يوميات الأخبار

قوة مصر الناعمة بين زمنين

سعيد الخولى
سعيد الخولى

لست أدرى هل كانت أم كلثوم تثق فى نفسها لدرجة مطلقة أم كانت تثق فى جمهورها بلا حدود؟أم كانت تثق فى البيئة المحيطة بها من حاضرى حفلاتها أو متابعيها عبر الإذاعة الخميس الأول من كل شهر.

كانت المرة الأولى التى أسمع فيها رباعيات الخيام لأم كلثوم من محطتها الإذاعية الشهيرة،وإذا بها فى المقطع الذى يقول:
«فكم توالى الليل بعد النهار
وطال بالأنجم هذا المدار
فامْـــشِ الهُـوَيْــــنا إنَّ هـــذا الثَـرى
مـــن أعْيُـــنٍ ســـاحِــرَة الاِحْــوِرار»
وللحق لم أفهم معنى البيت الأخير للوهلة الأولى وقد كنت وقتها أبدأ دراستى بدار العلوم،وتمنيت لو أعادت غناء البيت كعادتها لأتمكن من سماع الكلمات جيدا وفهمها،المثير فى الأمر أن من كانوا يستمعون لها فى المسرح راحوا فى عاصفة من التصفيق لكلمات لم أتبينها جيدا،وكان الملحن العبقرى رياض السنباطى واعيا للمعنى فجعل جملته الموسيقية رتيبة بطيئة تنطق كل كلمة وحدها فى نغمة هادئة تساعد على متابعة البيت كله.وكعادتها أيضا استجابت لتصفيق الحضور وأعادت أداء البيت أكثر من مرة،وفى كل مرة يزداد التصفيق وطلب إعادة البيت حتى استوعبت البيت وبلاغته ومعناه الفلسفى لقضية الحياة والموت ومصير الإنسان كجثة تتحول إلى رماد وتراب يدوسه الناس وقد كانت صاحباته يمتلكن أعينا ساحرة تثير جنون الرجال،وها هى قد صارت ترابا يدوسه الناس ولايدرون كم من متغزل هاموا وتشببوا بصاحبات تلك العيون ساحرة الإحورار،والاحورار هو شدة بياض البياض وشدة سواد السواد فى العينين طبقا للمعنى اللغوى،وفيه قيل أجمل أبيات الشعر تغزلا فى العيون على لسان جرير:
إن العيون التى فى طرفها حَوَر
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لاحراك به
وهن أضعف خلق الله إنسانا
وتعجبت فى نفسى من أم كلثوم وهى تقع على مثل تلك القصائد عاطفية كانت أم دينية أم وطنية أم فلسفية فلا تتردد فى الشدو بها وغنائها،وأحيانا التغيير فى بعض ألفاظها كما حدث فى "أراك عصى الدمع"و"الأطلال" على سبيل التمثيل،تفعل ذلك وهى التى لم تنل من التعليم حظا وافرا،لكنها صممت على جبر ماانكسر فى صباها وفاتها من التعليم. ووجدتنى حائرا لست أدرى هل كانت أم كلثوم تثق فى نفسها لدرجة مطلقة فتتحداها باختياراتها أم كانت تثق فى جمهورها بلا حدود فتوغل فى الارتقاء به ومبادلته علوّا بعلوّ؟أم كانت ترى من بين رسالتها الفنية ترغيب سامعيها عن قرب وعلى البعد فى الشدو بالفصحى وترديدها على المقاهى وفى المصانع وفى الحقول وبقية مجالات الحياة؟. وقفز السؤال الصعب إلى نفسى: لو قدر لها العيش حتى وقتنا واستمرارها بالغناء هل كانت ستقدم نفس الاختيارات وكلها ثقة فى فنها ومعجبيها؟.
الإجابة أتركها للأجيال الجديدة لا القديمة وأنا أستشعر كم يسعدون بغنائها وكلماتها وأدائها وحفلاتها كاملة العدد فى دار الأوبرا وغيرها،فالأصالة والصدق لايموتان حتى لو طغت الفرقعات الخاوية لوقت ثم تلاشت.
زمن أحبنا
ولم تكن أم كلثوم وحدها هى كل عصرنا،فقد عشنا جيلا يلمس الجمال ويتذوقه فيما وفيمن يحيط به ويعايشه،ولعل حظ جيلنا وما سبقه بعقود وما تلاه مباشرة كان من الفئة عالية التصنيف فى كل مجالات الحياة وما يخص الدنيا والآخرة.عشنا جيلا يضم أسماء وعباقرة فى مجالاتهم جمعتهم الموهبة الفطرية وروح الهواية فيما يعملونه،وصقلت مواهبهم تلك صبغة العلم فى مجالهم وازداد بريقهم بنا نحن المتابعين المستمتعين،وكنا نحن فى النهاية الفائزين بإبداع وعالم من الجمال الذى مايزال يرفرف علينا ويخفف عنا عنت وبؤس وجدب سنوات خداعات امتلأت بكل الموبقات والفقر فى الفكر والتصنع فى الموهبة والزيف فى الوجوه والشراسة فى الصراع على كعكة كراسى الصدارة.
