخفاض التكلفة بصفة عامة بما يترتب عن ذلك من قيمة حقيقة الأسعار، من جهة لأن الصناعة الصينية لا تركز كثيرا على الجودة الفائقة والفعالية الكبيرة، فإذا كانت لقاحات فايزر الأمريكية وأسترازينيكا البريطانية تحقق معدلات فعالية تتجاوز 95 بالمائة، فإن فعالية لقاحات سينوفارموسينوفاك الصينيين تنخفض فعاليتهما عن 86 بالمائة، وقضية الفعالية تنعكس بكل تأكيد على السعر، ناهيك عن أن اللقاحات الصينية تتميز بخصائص علمية معينة ذلك أنها تحفظ فى درجة حرارة لا تتجاوز 8 درجات تحت الصفر، بيد أن لقاح فايزر يجب أن يحفظ فى درجة حرارة تصل إلى 70 درجة تحت الصفر، وهذا ما يتطلب لوجستيك تبريد خاص ومكلف لا يتوفر بالضرورة بالسهولة اللازمة بالنسبة لجميع دول العالم، خصوصا الفقيرة منها. يضاف إلى كل ذلك عامل مهم يتمثل فى طبيعة ومستوى الحالة الوبائية التى تخدم مصالح الصين، ذلك أن شركات اللقاحات الأوربية والأمريكية منشغلة كثيرا بارتفاع معدلات الإصابة بالفيروس بأعداد المتوفين المرتفع فى أقطارها، مما يفرض عليها وبالضرورة التركيز على الاستجابة للطلب المحلى على اللقاحات.

فى حين أن انخفاض هذه المعدلات فى الصين بصفة مفاجئة وغريبة، يتيح لها التركيز بنسبة كبيرة على الأسواق الخارجية.

ويبدو أن الصين لا تترك مساحات فارغة فى سباقها فى مجال اللقاحات، وتهتم بجميع التفاصيل المرتبطة به، فقد سخرت فى هذا الصدد المعهد الصينى للعلاقات الدولية المعاصرة، وهو معهد متخصص فى رصد ومتابعة التطورات المرتبطة بالتحولات فى العلاقات الدولية، فهو المحرار الذى تقيس به بكين درجة حرارة جسد هذه العلاقات، وهو تابع لوزارة أمن الدولة الصينية، فى هذه الحرب الجديدة. ونستحضر فى هذا الصدد التقرير الهام الذى كان قد أصدره فى بحر شهر أبريل الماضى والذى أكد فيه أن صورة الصين تضررت بشكل كبير من مرحلة تصدير الكمامات للعديد من دول العالم، بسبب الدعاية المضادة التى واجهت الصين فى هذا الشأن. وأفاد التقرير أن الضرر الذى لحق بجمهورية الصين جراء ذلك يوازى الضرر الذى لحقها من مواجهة حادثة تيانامين سنة 1989، وفى ذلك دعوة صريحة للسلطات الصينية لإعطاء الدعاية المضادة التى ستواجه اللقاحات الصينية ما يجب من اهتمام وعناية.

هكذا يتضح أن الغرب منشغل بالتفوق الذى تراكمه الصين فى امتلاك سلاح اللقاحات، الذى يؤشر على بداية مرحلة جديدة فى الحروب الاقتصادية التى تدور رحاها بين الأقوياء فى النظام الاقتصادى العالمى الجديد، والذى قد تكون فيه شعوب العالم، خصوصا شعوب الدول الفقيرة والنامية، مجرد حطب لنار ملتهبة بين هؤلاء الأقوياء.

* نقيب الصحفيين المغاربة