ننشر مقال طه حسين ردًا على الجماعة الإرهابية

عميد الأدب العربي طه حسين
عميد الأدب العربي طه حسين

أثارت أعمال العنف التي اعتادت عليها وسنتها جماعة الإخوان الإرهابية، غضب عميد الأدب العربي طه حسين، والذي كان يرى أن أبلغ رد على تطرف الإخوان الفكري هو شرح ورصد ما يفعلوه ونشره لكل الشعب المصري، لكي يتجنب المواطنون الوقع في فخ استغلال الدين، والتورط في عمليات تخريبية وانتحارية.

 

وكتب عميد الأدب العربي مقالًا تحت عنوان "رخص الحياة"، يصف من خلاله تنظيم الإخوان الإرهابي عقب محاولة اغتيال الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عام 1954، وتبعه مجموعة من المفكرين من بينهم "محمد التابعي، علي أمين، كامل الشناوي، جمال الدين الحمامصي، ناصر الدين النشاشيبي"، وتم تجميع تلك المقالات في كتاب يحمل عنوان "هؤلاء ..هم الإخوان".

 

وتنشر بوابة أخبار اليوم نص مقال عميد الأدب العربي طه حسين بعنوان "رخص الحياة":-

 

"لم تهن حياة الناس على الناس كما تهون عليهم في هذه الأيام، فقديماً عرف الناس الحرب وأجروا دماءهم غزاراً في سبيل الحق حيناً، وفي سبيل الباطل أحياناً، وقديماً عرف الناس المكر والكيد كما عرفوا البغي والعدوان، وقتل بعضهم بعضاً جهراً مرة وغيلة مراراً، ولكنهم كانوا يقدمون على ما كانوا يقدمون عليه من ذلك في كثير من التحرج قبل أن يقدموا، وفي كثير من الندم والروع بعد أن يتموا ما أقدموا عليه. كانت الحياة الإنسانية شيئاً له خطره فقدستها الديانات، وعرفت حرمتها القوانين، ورعتها الأخلاق، وعظم أمرها المعتدون عليهم أنفسهم، فكانوا يرون أنهم حين يجترئون عليها، إنما يقترفون إثماً عظيماً.. لأنه من الآثام التي لا سبيل إلى تداركها.

فقد أتيح للإنسان أن يصلح كثيراً من خطئه ويتدارك كثيراً من ذنوبه ويمحو بالإحسان آثار الإساءة، ولكن شيئاً واحداً لم يتح له وهو أن يرد الحياة إلى من حرم الحياة، فكان القتل خطأ أو عمداً من الشر العظيم الذي يروع الإنسان ويملأ قلبه ذعراً وندماً وروعاً وإنكاراً. 

وكان الناس يتحدثون عن المجرمين الذين يستبيحون القتل ولا يحسون عليه بعد اقترافه ندماً، ولا يحسون منه قبل اقترافه رهبة أو خوفاً. كانوا يرونهم شذاذاً قد أفلتوا من قوانين الطبيعة الإنسانية التي تكبر الحياة الإنسانية، وتعظم الاعتداء عليها عن عمد أو خطأ، وربما دفع بعض الناس إلى شيء من الإمعان في إكبار الحياة حتى تجاوزوا بها حياة الإنسان إلى حياة الحيوان نفسه، يرون أن الحياة جذوة مقدسة، ولا يجرؤ على إطفائها إلا الذين برئوا من شعور الرفق والرحمة والبر والحنان، فحرموا على أنفسهم أشياء استباحها غيرهم من الناس، يحرمون ذلك على أنفسهم دهرهم كله أو يحرمون ذلك على أنفسهم وقتاً معلوماً بين حين وحين.