كان ذهنى ومثلى كثيرون فى جيلى يمتلئ بإشعاع الشعراوى وخواطره،وتنوير الغزالى وثورته العقلية الدعوية وجدية جاد الحق وثباته على الحق فى وجه من أرادوا غير ذلك، وزهد الشيخ عطية صقر وعلمه الغزير ومقعده الأثير الذى جاورته فيه عدة مرات فى ترام شبرا لأنه لم يمتلك سيارة خاصة،وكم توافق ركوبنا معا من محطته بشارع شبرا واقتربت منه واستفتيته ذات مرة فى مسألة أرهقت بالى وهددت راحتى لفترة. وعايشنا دولة القراءة للقرآن الكريم مابين ضابطها المعلم محمود الحصرى وشاديها المشجى مصطفى إسماعيل وكروانها المغرد عبد الباسط عبد الصمد وخيالها المنطلق محمد صديق المنشاوى ومجددها الممتع الطبلاوى وعشرات من الأسماء التى يكفى كل منهم عالما كاملا ليشغله ويمتعه ويؤثر فيه.وعشنا واستمر بنا الحال فخورين بمعايشة هذه الأسماء ومجايلة زمن نضجها وفوح عطرها يضبط إيقاع حياتنا الروحية،يشيع الاعتدال ويضبط الجنوح ويعيد الشارد منا إلى سواء الطريق.
ولم تحرمنا أقدارنا أن نعايش أساطين الأدب فنعاصر نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس ويوسف السباعى وعبد الرحمن الشرقاوى وثروت أباظة ونلامس طه حسين ونقترب من العقاد ونتفاعل مع أشعار العديد والعديد من معاصرينا ونتسابق لاقتناء كتبهم ودواوينهم ومتابعة أمسياتهم على الشاشة الصغيرة وفاروق شوشة يستخرج منهم فى أمسيته الثقافية شهد فكرهم كما تفعل النحلة وهى تجوب الحقول والحدائق فتمتص وتفرز خلاصة مشاويرها الماراثونية عسلا فكريا سائغا شرابه لكل عطشان للمعرفة..شاهدناهم وتابعناهم وقرأنا لهم فى الصحافة الورقية وربطونا معها بعلاقة متينة حببتنا فيها وجعلت منها أملا لبعضنا وأنا منهم أن نلتحق بهذا العالم المثير الأثير بأعلامه الكبار هيكل والأخوين مصطفى وعلى أمين وأنيس منصور ويوسف السباعى والفارس جلال الدين الحمامصى وإبراهيم سعدة وموسى صبرى ووجيه أبو ذكرى،وأشعل عالمهم فينا دنيا من الخيال أن يكون اسم أحدنا ذات يوم مصفوفا أسفل مقال أو تحقيق أو خبطة صحفية تنتزع الإعجاب وتثير الراكد وتصلح المعوج.
وتبعا لقانون الحياة بالمتعة البريئة لم يكن الفن أقل جودا وكرما فيمن عايشناهم وأثاروا إعجابنا وخطف بريق إبداعهم دقات القلوب تارة واندهاش العقول تارة ثانية وارتياح النفوس تارة ثالثة، وهل زمن به أسماء كأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وفيروز ومحمد قنديل إلا عالم من المتعة والطرب الحقيقى المخاطب للعقول والقلوب، قبل أن يتحول فى هذا الزمن إلى مجرد مثير للشهوات ومخاطب للأجساد وطالب لمغيبى العقول والوجدانات والدعوة الصريحة للفساد وانتهاك الحدود فيما يسمى بالمهرجانات.
حتى اللعب واللهو مع الكرة وشقيقاتها من الرياضات كانت زمنا من المواهب الهاوية دون الاحتراف والاغتراف المفسد للاعبين والجماهير،عالم من الانتماء للون الفانلة التى ينتمى لها اللاعبون فيرفضون الانتقال لناد آخر مهما كانت المغريات،زمن بمواهب الخطيب وحسن شحاتة وفاروق جعفر وحسن حمدى وإكرامى وعلى أبو جريشة والشاذلى وعادل شريف معلق التنس لعبة الأغنياء التى هام بمتابعتها وبنجومها العالميين كثير من الفقراء.. وعديد من الأسماء التى استمتعت فأمتعت ولم يكن هناك فساد القنوات الرياضية ولابذاءة أشخاص يجلسون أمام الكاميرات أو سخافة المداخلات ممن يفترض فيهم نشر روح المحبة بين الناس فإذا بهم لاتهدأ لهم ثائرة إلا وهم ينشرون الفساد والتعصب وينتهكون الأعراض ولايرعون من يتابعون تلك القنوات فى أنفسهم ولا فى أولادهم ويمدون مواقع التواصل الاجتماعى بأسوأ مدد من القبح والتنابز الاجتماعى.
