يوميات الأخبار

صيـف ينايـر !

إيهاب الحضري
إيهاب الحضري

لستُ من هواة الشتاء. أعتبره فصلا مُسيّلا للكآبة بلياليه الطويلة، لكنى أدين ببعض الولاء للروتين، وأحب أن تمضى الأمور فى سياقاتها المعتادة.

لحم حمير

الجمعة:

يوم إجازة، لكنه يفتقر إلى الراحة. فهو مخصص عادة لطقوس مؤجلة طوال الأسبوع. بعد زيارة لعائلتى بدأتُ رحلة العودة عبر حى الدقي. فجأة، تهلّل وجه ابنى سيف الدين المُنشغل عنا كالعادة بمواقع التواصل، وسمعتُ صوته بعد طول غياب. فى لحظة فارقتْ فيها عيناه جهاز الهاتف المحمول، لمح من نافذة السيارة محلا لبيع الوجبات السريعة، لم يتوقع رؤية فرع له بالقاهرة. كان قد تعرّف عليه خلال رحلة للإسكندرية مع زملائه. اقترح أن نتناول بضعة "سندويتشات" منه، اعترضتْ زوجتى وأكدتْ أنها أعدتْ الغداء بالمنزل. كانت الساعة تقترب من العاشرة مساء، لهذا انتصر اقتراح الوجبة السريعة، خاصة بعد أن أعلن من أطلقه أنه سيتولى عملية الشراء. عاد بكمية تكفى إطعام مخيّم للاجئين، وعندما لاحظ دهشتنا، أخبرنا بأنه "عمل حساب" أصحابه الذين سيلتقيهم بعد قليل. وهكذا مرّر بجملة عابرة معلومة أنه سيتركنا ليُكمل سهرته! بعد نحو ساعة كانت الأسرة الصغيرة قد تفرقتْ، أنا وزوجتى فى البيت، والشاب مع رفاقه على المقهى، لكننا اجتمعنا عن بُعد على التهام الأرغفة اللذيذة المحشوة بعينات من الكبدة! عند منتصف الليل عاد سيف الدين وبدأ طقوسه المعتادة. امتنع عن الكلام المُباح معنا، واستبدله بالتواصل مع أصدقائه بحروف مكتوبة. قطعتْ زوجتى الصمت بصيحة، وهو أسلوبها المعتاد مع كل حدث تراه مُهما. اعتقدنا أنها ستخبرنا بوفاة أحد المشاهير جراء فيروس" كورونا"، لأنها كانت تتصفح حسابها على" فيس بوك". التزمتْ الصمت لثوان، بهدف زيادة جرعة الإثارة، ثم قرأتْ لنا خبر إغلاق الفرع الرئيسى للمطعم بالإسكندرية، بعد ضبط كميات من" كبدة" الحمير به! لم نكترث كثيرا بالخبر، وعاد كل منا للنظر فى محموله، فمعتادو أكل الشوارع مثلنا، يتوقعون أنهم أكلوا على مدار سنوات نحو حظيرة حمير كاملة! بعد دقائق اختلستُ نظرة لها، لا يزال وجهها يكتسى بملامح الصدمة، التمستُ لها العذر لأنها لا تملك الخبرة الكافية لتجتاز مثل هذه المشكلات الصغيرة. الطريف أن صاحب المطعم علّق بعدها بساعات، مؤكدا أن الاتهام غير منطقي، لأن ∀كبدة∀ الحمير غالية وشحيحة!

 حرّ الشتاء!

السبت:

درجة الحرارة تتجاوز حدودها الطبيعية. تتآمر علىّ مع الزحام المعتاد على كوبرى أكتوبر، أفتح نافذة السيارة، لأستدعى بعض الهواء، بهدف تخفيف الحرارة، وزيادة جرعة الأكسجين التى تستنشقها رئتاى من وراء الكمامة، وبهمهة غير مفهومة أتعجب من حرّ "طوبة".

