القاهرة واشنطن.. ماذا بعد؟

محمد صلاح عبد المقصود
محمد صلاح عبد المقصود

 

سيجلس التاريخ طويلا ليقرأ كف العلاقات المصرية الأمريكية، وسيحتاج مزيدا من الوقت لوصف هذه العلاقات بشكلها الصحيح، ربما لأن هذه العلاقات بدت لجميع الأطراف لغزا كبيرا، فلا هي صداقة حقيقية، و لا هي عداء صارخ أو صريح، لا هي تحالف تحول إلى ارتباط عضوي بين البلدين، ولا هي علاقات جافة أو فاترة، ولكنها تستمر ويحرص البلدان على بقائها مستقرة هادئة، كما يحرصا معا على استمرارها و بقائها بعيدة عن مغامرات السياسة الأمريكية.

 

الوصف الأبرز لهذه العلاقات أنها علاقات «وظيفية» هامة ومعقدة بين بلد بدأ عصره الإمبراطوري مع بداية العقد الأخير من القرن الماضي، وبين دولة تعتبر هي الأثقل في الإقليم، والتي تمتلك مفاتيح استقرار وسلام الشرق الأوسط وإفريقيا، وتتميز بوضع خاص في العالمين العربي والإسلامي.

 

فمهما بدت الدولة المصرية كسيدة عجوز لا تملك من أمرها شيئا، إلا أنها تجيد لعبة استعادة الأمجاد وصناعة التاريخ وقلب دفة قيادة العالم، وتبقى قادرة على استعادة شبابها وتأثيرها وأهميتها التاريخية والثقافية والاستراتيجية في ثوان قليلة من عمر الزمن.

 

و لعل الأزمات التي مرت بها هذه العلاقات سببها الرئيسي قناعة خاطئة لدى الولايات المتحدة بأن مصر لم تعد مصر التي تنقب كبريات الجامعات و المعاهد الأمريكية في تاريخها الطويل، تلك القناعة التي بني عليها التحرك الأمريكي الأغرب في التاريخ الحديث، بداية باحتلال العراق بقرار منفرد، وما تلاه من موجات كبرى من سوء فهم بين قيادات البلدين وقتها، لا يعبر عنه أكثر من انقطاع الزيارة السنوية للرئيس الأسبق مبارك إلى أمريكا لمدة خمسة أعوام، و ليس انتهاء بتكليف وزير الخارجية السيد أحمد أبو الغيط باستقبال الرئيس الأمريكي أوباما أثناء زيارته الشهيرة للقاهرة عام 2009.

 

و لهذا السبب كانت أمريكا من أوائل المرحبين بثورة يناير، و التي رأتها دليلا زائفا على صحة قناعتها الخاطئة، و شرعت الإدارة الأمريكية وقتها في (بلقنة) مصر، و اعتمدت على تعاون استراتيجي شاذ مع الجماعات الإرهابية و أصحاب الأيديولوجيات الدينية المتشددة، وعلى رأسهم جماعة الإخوان الإرهابية، وذلك بتنسيق مسبق مع دويلات صغيرة تمتلك المال فقط، بغية رسم مستقبل مصر أخرى غير التي نعرفها ويعرفها العالم، مصر كما تريدها أمريكا و حلفائها، لا كما يريدها شعبها و أحبائها و أصدقائها.

 

و كان طبيعيا –و منطقيا أيضا- مع مرور الوقت أن تفشل الخطة الأمريكية، و أن تسقط أدوات الخراب و الهدم، و تنتفض مصر من سباتها العميق، تدب الحياة في أوصال الجسد المصري الثائر، و يثور شعبها و يكلف جيشها و قيادته الأمينة بقيادتها، و بدأ الجميع يستعيدون مجد مصر العظيم في ثورة 30 يونيو، تلك الثورة التي أثبتت خطأ القناعة الأمريكية الزائفة، و المبنية على بضع من الأرقام الصماء و الأقاويل المبتورة لمجموعة من الطامعين في ملك مصر.

 

أعادت ثورة يونيو مفاهيم احترام السيادة المصرية، و ردت السيادة في مصر لمصدرها التاريخي، و هو الشعب المصري العظيم و المبدع، كما أعادت التأكيد على الثوابت السياسية و التاريخية و الديموغرافية التي تجاهلتها إدارات أمريكا بشكل لا يبدو أبدا أنه عفويا أو تلقائيا.

 

صحيح أن الأمور بين إدارتي البلدين قد تحسنت بشكل كبير في عهد الرئيس ترامب، و هي الفترة التي تغيرت فيها أدبيات العلاقة، و شهدت تغيرا واضحا في التعاطي المصري مع القضايا الخلافية مع الجانب الأمريكي، غير أن النتائج التي نتجت عن الانتخابات الأمريكية الأخيرة، قد خلفت نوعا من الأوهام و الهلاوس لدى كثيرين بإمكانية تكرار الماضي القريب مع خليفة أوباما في البيت الأبيض.

