حديث الأسبوع

السيادة الرقمية والحروب المعاصرة

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

عبدالله البقالى

فتح الاتحاد الأوروبى واجهة جديدة فى مواجهته مع العمالقة الذين يقبضون على أنفاس تكنولوجيات الاتصال الحديثة، ويبدو واضحا أن دول القارة العجوز تسعى إلى التحرر من الهيمنة المطلقة التى تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية فى هذا الصدد. والواضح أيضا أن الاحتجاجات الأوروبية المتتالية التى نبهت إلى الخطورة البالغة التى تكتسيها استباحة حياتهم الخاصة من طرف الشركات الأمريكية العملاقة، مهدت الطريق أمام الاتحاد الأوروبى لفتح هذا الملف الكبير الذى تحاشت الاقتراب منه لفترة طويلة، لكن ما يحدث حاليا من تحكم مطلق للقوى التكنولوجية الأمريكية بصفة رئيسية، والصينية بدرجة أقل، أجبرت دول الاتحاد الأوروبى على البحث بجدية هذه المرة فى قضية الاستقلال الرقمى.
واقع الحال اليوم، يكشف أن الحياة الخاصة لرواد فضاء الإنترنت، خصوصا أسماء وألقاب المواطنين الأوروبيين وعناوينهم وأرقام هواتفهم الشخصية، وأرقام بطاقاتهم البنكية، ومعلومات أخرى تتعلق بأوضاعهم الصحية وأنشطتهم التجارية، وحتى تحركاتهم الشخصية، هى اليوم مخزنة فى شبكات التواصل الاجتماعى العالمية، أو فى المواقع التجارية، ومحتجزة من طرف عمالقة الإنترنت فى الولايات المتحدة الأمريكية «أمازون ويب سرفيس - AWS - وميكروسوفت - AZUR - وغوغل وآبل» وهى التى تستحوذ على ما يفوق 70 بالمائة من سوق الاستضافات فى العالم، وهى جميعا متمركزة فى الولايات المتحدة الأمريكية، بما يعنى أن بلاد العم سام تتحكم بصفة مطلقة فى تحركات وفى أنفاس الأوربيين، والأدهى من ذلك أن عمالقة الإنترنت فى العالم المستقرون فى الولايات المتحدة الأمريكية يخزنون هذه المعلومات الشخصية لملايين الأشخاص، ولآلاف الشركات الأوروبية والعالمية دون موافقة صريحة من أصحابها، ودون حتى معرفة الأماكن والمواقع التى تخزن فيها هذه المعلومات ذات الطابع الشخصى، وهذا ما يطرح فى نظر الأوربيين إشكال صيانة وحماية الحق فى الحفاظ وفى التصرف فى المعطيات ذات الطابع الشخصى المحمية بقوانين صارمة فى الأقطار الأوربية، وفى العديد من بلدان العالم. ويستحضر المختصون بهذا الشأن القضية التى أضحت معروفة بـ «فضيحة Cambridge Analytica» حيث تم الاستحواذ على ما يفوق 100 مليون من الحسابات الشخصية على شبكة الفايسبوك، وتم استخدامها واستغلالها لأغراض سياسية دون، ليس موافقة أصحابها فقط، بل حتى دون علمهم بذلك. دون أن ننسى التذكير بالعديد من الحالات التى كادت تفجر أزمات سياسية بين منظومة الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة، ليس أقلها خطورة اختراق آلاف الحسابات الشخصية لشخصيات أوربية، بمن فيهم المستشارة الألمانية ميركل من طرف جهات أمريكية أمنية لأهداف استخباراتية وسياسية صرفة.
إن هذه المعطيات وغيرها كثير يؤشر على وجود حالة تبعية قسرية لدول القارة الأوربية، ولجميع دول العالم، للولايات المتحدة الأمريكية التى أتاحت لها هذه التبعية إحصاء أنفاس الأوربيين وتحركاتهم وجميع أنشطتهم.
هذه الوضعية الاستعمارية، إن صح التعبير، دفعت إلى واجهة الاهتمام فى دول القارة العجوز نقاشا صاخبا حول مفهوم (السيادة الرقمية) التى لم تعد تقل أهمية عن السيادة الترابية، وسيادة القرارات السياسية والاقتصادية الوطنية، لأن الجهة التى تتحكم فى قنوات رواج المعلومات، وتهيمن على مواقع تخزين كمية كبيرة وهائلة من المعلومات الشخصية والجماعية قادرة على التأثير بقوة فى مجمل القرارات السياسية والاقتصادية، وبإمكانها المساس بمختلف تجليات السيادة الوطنية لجميع الأقطار. وبما أن العلاقات الدولية المعاصرة تتميز بالتجاذب والنزاعات والاختلافات بين الدول، وبين التجمعات الإقليمية، فإن الذى يتحكم فى تخزين المعلومات يكون مؤهلا أكثر لتوجيه هذه العلاقات بما يخدم مصالحه القطرية، وأكثر قدرة على تطويع القرارات المتعلقة بالنظام الدولى المعاصر بما يلبى احتياجاته فى الاستفادة بأعلى قدر ممكن.
والحقيقة، أن الاتحاد الأوروبي، وإن استشعر الخطورة البالغة لفقدان الاستقلال الرقمى لدوله، فإن تصديه لهذا الوضع الصعب لايزال يتسم بالبطء، وهى الحقيقة التى أكدها رئيس اللجنة الأوروبية نفسه السيد أرسيلا فون دير لينين حينما صرح بأن «أوروبا كانت بطيئة فيما يتعلق بالمعطيات ذات الطابع الشخصي، وظلت مرتبطة بالآخرين»، وهى اليوم بالكاد تقوم ببعض الخطوات المحدودة، من قبيل الحديث عن إعداد (خطة استراتيجية جديدة للتخفيف من اعتمادها على شركات التكنولوجيا الرقمية الأجنبية) وتهدف هذه الخطة، حسب ما هو منشور على موقع الاتحاد الأوربي، (إلى تسجيل مناخ رقمى أكثر ارتباطا بالقيم والقواعد الأوربية فيما يتعلق بالسلع والخدمات) و(إلى تطوير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وتمكين مؤسسات القطاع العام والشركات الناشئة من الوصول بصورة أفضل إلى البيانات). لكن مراقبين متخصصين يؤكدون أن معركة دول الاتحاد الأوروبى فيما يتعلق بتحقيق الاستقلالية الرقمية، وبالتالى فرض السيادة الرقمية لن يكون سهلا ولا بسيطا، لسبب واحد وواضح، يتمثل فى عدم التوفر حاليا على قوة تكنولوجية قادرة على أن تستخدم كسلاح فعال وحاسم فى هذه المعركة مع عمالقة كبار جدا فى مجال تكنولوجيا الاتصال يتمركزون فى الولايات المتحدة الأمريكية.
وإذا كان الاتحاد الأوروبى الذى يشكل أحد أهم التجمعات الإقليمية فى العالم، وأحد أبرز القوى الجهوية فى العالم المعاصر، قد فشل لحد الآن فى فرض سيادته الرقمية فى مواجهة قوى استعمارية جديدة، فما القول إذن بالنسبة لباقى دول العالم التى لم تستطع لحد الآن فتح فاهها فى قضية السيادة الرقمية؟
الجواب معلوم وواضح، إن العالم يواجه حاليا مظهرا متجددا من الاستعمار الجديد الذى يستند إلى التكنولوجيا الحديثة فى مجال الاتصال كأسلحة فتاكة فى الحروب المعاصرة .