عاجل

لحظة وعى : سلمى قاسم جودة تكتب

حريصــة هــانـم

 سلمى قاسم
سلمى قاسم

الشروق الصاعد يمحو الزرقة الليلية.. ينثر الضياء الوردى المعجون بألوان الشهد والعاج ليستقبل شمس النهار.. وبينما الحياة تستعيد تدفقها والبشر يمضون فى سعيهم الدءوب بكل اختلافاتهم يعلو ضجيج آلة القهوة فى الشقة الفاخرة لحريصة هانم، فالسائل السحرى الداكن يشعل الانتباه ويحض على اليقظة المنشودة من أجل الانقضاض على كل الفرص، هكذا تتهيأ السيدة حريصة كل صباح لتنطلق إلى المشروع فى قلب النادى العريق.. وإذا كان نجيب محفوظ سطر فى «الشحاذ»: «هذا الوجود من حولنا ليس إلا تكوينا فنيا».
فبالنسبة لحريصة هذا الوجود من حولنا ليس إلا تكوينا اقتصاديا، تلك الشخصيات والنماذج البشرية النادرة تكتنزها الذاكرة، تحتفظ بنوادرها العجيبة، هى تحاكى النتوء اللافت على سطح الأيام المكررة.. هى خطرة أقرب إلى الفخ المحكم ولكن لا تخلو من جاذبية.. وأرجع ما قاله أيضا نجيب محفوظ فى «الشحاذ»: «ذكريات معادة كالقيظ والغبار دورات محكمة الإغلاق والطفل الباسم يتوهم أنه يمتطى جوادا حقيقيا».
اسمها حريصة.. امرأة ثمانينية.. سمراء ثرية مسكونة بشهوة المال، وجدت عبر السنوات المديدة ضالتها فى النادى الفخم، فهو العامر بالشخصيات المرموقة، المشاهير فى كل المجالات: الطب، الهندسة، المحاماة، الفن، رجال الأعمال والوجهاء والأعيان، فهناك كل شيء ممكن وكل شيء مباح، وهى المدربة على استغلال كل المواقف والفرص، فالبيت مفتوح على حس النادى وكأن هناك ممرا مسحورا يوصل بين النادى والمنزل ليلبى كل احتياجات الحياة، لكن المهم دوما أن تتلقى حريصة الهدايا، والعطايا والخدمات مرفوعة الرأس، متأففة، فالقبول هو بالنسبة لها المرادف للتنازل، وهو بمثابة الوسام المهيب على صدر المانح، فله الشرف أن يسدى خدمة أو يهب شيئا ما للسيدة ذات الخاتم المرصع بالزمرد والياقوت، شيء لزوم الشيء، فالواجهة البراقة ضرورة ملحة من أجل الفخ المحكم واقتناص الفريسة المتحولة عاجلا أو آجلا إلى ضحية، فالخازوق هو المصير المحتوم لكل من يقترب من الست حريصة، أو يفكر حتى فى الابتعاد، ففى كل الأحوال الخازوق العثمانى فى انتظار الجميع، ولقد اشتهرت حكاياها فى أرجاء النادى الفسيح ولكن لا أحد يتعظ ولا يجدى التحذير، فليعلم من لا يعلم أن أغلب البشر يكابدون لحظات من اليتم الوجودى وهشاشة الدنيا المحدقة بنا جميعا، ومن ثم السقوط فى الهوة السحيقة، وهنا أذكر قصة العقرب والسلحفاة واليمام من «كليلة ودمنة» عندما حذرت السلحفاة بحكمتها العتيقة اليمام من خطورة اصطحاب العقرب فى رحلة طيرانهم، فقالت اليمامة للسلحفاة: ولكن إذا لدغنا العقرب سنسقط ونموت جميعا، فأجابت السلحفاة: إن العقرب لا يعرف سوى اللدغ وقد كان. ويبدو أن حريصة تنتمى إلى التراث الأدبى الشاهق الراوى لحكايا البخل والشح والتقتير والجشع فكان «البخيل» لموليير وشخصية أرباجون و«أوجينى جراندية» لأونوريه دى بلزاك ثم «تاجر