من الأعْماق| اللواء ياسر عصر.. للشهادة رجالٌ

الكاتب الصحفي جمال حسين
الكاتب الصحفي جمال حسين

خلال الساعات الماضية، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعى؛ حزنًا على استشهاد اللواء ياسر عصر، وكيل الإدارة العامة لشرطة النقل والمواصلات، الذي لاقى وجه ربه خلال مشاركتهِ في إخماد حريقٍ شبَّ في محطة مسرَّة بمترو الأنفاق.

 

خلال دقائق قليلةٍ أصبح اللواء ياسر عصر تريند تويتر وفيسبوك وجميع وسائل التواصل الاجتماعى، بل قل أصبح حديث الرأي العام المصرىِّ، فقد أشاد الجميعُ ببطولتهِ وحرصهِ على المشاركة في إخماد الحريق وإنقاذ المواطنين بنفسه، رغم أنه يحمل رتبة لواءٍ؛ وهي الرتبةُ الأعلى في جهاز الشرطةِ، إذ كان بمقدوره أن ينأى بنفسه ويجلس في مكتبهِ ويُتابع جهود قواته في إخماد النيران، لكنه أصرَّ بجسارة على تقدُّم الصفوف؛ للمشاركة في إخماد الحريقِ وإنقاذ الأرواح، وأثناء ذلك اختلَّ توازنه وسقط داخل الهوَّاية؛ ما تسبَّب في وفاته.

 

كان طبيعيًا أن تتحوَّل جنازة الشهيد اللواء ياسر عصر إلى احتفاليةِ تكريمٍ لروحه الطاهرة، حيث خرج أهالي قرية مشتهر بمركز طوخ عن بكرةِ أبيهم، حاملين جثمانه إلى مثواه الأخير، في مشهدٍ مُؤثرٍ يُؤكد فخر الأهالي بجميل صنيعه وشجاعته وإقدامه، مؤكدين أنه كان يتمتَّع بحُسن الخُلق، ويحظى باحترام الجميع.

 

حُب المصريين للشهيد اللواء ياسر عصر وحزنهم عليه، تضاعف بعد علمهم بأنه كان بطل واقعةٍ مماثلةٍ عام ٢٠١٦؛ وذلك عندما شبَّ حريقٌ في قطارٍ مُتوقفٍ بمحطة مصر، وكان وقتها مأمورًا لمحطة الضواحي، حيث اقتحم النيرانَ حينها حاملًا طفاية حريق، ونجح في إخماد النيران، ومنع امتدادها لباقي العربات، واستطاع إنقاذ ركاب القطار الذين سجَّلوا بكاميرات تليفوناتهم فيديوهات لبطولته وبسالته، وانتشرت صوره وهو يُكافح الحريق، وقد اكتست ملامح وجهه وبدلته العسكريَّة بآثار مواد الإطفاء والدخان والحريق؛ مما كان لها أكبر الأثرِ فى تكريمه شعبيًا ورسميًا ويومها جاءت تصريحاته عظيمةً كشخصهِ، حيث قال إنه لم يفعل إلا واجبه..

 

الحقيقة أن سجلات الشهداء تنطق بملاحم البطولة والفداء التي سجَّلوها بأحرفٍ من نور؛ من أجل تحقيق أمن واستقرار الوطن، وقد كانت قواتنا المسلحة الباسلة سبَّاقة بتخصيص يومٍ للاحتفال بالشهداء أطلقت عليه "يوم الشهيد"؛ تزامنًا مع ذكرى استشهاد الفريق عبد المنعم رياض، رئيس أركان حرب القوات المسلحة الأسبق عام 1969، وسط جنوده خلال حرب الاستنزاف.. وتبعتها وزارة الداخلية التي خصصت ادارة عامة تابعة لمكتب الوزير شخصيا لتكريم الشهداء وتقديم كافة سبل الرعاية لأسرهم ..وقبل كل ذلك وبعده ما نشاهده من حرص الرئيس السيسي في كل المناسبات واللقاءات على الإشادةِ بالشهداء وحُسن صنيعهم وتكريم اسمائهم وتكريم أسرهم التكريم اللائق..