ولأمر ما أمعن أبو العلاء فيما أمعن من الزهد حتى أنفق أكثر حياته لا يطعم إلا ما تنبت الأرض. ولأمر ما رأى قتل الحيوان جبناً، ورأى فيه دليلاً على ضعة النفس التي تدفع إلى الاستعلاء على الضعيف، والبغي على ما لا يملك أن يدفع عن نفسه البغي والعدوان. وقد تحدث الذين ترجموا له أنه مرض مَرةً، وألح عليه المرض حتى اضطره إلى ضعف شديد، فوصف الطبيب له أكل الدجاج وامتنع هو على الطبيب، وعلى الذين كانوا يمرضونه. فلما اشتد عليه إلحاحهم أذعن لما أريد عليه، وقدمت إليه دجاجة فلم يكد يمسها حتى أخذته رعدة شديدة، فانصرف عنها وهو يقول لها: استضعفوك فوصفوك *** هلا وصفوا شبل الأسد

يريد أن الدجاجة لا تستطيع أن تمتنع على من يريدها، فالناس يطعمون فيها ويصفونها للمرضى على حين يمنع الأسد شبله، فلا يطمع فيه طامع ولا يصفه طبيب لمريض.

فأبو العلاء يُحرج على نفسه، ويريد أن يحرج على غيره أكل الحيوان وما يخرجه الحيوان، حتى الشهد الذي تخرجه النحل، يرى ذلك ظلماً وبغياً، ويخالف بذلك ما أباحت الديانات السماوية للناس من هذا كله.

وتقديس الحياة الإنسانية هو الذي دعا الإنسان إلى إكبار الموت وما بعد الموت، وهو الذي دعا الناس إلى إعظام حرمة الجنائز مهما تكن. وقد روي أن جنازة مرت بالنبي صلى الله وعليه وسلم وهو جالس في أصحابه، فقام لها وقام أصحابه لقيامه ثم قيل له إنها جنازة يهودي، فقال: أليست نفساً.

وتقديس الحياة كذلك هو الذي دفع إلى ما شاع في هذا العصر الحديث من إنكار عقوبة الإعدام مهما تكن جريمة من يقضى عليه بهذه العقوبة. ويرى أصحاب هذا الرأي أن الحياة أعظم خطراً وأكبر حرمة من أن يستبيح الإنسان لنفسه سلبها، ويرون أن الحياة شيء لا يستطيع الإنسان أن يمنحه فلا ينبغي له أن يسلبه.. وإنما يسلب الحياة من منح الحياة.

وكذلك أمعن الناس في تقديس الحياة وفي إنكار البطش بها والاعتداء عليها. ومازال أمر الله قائماً بتحريم الحياة إلا بحقها ومازالت القوانين تحرم الاعتداء على الحياة وتعاقب عليه أشد العقوبات وأصرمها، ولكن الدين والقوانين شيء وما دفع الناس إليه في حياتهم الحديثة شيء آخر. وليس من شك في أن الناس لم يعرفوا قط عصراً هانت فيه حياة الناس كهذا العصر الذي نعيش فيه.

تخالف الدول عن أمر الدين والقوانين، فتقدم على الحرب المنكرة التي لا تعرف لحياة الأفراد والجماعات حرمة، ولا ترجو للدين ولا القوانين ولا للأخلاق وقاراً، ولا تفرق بين الجند المسلحين والمشاركين فيها والعزل الوادعين الذين لا يريدون حرباً ولا قتالاً، ولا يتمنون إلا أن يعيشوا في دعة وسعة، يحتملون أعباء الحياة ما خف منها وما ثقل، لا يؤذون أحداً، ولا يحبون أن يريدهم أحد بالأذى. وإغراق الحرب الحديثة في الإثم واستهانتها بالحياة واستخفافها بالمقدسات كلها وإشاعتها للموت وللهول بغير حساب، كل ذلك أهدر قيمة الحياة أثناء الحرب وأهدر قيمة الحياة أثناء السلم أيضاً.

وقد قرأت في إحدى الصحف الفرنسية التي وصلت إلى من باريس في هذه الأيام الأخيرة أن الفرنسيين قتلوا من أهل الجزائر سنة 1945 بعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها عدداً ضخماً يبلغ المقللون له خمسة عشر ألفاً، ويبلغ المكثرون له أربعين ألفاً.