البندقية» لشكسبير، مع بزوغ الشمس تظهر حريصة فى ممرات وملاعب النادى مرتدية الحذاء الرياضى الذى تحسب عمره لا بمظهره ولكن بعدد الأميال التى أنجزها، برفقة سائقها المدرب على طقوسها اليومية، تمشى لساعات تتغير خلالها «الأطقم» البشرية المرافقة لها فى تلك الرياضة فلا أحد يستطيع الصمود لكل هذه الساعات، وتبدأ حريصة فى النميمة، فهى ركن أصيل من أركان اليوم، وويل لأى شخص من المجموعة إذا غاب للحظات، فسوف تهتك صحيفته الاجتماعية، الشخصية والخصوصية فى ثوان لتنتهى صلاحيته فى العالم المخملي.
بعد أن تنتعل العشب لساعات تذهب للجلوس إلى الطاولة الخاصة بها، تقول مزهوة: أنا لا أخرج من البيت بأى فلوس، ويبدأ التسابق لعزومتها على زجاجات المياه والقهوة إلى آخره، وعندما تتكاثر زجاجات المياه المعدنية يأتى السائق ليحمل الفائض لنقله إلى المنزل، فالناس تتوافد على الطاولة، كنت أضحك كثيرا من هذا الطقس متذكرة مع الفارق أفلام الأبيض والأسود التى تدور مشاهد منها فى الصالة فوجب فتح زجاجات الشمبانيا لـ لولا صدقى مثلا.. ويحكى أن ذات يوم ذهبت حريصة لتأدية واجب العزاء، وكان الوقت ظهرا والغداء من السمك.. فسألت الثكالى وأين الطحينة؟ وعندما تتلقى هدية، أو نوعا من التمر، العسل، روج فوجب التوبيخ.. الازدراء والاستعلاء فكأن الشخص لم يقم بأى لفتة كريمة أو (geste) وبالتالى لا ترد الهدية، وهو دوما دون المستوى وهى تتنازل وتقبل.. أيضا لديها علاقات عبر القارات والمحيطات، فهذه من أستراليا تحضر الأحذية (السينييه) وهذا من الولايات المتحدة يأتى بالترينينج والجوارب، الأخرى من فرنسا لزوم العطر ومستحضرات التجميل.. وإذا انتهت من الأشياء العينية، سوف تنتهز فرصة تعلم حتى كلمة جديدة، فلا أحد يجلس على الطاولة دون فائدة، عاطل!.. فى أحد الأيام قال لها الرجل الجليل هناك فيلم رائع يا حريصة يجب أن تشاهديه فقالت: هل سيستهلك دماغى؟ احكيه أنت. ودهش الرجل المثقف.. أما زكاة العيد وما أدراك ما زكاة العيد فهى من نصيب عابر السبيل الجالس على طاولتها فى هذا اليوم المبارك وستردد جملتها المشهورة.. «ماجبتش المحفظة» وسيدفع الجالس زكاة العيد لنفسه ولحريصة.. أما ورق الكلينكس فلا داعى للشراء، متوفر فى حمامات النادى والجرائد فى أيدى الأعضاء تستعيرها.. ويحكى أن سيدة علمت أن أحد العاملين بالنادى يجهز ابنته للزواج فأعطت حريصة بضعة آلاف من الجنيهات للمساهمة من أجل الرجل المكافح، وهكذا قررت حريصة هانم أن ألف جنيه كفاية.. تبدو المرأة أحيانا أقرب إلى ميدوزا المرأة البازغة من الأساطير الإغريقية التى يتحول شعرها إلى أفاعى ولها نظرة عين فتاة فاتكة قاتلة، فما أدراك ما نظرة عين حريصة إذا قررت للحظة أن تركز أشعة عينيها الضاربة فى الصفرة لتصبح أقرب إلى أشعة (الإكس راى) تخترق أعماقك وتعتصرها.. فها هو المشهد العجيب ذكره الطبيب يكشف على ابنها فى الملعب.. وأخيرا كلمات بوكوفسكي: «فى زماننا هذا إياك أن تشعر أحدا باحتياجك له».