يوميات الأخبار

هاملت «نجيب محفوظ»

يسرى الجندى
يسرى الجندى

إن الواقع يبدأ فى ممارسة ضغط شديد، ومع اشتداد أزمة ضغط الواقع يتبدى فى مواجهته «الإنكار».

(يقول «نجيب محفوظ» عن الشخصية الرئيسية فى الثلاثية (كمال عبدالجواد): «إن أزمة كمال العقلية فى الثلاثية كانت أزمة جيلنا كله»، كان كاتبنا الكبير يقصد الإحساس بالأزمة داخل المجتمع ككل.. وتتجسد فى كلٍ من «أزمة الاحتلال، -وبدرجة أقل - الأزمة الطبقية»، إن كمال عبدالجواد يعيش الأزمة الطبقية وتلفحه من خلال الازدواج فى عالم أسرته التى تمثل نموذجاً لتمزق البورجوازية الصغيرة فى هذه المرحلة، كما يعيش الأزمة الطبقية من خلال حبه لبنت آل شداد الأرستقراطية والتى اكتشف من تجربته معها أن حبه هذا خاضع تماماً للوضع الطبقي، ومحنته معه هى نتاج للأزمة الطبقية، ثم أنه يعيش الأزمة الوطنية بعمق منذ اللحظة التى أدرك فيها ما يعنيه موت أخيه "فهمى"، لكنه فى النهاية لا يتخذ موقفاً من هذا ولا موقفاً من نفسه.. إن معايشته لأزمة الواقع هذه.. تشبه ما واجهه «هاملت» الذى جسد مقتل أبيه مدخلاً لأزمته الشاملة، من جانب آخر.. نجد أن "كمال" يمثل الملحمية القابعة فى نسيج المصريين.. فهناك إحساس ملحمى لديه بالدين يتجسد فى تعلقه بالحسين - مثلاً -، ويكمل ذلك الأب الذى يتخذ صورة القدرة المطلقة - عند كمال -، وعلى سبيل الحصر.. هناك ثلاث صلات تمثل الملحمية لدى "كمال" وهي.. صلته بأبيه، وصلته ب "عايدة"، ثم صلته بـ «سعد زغلول».. فنجد أن أزمة الشاب المصرى مع الدين إرتبطت تماماً بأبيه، وفيما يخص «عايدة» فهى التى تصيبه بهزة تزلزل قناعاته حيث تكشف له الوجه الطبقى البشع المسيطر على الواقع، وعايدة تجعل منه وسيلة للوصول إلى الزواج الملائم لها، ومن هنا يحدث تصدع مروع لكمال حيث يبدو العالم بأكمله آيلاً للسقوط ونسمع "كمال عبد الجواد" يردد: «لنعترف بعد هذا بأن الملل يطوق الكائنات وأن السعادة ربما كانت وراء الموت وبأن قاطرة الحياة تسير وأن محطة الموت فى الطريق على أى حال».. هو نفس الحنين إلى الموت لدى «هاملت» حين بدأت أزمته، ثم تأتى أزمة كمال فى علاقته بأبيه حين يكشف له أخوه ياسين عن التناقض فى شخصية أبيهم، بعدها يأتى موقف «سعد» المخلص ليوجه إليه لطمة شديدة حيث يشعر «كمال» بأن هناك خيانة ما قد حدثت فى نهايات ثورة 1919، ويتساءل «هل تخلت مصر عن رجلها الأمين» وهو ما يشكل صدى لعلاقته الملحمية بقائد ثورة 19، وفى النهاية تنهار هذه الصلات الثلاث ويصيح «كمال»: «لا دين ولا عايدة ولا أمل.. فليكن الموت".. لقد سقط العالم بأسره ولم يبق إلا الشك المطلق، ونلحظ أن مرحلة السقوط -هذه- كشفت أزمة الواقع المصرى حيث عرّت الطبقية، كما كشفت عن التيارات التى حطمت المسلمات ودفعت باتجاه تغيير الواقع، تماماً مثلما حدث مع «هاملت» حين شعر بسقوط العالم وغياب معاييره وضرورة تغييره.. فى نفس الوقت الذى واجه فيه مطلب الثأر لأبيه، إن "كمال" يصرخ: «أن تزول الأمومة وتطلب وطناً بلا تاريخ، وحياة بلا ماضٍ، وعالماً يعيش فيه الإنسان حراً بلا إكراه، ولكن هذا مستحيل كاستحالة حريته»، إن الموقف يتلخص فى أن «كمال عبدالجواد» قد سقطت إرادته فى شك مطلق، وسيطر عليه إحساس برفض الحياة...
>>>