والله يعلم كم يقتل الفرنسيون من الجزائريين في ثورتهم هذه القائمة، وكم قتلوا من التونسيين والمراكشيين، وكم يقتلون منهم أثناء هذا الصراع المتصل بين قوم يريدون أن يعيشوا كراماً وآخرين يريدون أن يستذلوهم ويتخذوهم رقيقاً، بعد أن ألغت الحضارة الحديثة الرق فيما يقول أصحابها، وضحايا الاستعمار في الهند الصينية من المستعمرين المناهضين لهم لا يحصون بعشرات الألوف، وإنما يحصون بمئاتها، ومن يدري كم كان عدد الذين ضحى بهم الاستعمار الإنجليزي في شرق الأرض وغربها منذ انقضت الحرب العالمية الثانية إلى الآن؟

وكنت أفكر في هذا كله منذ وقت طويل، وأحمد الله الذي لا يحمد على المكروه سواه، وأقول لنفسي ولكثير من الناس، إننا ما زلنا في عافية مما يمتحن به غيرنا من رخص الحياة الإنسانية، وغلاء المال والمنافع والمطامع على حقارتها.


ونحن نصبح ذات يوم فإذا الهول يتكشف لنا كأشنع ما يكون الهول، وإذا بعض المصريين يمكرون ببعض، وإذا الموت يريد أن يتسلط على مصر كما تسلط على كثير غيرها من أٌقطار الأرض.

وإذا كل واحد منا كان آمناً أمن الغفلة الغافلة يظن أنه لن يتعرض إلا لما يتعرض له الناس الآمنون من هذه الآفات التي لا يسلطها الإنسان على الإنسان، وإنما تسلطها الطبيعة على الحياة. إنا كنا غافلين حقاً خدعنا ما عرفناه عن وطننا هذا الوادع الهادئ الكريم الذي لا يحب العنف ولا يألفه، ولا يحب أن يبلغ أرضه، فضلاً عن أن يستقر فيها.

ولم لا؟ ألم نشهد منذ عامين اثنين ثورة يشبها الجيش وفي يده من وسائل البأس والبطش ما يغرى بإزهاق النفوس وسفك الدماء، ولكنه يملك نفسه ويملك يده فلا يزهق نفساً ولا يسفك دما ولا يأتي من الشدة إلا ما يمكن تداركه، ولا يجرح إلا وهو قادر على أن يأسو، ولا يعنف إلا وهو قادر على أن يرفق، وإذا ثورتنا فذة بين الثورات لا تأتي من الأمر ما لا سبيل إلى إصلاحه غداً أو بعد غد.

كل هذا لأن مصر لا تحب العنف ولا تألفه، ولأن نفوس أهلها نقية نقاء جوها، صافية صفاء سمائها، مشرقة إشراق شمسها، تسعى في طريقها مطمئنة كما يسعى نيلها مطمئناً ناشراً للخصب والنعيم من حوله. تضطرب فيها الضغائن والأحقاد بين حين وحين، ولكنها لا تلبث أن تثوب إلى العافية كما تثور فيها الرياح فتملأ الجو غباراً ثم لا تلبث أن تعود إلى الهدوء الهادئ المطمئن.

كذلك عرفنا مصر في عصورها المختلفة، وكذلك رأيناها حين ثار جيشها منذ عامين فأخرج الطاغية، ولكنه أخرجه موفوراً يحيا كما يجب أن يحيا مكفوف الأذى عن مصر، لم يؤذ في نفسه قليلاً ولا كثيراً.