بالصدفة كنتُ قد عرفتُ قبل ساعة أن اليوم بداية شهر طوبة. واحد من شهور قبطية قليلة أذكر اسمها، أما الباقية فأنطقها بطريقة غير صحيحة، عندما تقع عيناى عليها فى الصفحة الأولى من جريدة "الأخبار". غير أنها تظل جاذبة للحنين، خاصة لأبناء جيلى ممن قضوا فترة من طفولتهم بإحدى القرى، حيث كانت هذه الشهور أكثر قربا من الفلاحين، لارتباطها بدورة الزراعة. يتسم "طوبة" ببرودة غير عادية، حتى أن المصريين اخترعوا له مثلا شائعا: "طوبة يخلّى الشابة كركوبة"! نتيجة البرد الذى ترتفع حدته، خاصة فى الريف. كان الفلاحون يواجهونه بوسائل متنوعة. البيوت "الفلاحي" الأصيلة تستعد له بغرفة اسمها" القاعة"، تضم فُرنا يشغل نحو نصف مساحتها، وتمتد فوقه حصائر بسيطة، وأغطية قليلة تساعد مع نيران الفُرن الهادئة فى بث الدفء. أما البيوت الأكثر حداثة نسبيا، فتعتمد على" منقد" حديدي، تتراص فوقه بشكل هرمي، "قوالح" الذرة المتوهجة بضوء أحمر جذاب، بعد التخلص من نارها ودخانها فى فناء المنزل. يتسّم اللون بجاذبية خادعة، ويحسبه الأطفال مستأنسا، حتى تُعلّمهم لسْعته أنه ليس كل ما يلمع آمنا.

أخرج من مدرستى الابتدائية مع زملائي. ينهمر المطر ونحن نستمتع بزخّاته التى تُبلّل ملابسنا. نمشى ببطء لا يتناسب مع المياه المتساقطة بغزارة من السماء، والأرض التى تحولت لمستنقعات طينية تبتلع أقدامنا الصغيرة. يجذبنا نهر كشف عن أعماقه بفعل السدة الشتوية، فننزل لنصطاد أم الخلول وأبو جلمبو، ننسى أنفسنا وسط متعة مطاردتها، ولا نخشى كثيرا من ∀قرصة∀ الكائن النيلى الذى يقاوم هجماتنا عليه، وبعد أن أعود إلى المنزل، أتلقى توبيخا، قد يتحول إلى ∀علْقة∀ أتجاوز آثارها بسرعة وأغيّر ملابسي، ثم أضع الغنيمة على نار ∀المنقد∀، وأتابع نضجها بلهفة حتى أستمتع بأكلها. الغريب أن من قاموا بتوبيخى قبلها بقليل، كانوا يشاركوننى التهامها!

كل شىء تغيّر. حتى البرودة أصبحتْ غير مُلتزمة بمواعيدها، تحلّ عندما تجد وقت فراغ لزيارتنا، وكأنها تُعلن تمرّدها على عاداتنا. لستُ من هواة الشتاء. أعتبره فصلا مُسيّلا للكآبة بلياليه الطويلة، لكنى أدين ببعض الولاء للروتين، وأحب أن تمضى الأمور فى سياقاتها المعتادة، حتى لو كان ذلك ضد قائمة تفضيلاتي. ممارسات البشر أربكت الطبيعة، فانتقمت منا بسلْب الشهور خصائصها، حتى صرنا نعيش الصيف فى يناير!

 الربيع الإلكتروني!

الاثنين:

يبدو العالم الإلكترونى وكأنه يدخل مرحلة جديدة، يُعيد تشكيل ملامحه بعمليات جذب وشد. تبذل إدارات المواقع مساعى مُكثفة لتوسيع نطاق سيطرتها، والمستخدمون يطلقون حركات تمرد، بعد أن باتوا يشعرون بفضائهم يضيق عليهم. بدأوا يتنقلون بين التطبيقات بحثا عن حقهم فى تقرير مصيرهم، وبعضهم أعلن الاعتزال لمبررات عديدة، لكن قرارات الانسحاب لا تستمر طويلا، فالجنة الافتراضية أتاحت للكثيرين فرصة تحقيق ذواتهم، عبر ضغطات إعجاب أو كلمات تفاعل، أو حتى مناوشات فارغة حول قضايا هامشية. السلطات الإلكترونية تتوحّش، وتُثبت وجودها بقرارات تُتّخذ أحيانا بلا منطق، شخصيا عوقبت بأكثر من حظر غير مبرر من إدارة "فيس بوك" المُتعنّتة، رغم أننى لستُ من الناشطين، وكل ما أفعله هو أن أنشر مقالا لي، أرضى بعده بحد الكفاف من نقرات إعجاب شحيحة. كثيرا ما شعرتُ بالحسد تجاه آخرين يحظون بمئات التعليقات لو نشروا تحية الصباح فقط، ثم أقنعتُ نفسى مع الوقت أن القناعة كنز لا يفنى، وأن ثروة المتابعين يُمكن أن تزول فى لحظة، فعشرات الملايين من متابعى ترامب لم يشفعوا له، وتم منعه من التغريد مدى الحياة!