 

و لهؤلاء الواهمين نقول أن عقارب الساعة لا تعود أبدا للوراء، و أن ما حدث من قبل لن يتكرر، و أن العالم أجمع قد تغير، و أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من ولادة نظام دولي متعدد الأقطاب، قد لا تكون فيه مصر قوة اقليمية فحسب، بل ربما تكون واحدة من هذه الأقطاب التي ستقود العالم، تلك الاقطاب التي يجب على الولايات المتحدة أن تخطب ودها، و تراعي متطلبات سيادتها و مصالحها و أمنها القومي، إذا ما أرادت سلام و استقرار هذا العالم الجديد.

 

تمتلك مصر اليوم اقتصادا واعدا يملك فرصا عديدة للنمو وسط كوكب مختنق محروم من النمو حتى في أقوى الاقتصاديات و أكبر الدول،  و لا يملك ضمانا حتى للاستمرار في معدلاته الاقتصادية الحالية، اقتصاد متنوع يعتمد على عدد كبير من الأنشطة الاقتصادية المختلفة، و لا أدل على ذلك من كونه واحدامن الناجين القلائل في مذبحة كورونا الاقتصادية الدولية الأخيرة.

 

تحولت مصر من بلد مستورد للطاقة في 2011، لمركز دولي لتصدير الطاقة بمختلف صورها في مناطق أوروبا و الشرق الأوسط و أفريقيا، و أصبحت عاصمتها التاريخية مقرا للمنظمة الدولية الوليدة، و الخاصة بالغاز الطبيعي، و التي يتوقع نموها و توسعها لتصبح كيانا موازيا لاوبك في أقرب وقت ممكن.

 

كما تحولت مصر من مجتمع منغلق يعج بعدد كبير من المشكلات الاجتماعية، إلى مجتمع صحي واع و ملتزم بحقوق أفراده في حياة كريمة، و تعمل جميع مكوناته في جد و اجتهاد كبيرين لتوفيرها للقادرين و غير القادرين على السواء، و دون تمييز بين أبنائه.

 

كما شهدت مصر ثورة في مجال التمثيل السياسي و البرلماني للمرأة و الشباب و الأقباط، بالتوازي مع ثورة تشريعية ضد التمييز و الانحرافات الفكرية و السياسية، مع التأكيد المتواصل و المستمر من جانب السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي على نبذ العنف و التطرف و الإرهاب و التمييز.

 

و لا أدل على ذلك من لجوء أطراف دولية عديدة للاستفادة من الخبرات المصرية في هذه المجالات، لاسيما في مجال مقاومة الإرهاب و العنف، و هو الملف الذي أصبحت القاهرة تمتلك فيه رصيدا قد لا يتوفر لأي عاصمة أخرى.

 

مصر اليوم دولة نجحت في تنويع مصادر سلاحها، و قامت بتحديث تسليح قواتها المسلحة لتصبح القوة العسكرية التاسعة عالميا، دولة تتمدد خارج حدودها، و تقود مسيرة مساعدة اشقائها في الوطن العربي و أفريقيا لبلوغ السلام و الاستقرار و التنمية، و أصبحت راعية لأكثر من اتفاق سلام دولي، كما أضحت تمتلك عددا كبيرا من الأصدقاء و الحلفاء في جميع أنحاء العالم.

 

مصر اليوم دولة استعادت قوتها الناعمة، و أصبح إعلامها الوطني و إنتاجها الثقافي و الفكري و الفني و الرياضي قادرين على مواجهة منافسين دوليين بارزين، لهم ثقلهم و تاريخهم الطويل في هذه المجالات، و بدأت رحلة الوعي الشعبي عبر عديد من الأعمال الفنية و القنوات الإعلامية المختلفة ما بين الإعلام الرسمي أو الإلكتروني.

 

لست ممن يعتقد أن مصر اليوم في أزمة ناتجة عن تغير مازال محتملا للإدارة الأمريكية، الأزمة الحقيقية أصبحت في واشنطن و في حلفاء واشنطن و عملاء واشنطن، و من يحتاج أن يراجع مواقفه اليوم هي الإدارة الأمريكية القادمة، و التي يجب أن تتخلى أولا عن قناعتها القديمة، و التي لم تجلب لها سوى خسارة الحلفاء و الأصدقاء، ثم أن تعتنق مذهبا جديدا يتناسب مع كل المتغيرات الدولية الأخيرة،  ليس المتغيرات في مصر فحسب.

 

أما عملاء الداخل و أصحاب دكاكين حقوق الإنسان و أكشاك التحريض و الخيانة، فليس أمامهم اليوم سوى خيارين، إما أن يستوعبوا التغييرات الأخيرة التي حدثت في  مصر، و أن يكون ولائهم لها و لشعبها الأبي و مؤسساتها القوية الأمينة، أو يرحلوا إلى مكان آخر يستوعب أوهامهم و ضلالاتهم القديمة، فلا يبدو في الأفق القريب أن الدولة المصرية ستسمح لهم أو لغيرهم بخيار ثالث، هذا إن كان الخيار الثاني مازال متوفرا أصلا!

اقرأ أيضا : مصر وأمريكا.. والرئيس «٤٦»