ونيس وعائلته والبرنس وأسرته
لاشك أن مسلسل "عائلة ونيس "بأجزائه المتعددة هو من الأعمال الهادفة الراقية للدراما التليفزيونية التى حملت رسالة ومضمونا لتربية الأجيال الجديدة وكيف يكون تفاعلهم إيجابيا مع المجتمع متمسكين بالقيم والأعراف الراسخة للمجتمع المصرى، وكيف تكون رسالة الفرد ثم الأسرة هى لبنات تكمل بناء المجتمع السوى بتقديم آباء صالحين وأمهات فضليات كما تقول مقدمة المسلسل.ومؤخرا أذيعت الحلقات على إحدى القنوات المصرية الخاصة، وعلى النقيض منها وفى المقابل كانت قناة أخرى تذيع مسلسلا آخر باسم"البرنس" قائما على استيلاء الأخ الأكبرعلى ميراث إخوته وانتقام الإخوة بكل صنوف الانتقام،ومع مشاهدتى لبعض أجزاء منه بالصدفة حاولت المتابعة لبطل المسلسل الشهير،وهالنى كم الانتقام الرهيب من الإخوة بالتنكيل بشقيقهم وقتل زوجته وابنه وتلفيق قضية مخدرات للزج به فى السجن،،فضلا عن كل الموبقات التى ألصقها المسلسل بالمجتمع المصرى الذى يبدو أننا نعيش فيه ولا نعرفه كما يعرفه مؤلف العمل ومخرجه وأبطاله،ولست طبعا بصدد سرد أحداث هذا المسلسل بالذات فغيره عشرات من نفس المدرسة،ولاأقصد جودة وجدية مسلسل ونيس وحده فغيره مئات الأعمال الدرامية السابقة الهادفة،لم أقصد إلا المقارنة بين مدرسة سابقة للدراما المصرية تبنى المجتمع وأخرى حالية تحاول قدر ما أوتيت من قوة مادية وإعلامية وفضائية أن تصم هذا المجتمع بكل السوءات،للإيهام بأن هذا هو الواقع المجتمعى حاليا،وهو إيهام كاذب فالحق أن صناع تلك الدراما يحاولون أن يصنعوا مجتمعا على هواهم وعلى مقاس المطلوب من تلك الأعمال؛ ليصير الأسطورة والبرنس وعبده موتة وأمثالهم روادا لمدرسة البلطجة وأخذ الحق باليد والسيف والمخدرات وإهمال دور الدولة والقانون فى تحقيق الأمان للناس.
وهذا لاينفى أن هناك نزرا يسيرا من الدراما المعاصرة فيه توازن بين المضمون والشكل ومراعاة قيم المجتمع،وهناك نماذج لذلك النزر اليسير كانت خلفها رسالة أرادت الدولة إيصالها للشباب والناشئة بعمل مثل "الاختيار"تابع الناس كيف كان التفاف الغالبية حوله دون خوف على صبى أو صبية أو شاب أو فتاة،فضلا عما حمله من رسالة وطنية،وقبله فيلم "الممر"وكيف أعاد الجمهور لشاشات العرض السينمائى لمتابعة عمل وطنى محترم.
والمقصود من كلماتى أنه لابد من عودة الدولة لإنتاج الأعمال الدرامية لتلجيم هؤلاء المنتجين راغبى المكسب على حساب قيم المجتمع وأخلاقياته، والممثلين الذين يتفاخرون بما يهدمون به المجتمع ويثيرون غضب الناس وفضول المحتاجين بما يملكونه يثيرون باستعراضها نقمة المعوزين والعاطلين عن العمل،ويجعلون من أنفسهم بمايقدمونه من أعمال هادمة قدوة للشباب الصغير يتمنى لو كان مثلهم ليعيش ويعيث مثلهم ويركب طائرة أو سيارة ويرتع بين قصوره ومنتجعاته العديدة.
إنهم بأعمالهم تلك قد شوهوا وقللوا من دور القوة الناعمة المصرية التى كانت قدوة للعالم العربى كله، وأشدهم نجومية لايدرك معنى أن يكون نجما واعيا متحملا لمسئوليته أمام جمهوره.