- فى مقال كتبه «نجيب محفوظ» عام 1930 قال: «إن الإنسان بطبعه وبحكم العاطفة الدينية التى تملأ جوانب نفسه يتشوق دوماً إلى معتقد يسلم إليه نفسه، وإيمانه، ولهذا نجده يعتنق المذاهب الاجتماعية والآراء السياسية ويبذل من نفسه ما كان يبذله سلفه القديم فى سبيل الله أو القيصر»، لقد بدأت تلك المرحلة التاريخية من عمر مصر بفترة ما بين الحربين، وما صاحبها من تواطؤ الطبقة المتوسطة مع الإقطاع والرأسمالية النامية ضد الطبقات الدنيا، ومعركة الأحزاب بما تمثله من سقوط شديد - وبوجه خاص فيما يتعلق بحزب الوفد كأمل - ثم أصداء مبدأ «القوة» الذى مثلته الحركات الفاشية كحزب مصر الفتاة والإخوان المسلمين.. إنها - نفسها - مرحلة محاصرة الواقع لهاملت.. مرحلة العقل والجنون، الرفض والقبول..، إن الواقع يبدأ فى ممارسة ضغط شديد، ومع اشتداد أزمة ضغط الواقع يتبدى فى مواجهته "الإنكار".. يمثلها عند «نجيب محفوظ» (محجوب) الذى عانى ككثيرين الضغط الرهيب للواقع وتعقده، كما أن الإحباط يحيط ببطله فى «بداية ونهاية»، كما أن "أحمد عاكف" فى "خان الخليلى" يواجه نفس الإحباط نتيجة عملية تزييف، عموماً.. تبعت تلك المرحلة ما نسميها بمرحلة «الالتحام» التى تكشف موقفنا الحضارى وما يواجهه من تحديات).
  أولاد حارتنا
(فى «أولاد حارتنا» تتبدى ملامح الأزمة الاجتماعية منذ البداية: «هذا بيت جدنا.. جميعنا من صلبه، ونحن مستحقو أوقافه، فلماذا نجوع؟ وكيف نضام؟» وهو يبدأ من نبرة الشك:
«أليس من المحزن أن يكون لنا هذا الجد دون أن نراه ويرانا، أليس من الغريب أن يختفى هو فى هذا البيت الكبير المغلق وأن نعيش فى التراب ولن نظفر بما يبل الصدر أو يريح العقل؟!»، يكتشف «أدهم» - آدم - سقوطه مع قصة طرده.. "كنت أعيش لا عمل لى إلا أن أنظر إلى السماء أو أنفخ فى الناي، أما اليوم فلست إلا حيواناً أدفع العربة أمامى ليل نهار فى سبيل شئ حقير نأكله مساءً ليلفظه جسمى صباحاً.. العمل من أجل القوت.. لعنة اللعنات"، ثم تجيبه «أميمة» - حواء -:
«ربما كان العمل لعنة لكنها لعنة لاتزول إلا بالعمل»، وبعد أن يجرى طرح مطلب الحرية والقيم.. يتجلّى النظام الاجتماعى وتأثيراته.. بطبقيته، ومن ثم يتخذ صراع الإنسان مع الضرورة شكلاً مختلفاً، إن نجيب محفوظ يتناول الحركة الدينية فى محاولتها إعادة المبادرة للإنسان، وعلى حين قامت المسيحية إزاء المد الهائل لسيطرة الضرورة وحاولت استعادة المبادرة للإنسان، جاءت اليهودية - فى نقائها الأول - لتواجه الظلم الاجتماعى والاضطهاد، ثم تحولت - بعد التحريف - إلى نظرة عنصرية - شعب الله المختار -، فشكلت انتكاسة لمنطلقها الأساسى، وبينما كان النظام الاجتماعى مازال يعطى الغلبة لـ «الضرورة».. جاء الإسلام ليواجه ذاك الواقع الظالم بالقوة.. يقول «قاسم»: «لن نطهر حارتنا إلا بالقوة.. ولن نحقق شروط الوقف إلا بالقوة، ولن يسود العدل والرحمة والسلام إلا بالقوة»، ثم لا تلبث الطبقات التى نحاها الإسلام عن الحكم أن تنقض على الحكم، كى تمضى بالحركة الإسلامية فى ركب حركة التاريخ الحتمية، وهنا يأتى «نجيب محفوظ» للمواجهة الأخيرة مع الضرورة عبر الحركة الاشتراكية العلمية التى شجبت جذرياً الطبقية، و«عرفة» الممثل لهذه المرحلة يختلف عن «قاسم وجبل ورفاعة» فى أنه لم يلتق بـ «الجبلاوى» - الذى يمثل المطلق - بل لايعرف أحد له أباً، وهو يشك أنه قتل «الجبلاوى» ومع ذلك يأتيه أن الجبلاوى مات ميتة طبيعية ثم يعلم أنه مات وهو راضٍ عنه، والمقصود فى النهاية أن الاشتراكية العلمية تحرر الإنسان من سطوة الضرورة، ومن هنا تعيد إليه روح الجدل الذى يرفض «المطلق»).