تعرض الرئيس الأمريكى للطرد من جنة" تويتر"، وقرّر البحث عن فردوس بديل يكفل له فرصة إطلاق مُتفجراته الكلامية، بعدها مباشرة قام الموقع الشهير بحظر سبعين ألفا من أتباع ترامب، وأصبحت حساباتهم مجرد أطلال! واكبتْ هذه الأحداث حركة هجرة بينية، فتحتْ باب الأمل لمواقع لم تكن تحظى بالانتشار المطلوب. استقبل تطبيقا "سيجنال" و"تليجرام" ملايين النازحين من "واتس آب"، بعد اعتزام الأخير استباحة خصوصيتهم مع حليفه "فيس بوك". تحت ضغط القلق من الهجرة الجماعية، بعث التطبيق الأخضر رسائل طمأنة، تؤكد أنه لا مساس بالخصوصية، وأن التحول للتعديلات الجديدة اختيارى، بعد أن كان إجبارياً، غير أن استعادة الثقة المفقودة ستحتاج لبعض الوقت، حتى يتأكد الجميع أن حياتهم الشخصية فى أمان. ووسط كل ذلك قرّر الأمير البريطانى المُتنحى هارى وزوجته ميجان اعتزال كافة منصات التواصل الاجتماعي، وأعلنا رفضهما أن تكون هذه المنصات جزءا من دورهما" التقدمى الجديد"، بعد أن تعرضا عبرها لحملات من الكراهية والتنمر.

قبل عشر سنوات انطلق الربيع العربى فى شتاء يناير، وهاهو الشهر نفسه يدخل بالفضاء الأزرق لمرحلة الثورات والثورات المضادة. على مدار أعوام مضتْ لم ينجح عالم الإنترنت فى أن يظل فضاء بديلا، فقد نقلْنا إليه معالم حياتنا ليتداخل مع مساراتنا اليومية. شوّهه البعض بتفاهات وبذاءات، مما منح إدارات التطبيقات المختلفة فرصة اللجوء للديكتاتورية بحذف آلاف الحسابات شهريا. تمنح أو تمنع تأشيرات دخول الجنة، وتمارس دور رجل شرطة يحاول ضبط إيقاع شوارع وميادين الإنترنت، ويُطبّق أحكاما نهائية بالنفي، مع إتاحة حق استئناف وهمي، يُقابل غالبا بالرفض. اختلف السياق هذه المرة، وبدأت الاعتراضات تتزايد، والأسابيع القليلة القادمة كفيلة برسم ملامح المستقبل، وتحديد ما إذا كنا نعيش ربيعا إلكترونيا حقيقيا، أو مجرد انتفاضة مؤقتة، ستتراجع أمام وعود كاذبة.

 هل مات فرويد مقتولا؟

الثلاثاء:

غالبيتنا يعرفون سيجموند فرويد، كعالم نفس مولع بالتفسيرات الجنسية لسلوكيات البشر. أعترف أننى لستُ من المغرمين بنظرياته، لكنى أشعر بالسعادة لأننى عثرتُ قبل أيام على آخر كتبه "موسى والتوحيد". قدّم فيه رؤية لا تعتمد على منهج علمى راسخ، وقال إن موسى عليه السلام لم يكن من بنى إسرائيل، بل كان مصريا من أتباع إخناتون، الفرعون المصرى الذى دعا إلى التوحيد. يعترف فرويد أنه ظل مترددا لفترة طويلة فى نشر دراسته كاملة، خوفا من "خطر خارجي"، ويقول: "أعلم علم اليقين أن ذلك الخطر الخارجى سيحول بينى وبين نشر القسم الأخير من هذا البحث عن موسى". يبدو متخوفا من أذى مُحتمل، لهذا كتب جانبا منه دون نية لنشره! وافترض أن دراسته ستبقى فى الخفاء حتى يأتى شخص فى زمن آخر يصل للنتائج نفسها، ليُقال وقتها:"فى آونة أشد حلكة عاش إنسان فكّر مثلك"!هل سيطرتْ فكرة المؤامرة على فرويد فى أواخر أيامه؟ حتى إنه يفترض سيناريو فيلم بوليسي، يتحدث فيه عن عقبات مُخيفة، يُمكن أن تواجه باحثا يهوديا يسلب أبناء قومه زعيمهم الأكبر. يبدو أنه شعر ببعض الأمان عندما هرب من الجيش الألمانى إلى إنجلترا، واتخذ قرارا بنشر الدراسة كاملة. على الفور زاره فى منزله بلندن حاييم وايزمان زعيم الحركة الصهيونية، وحذّره من النشر، لكن يبدو أن التهديد جعل فرويد أكثر عنادا، وأكد أن هذا الكتاب هو أفضل عمل ينهى به حياته، وبالفعل صدر عام 1939. مات الرجل بعدها فى ظروف يراها البعض غير طبيعية، ويؤكدون أنها جريمة قتل مع سبق الإصرار والترصد. 

 

 
 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي

 
 

 
 
 

ترشيحاتنا