واشتد على بعض أبنائها شدة يمكن أن يتداركها باللين في يوم من أيام الصفو هذه التي تعرف كيف تملأ قلوب المصريين حباً ودعة وأمناً وسلاماً، ولكننا نصبح ذات يوم فنستكشف أن فريقاً منا كانوا يهيئون الموت والهول والنكر لإخوانهم في الوطن ولإخوانهم في الدين ولإخوانهم في الحياة التي يقدسها الدين كما لا يقدس شيئاً آخر غير من أمور الناس.

ما هذه الأسلحة، وما هذه الذخيرة التي تدخر في بيوت الأحياء وفي قبور الموتى؟ ما هذا المكر الذي يمكن، وما هذه الخطط التي تدبر، وما هذا الكيد الذي يكاد؟ لم كل هذا الشر، لم كل هذا النكر، ولم رخصت حياة المصريين على المصريين، كما رخصت حياة الجزائريين والمراكشيين والتونسيين على الفرنسيين، وكما رخصت حياة الإفريقيين والآسيويين على الإنجليز؟

يقال إن حياة المصريين إنما رخصت على المصريين بأمر الإسلام الذي لم يحرم شيئاً كما حرم القتل، ولم يأمر بشيء كما أمر بالتعاون على البر والتقوى، ولم ينه عن شيء كما نهى عن التعاون على الإثم والعدوان، ولم يرغب في شيء كما رغب العدل والإحسان والبر، ولم ينفر من شيء كما نفر من الفحشاء والمنكر والبغي.

هيهات إن الإسلام لا يأمر بادخار الموت للمسلمين، وإنما يعصم دماء المسلمين، متى شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. ويرى قتل النفس البريئة من أكبر الإثم وأبشع الجرم، وإنما هي العدوى النكرة جاء بعضها من أعماق التاريخ وأقبل بعضها الآخر من جهات الأرض الأربع التي تستحل فيها المحارم وتسفك فيها الماء بغير الحق، ويستحب فيها الموت لأيسر الأمر.

جاء بعضها من أعماق التاريخ. من أولئك الذين قال فيهم رسول الله صلى الله وعليه وسلم، إنهم يقرأون القرآن لا يتجاوز تراقيهم، والذين كان أيسر شيء عليهم أن يستبيحوا دماء المسلمين مهما تكن منازلهم في الإسلام، وأن يتحرجوا فيما عدا ذلك تحرج الحمقى لا تحرج الذين يتدبرون ويتفكرون ويعرفون ما يأتون وما يدعون!! وجاءهم بعضها الآخر من هذا الشر المحيط الذي ملأ الأرض ظلماً وفساداً. من هذا القتل المتصل في الحروب يثيرها بعض الأقوياء على بعض، وفي البطش يصبه الأقوياء على الضعفاء في البلاد المستعمرة التي يريد أهلها الحرية ويأبى المتسلطون عليها إلا الخضوع والإذعان والسمع والطاعة يفرضون ذلك عليها بالحديد والنار.


وأنباء هذا الشر المحيط تملأ الجو من طريق الراديو، وتملأ القلوب والعقول من طريق الصحف، وتثير في نفوس الأخيار حزناً ولوعة، وفي نفوس غيرهم ميلاً إلى الشر ورغبة فيه وتهالكاً عليه.

ولم يأت هذا الشر الذي تشقى به مصر الآن من طبيعة المصريين لأنها في نفسها خيرة، ولا من طبيعة الإسلام لأنه أسمح وأطهر من ذلك، وإنما جاء من هذه العدوى.

والخير كل الخير هو أن نطب لهذا الوباء كما نطب لغيره من الأوبئة التي تجتاح الشعوب بين حين وحين. وقد تعلم الناس كيف يطبون للأوبئة التي تجتاح الأجسام وتدفعها إلى الموت دفعا، فمتى يتعلمون الطب لهذا الوباء الذي يجتاح النفوس والقلوب والعقول فيغريها بالشر ويدفعها إلى نشره وإذاعته ويملأ الأرض بها فسادا وجورا؟

بهذا يأمر الله عز وجل في القرآن العزيز حين يقول في الآية الكريمة: ((وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))".