 

وأشهد أنني خلال فترة عملي سنوات طويلة محررًا للحوادث والقضايا، قمتُ بتغطية العديدِ من الحرائق، وكنتُ شاهدًا على بطولات رجال الإطفاء، الذين يُؤدون عملًا إنسانيًا في المقام الأول، ويقتحمون الأخطار والمصاعب بكل شجاعةٍ وإقدامٍ؛ من أجل إنقاذ مَنْ تُحاصرهم ألسنة اللهب أو يدفنون تحت انقاض المنازل المنهارة رغم يقينهم أنهم يلقون بأنفسهم في جوف المخاطر، وكثيرٌ منهم دفعوا حياتهم في سبيل الواجب،  وكُتبت أسماؤهم بحروفٍ من نورٍ فى كتاب شهداء الوطن.

 

وقد قدَّر العالم بطولات رجال الإطفاء وخصَّص لهم عيدًا سنويًا فى ٩ مارس من كل عامٍ، أُطلق عليه اليوم العالمي للدفاع المدني؛ تقديرًا لما تقوم به أجهزة الدفاع المدني من جهودٍ؛ للحفاظ على أمن وسلامة المجتمعات من خطر الحرائق والكوارث الطبيعيَّة والبشريَّة، والتقليل من الآثار المأساويَّة الناجمة عنها.. وما يُؤكد ذلك أنه في شهر يونيو الماضى، تصدَّر خبر عثور سيدة بعد 37 عامًا من البحثِ على رجل الإطفاء، الذى انتشلها عندما كان طفلة عمرها ٤ سنوات من حريقٍ شبَّ بمنزل أسرتها، إذ ظلَّت هذه السيدة تبحث عنه طوال هذه السنوات، وتجوب الشوارع حاملة قصاصة صحيفة قديمة بها صورة رجل الإطفاء، وهو يحملها طفلةً ويخرج بها من منزل أسرتها المُحترق، ولم يهدأ لها بالٌ حتى عثرت عليه وكرَّمته التكريم اللائق به، بعد أن أصبحت سيدة مجتمع يُشار لها بالبنان..

 

نحن لسنا أقل من هذه السيدة، ويجب أن نُكرِّم شهداءنا التكريم اللائق على المستوى الشعبي، ونجعلهم قدوة لتلاميذ المدارس وطلاب الجامعات ولكل الشباب في الأندية والشركات والمؤسسات خاصةً بعد أن ضرب الرئيس السيسي في ذلك المثل والقدوة، وجعل حق الشهيد حقًا مقدسًا لا ريب فيه، جراء ما قدمه الشهيد لبلده ووطنه..

 

يجب أن يلقي الإعلام الأضواء على بطولات الشهداء بدايةً من عامل الصرف الصحي الذي لقى مصرعه غرقًا، أثناء تطهيره بالوعة صرف بمنطقة خورشيد بالاسكندرية مرورًا بشهداء الشهامة، الذين دفعوا حياتهم لإنقاذ فتياتٍ من أيدي الذئاب البشريَّة، وامتنانًا لشهداء الجيش الأبيض، الذين ضحُّوا بحياتهم في معركةٍ شرسةٍ مع فيروس كورونا؛ لنصل إلى أرقى درجات التكريم والشهادة، بأن ننحني إجلالًا وتقديرًا لأرواح أبطال الجيش والشرطة، الذين ضحُّوا بأرواحهم من أجل أن نعيش وتعيش مصر في أمنٍ واستقرار.. 

 

وإذا كانت كل الأوطان تُقدِّر شهداءها وتُقيم لهم "نُصب الجنود المجهولين"، فنحن في مصر نُقدِّر شهداءنا ونزيد على ذلك بأن نُقيم لهم "نُصب الجنود المعلومين"؛ لأنهم بحقٍ يسكنون قلوبنا ووجداننا.. حفظ الله مصر والمصريين وتحيا مصر .