مدارات

عفو الخاطر!

رجائى عطية
رجائى عطية

هذه كلمات أكتبها عفوالخاطر، ليس فى ذهنى وأنا أكتب هذه الكلمـات مـاذا تحديدًا سوف أقول .. فقط وجدتنى وأنا أستمع إلى أم كلثوم التى أستعذب شدوها ومعانيه، وجدتنى مشدودًا إلى شجنها وهى تغنى: "عاوزنا نرجع زى زمان، قُلْ للزمان إرجع يا زمان " . !!

 

لغة الحب والشجن، لغة موحية، تستقطر المشاعـر والأحاسيس، وتستخرج تضاعيف وأعماق النفوس وحقائق الحياة .. فهل استحالة العودة للزمن الماضى مقصورة فقط على الصفحات التى انطوت بين الأحباب ؟! أليس شجن الكلمات يوحى للمتأمل بمعانٍ تتخطى حديث القلوب إلى واقع الحياة؟!

 

واقع الحياة أن ما انقضى لا يعود، وأن الإنسان ابن حاضره، قد يطل على ماضيه بعين الرضا أو بعين السخط أوبعيون المراجعة والاتعاظ واستقطار التجربة، ولكنه مشدود إلى المستقبل بما يحوطه من مجاهيل واحتمالات، وبما يتطلع إلى تحقيقه فيه من أمان وآمال .. قد تتكرر الأيام، وتتشابه الحوادث، ولكن اليوم ليس كالأمس، والغد يحمل غير ما شهده اليوم .. والإنسان نفسه وليد أطوار وأحوال، فكما أن الظروف متغيرة، فكذا أحوال الناس .. أنت اليوم غير ما كنته بأمس، وسوف تكون غدًا غير ما أنت عليه اليوم، ولذلك كانت العودة للزمن الماضى ليست مستحيلة فقط على ما ضاع أو فسد بين الأحباب، وإنما هى عصيّة على أى إنسان فى عموم الحياة، لأن استنطاق الماضى محال، والعيش فيه من رابع المستحيلات!

 

ما اكتشفه خطاب الحب الضائع، أوالوفاء الذى ولىّ، يستعصى أحيانًا على من يظنون أن ملاذ الإصلاح هو فى الارتداد إلى الماضى الجميل الذى كان.. هذا الماضى الذى يبدوجميلاً أمام تعاسة الحاضر وابتعاد الأمل فى المستقبل، كان ـ أى هذا الماضى ـ ابن زمانه ووقته، وبندول الزمن فى حركة وصيرورة دائمة لا تتوقف، تتغير فيها الأحوال والظروف، ويتغير الناس، ويتراجع أحياناً ما كان فى مقدمة الأولويات، ويتقدم ما كان فى ذيل الاهتمامات ! . لذلك فمحال أن يعيش الإنسان ـ وهوابن حاضره ـ فى دنيا أسلافه مهما كانت جميلة أومبهرة أو براقة .. ولا يعنى هذا أن الماضى خالٍ من القيمة، بل إنه لا غناء للحاضر عن استخلاص عبر الماضى ودروسه.

 

ولكن ديوان التاريخ ليس محض مشاهد وصور وأشكال، وإنما هو معانٍ وقيم.. وتكرار الصورة على ذات ما كانت عليه شكلاً فى زمانها، قد لا يحقق المعنى أوالقيمة التى كانت تعطيها أوتعبر عنها فى أوانها.. ينطبق ذلك على كثير من الصور والمشاهد التى عبرت فى وقتها عن الطهر والزهد والتعفف، ولم تعد فى الحاضر صالحةً بمحض شكلها لتحقيق القيمة التى كانت تحققها، بل صارت لذات هذه القيم صور أخرى تصادف أحـوال زماننـا.. والسلفيـون ينحصـرون فى الصورة ولا يلتفتون بذات القدر إلى المغزى أوالمعنى.. ويأخذون الأديان ـ دون أن يدروا ـ إلى زقاق الانحصار فى الترديدات والمقولات والصيغ والمظاهر والأشكال، ويهملون جوهر الدين وأهم ما فيه من بنية حيّة تنظم بوعى وفهم واستنارة حياة الأحياء، وترعى بعمار الروح وسلامة الضمير وقوة الداخل ـ أحوال وسلوك وتصرفات ومعاملات الناس.

التعامل مع الحاضر، والتطلع إلى المستقبل، ليس خيانةً للتاريخ.. فتواصل أمجاد التاريخ، لا يتحقق إلاّ بالتعامل الواعى الفاهم مع مقتضيات الحاضر ومتوقعات المستقبل، وهذا التعامل مبنى فى جزء كبير ومهم فيه على استقطار صفحات وتجارب وعبر الماضى.. إلاّ أن استخلاص ما يحفل به ديوان العبر، لا يعنى أن يرتد الإنسان ليعيش ويلبس ويتصرف كما كان يفعل أجداده فى الزمن الأول.. فى عبارة بسيطة عبّر أسلافنا عن هذه المعانى حين قالوا: "كل وقت وله أذان".. ولم تبتعد أم كلثوم كثيرًا فى شدوها عن هذه الحكمة حين صدحت بقول الشاعر: "عاوزنا نرجع زى زمان، قُلْ للزمـان ارجع يا زمان" .. فهل يمكن للزمن أن يعود القهقرى، وهل يمكن أن يعيش أبناء القرن الواحد والعشرين كما كان يعيش أبناء القرن السابع الميلادى؟! فماذا إذن كان حصاد وجدوى تلك القرون ؟!