مصر الجديدة :

الدين فى فرنسا

إبراهيم عبد المجيد
إبراهيم عبد المجيد

من يسيئون إلى فرنسا الآن، لا يعرفون أن فرنسا قامت بثورات مات فيها الآلاف من أجل فصل الدين عن الدولة وانهاء هيمنة الكنيسة على الحكم. تستطيع أن تقول إنه منذ الثورة الفرنسية عام 1789 حتى نهاية القرن التاسع عشر فكل الثورات والهبّات التى جرت كان هذا أحد أهم اهدافها ولقد نجحت فيه. الذين يسافرون إلى فرنسا يعرفون جيدا أنه فى تعاملاتك اليومية منذ أن تنزل أرض المطار لا ينظر فيها شخص إلى دينك ولا يسألك عنه. لم تعد هناك مقدسات من شخصيات دينية، ولم يعد أحد مشغولا بها. الكنيسة مكان يزوره بعض الناس للصلاة يوم الأحد أو للزواج وما إن يخرج منها الشخص حتى يعود إلى حياته. يرتدى ما يشاء ويأكل ما يشاء ويقيم الحفلات ويدخل السينما والمسرح ويشترى الكتب ليقرأ ويمارس حياته فى الحب إلخ. الدين مكانه كنيسة أو معبد يهودى أو جامع، لكن فى الحياة الأمر مرهون بالكفاح اليومى وبالعلم والدراسة. المهاجرون إلى فرنسا اكثرهم من دول عربية كانت يوما تحت الاحتلال الفرنسى عربية وأفريقية، وكذلك من دول مثل مصر أو اليمن أو سوريا أو العراق ضاقت الحياة عليهم فيها. كثيرون يدخلون بطرق غير مشروعة لكنهم يعيشون فى سلام فنادرا جدا جدا ما يستوقفك شرطى ليسألك عن إقامتك والأوراق التى تثبت ذلك. ثم يجدون طريقة للحصول على الإقامة، وأسهل الطرق هى الزواج من فرنسية وذلك يحدث كثيرا فيكون الزواج مدخلا لإقامة رسمية. قابلت مصريين كثيرين من الشباب خلال ترددى على فرنسا فى الأربعين عاما الماضية. لم أقابل أحدا يتحدث فى أمر الدين قط. حتى المساجد -وهى بالمناسبة تزيد على ألفى مسجد- يدخل إليها المسلمون ويخرجون كروتين عادى. مؤكد أن الكثيرين منهم بسطاء لا يدركون معركة فرنسا فى التاريخ لفصل الدين عن الدولة، لكنهم صاروا مثل الفرنسيين حولهم لا يتحدثون فى هذا الأمر. مع الزمن تركز الكثير من المهاجرين فى بعض الأحياء فى الضواحى، ولكثرتهم وقلة الفرنسيين حولهم تأخر تأثرهم بالحياة الفرنسية الطبيعية. الدولة الفرنسية نفسها لم تنتبه إلى أن هذه الكانتونات يمكن أن تصبششح ملاذا لفكر متطرف إلا متاخرا مع حديث ماكرون. لكن حتى رغم ما جرى من محاولة قتل سيدتين مسلمتين بعد مقتل المدرس الفرنسى فلن يصبح هذا طريقا معتمدا أبدا عند الدولة التى تركت الدين وراءها منذ زمن طويل، ولا عند الشعب الذى لا شك أن أكثره فى اندهاش. لن تتجاوز مغازلة ماكرون لليمين قبل الانتخابات وسيجد مقاومة من الفرنسيين؛ لذلك لا أرى أى معنى لوضع فرنسا كلها فى خانة الاتهام. والتذكير بتاريخ فرنسا فى المستعمرات كأن تاريخ المسلمين فى الغزوات كان كله سلام فى سلام. كأن العثمانيين مثلا حين غزوا أوربا كانوا يرقصون مع أهلها فى الشوارع. وكما تقولون عن القاتل المسلم إنه حادث فردى لماذا لا تقولون عن المعتدى الفرنسى إنه حادث فردى؟ كيف يصبح المعتدى الفرنسى ممثلا لفرنسا بينما المعتدى المسلم ممثلا لنفسه؟ كيف يمثل المعتدى الفرنسى بلدا فصل الدين عن الدولة من زمان ولا نقول إنه رد فعل أو حتى عنصرية ظهرت عند عدد لا يذكر بسبب ما يدور حوله فى العالم الإسلامى؟ وحين تغلق فرنسا بعض المساجد أو المدارس السرية للمسلمين يقولون إنه موقف من الإسلام بينما فى فرنسا قبل غيرها من له حق فليلجأ للقانون وسيأخذه ولو من رئيس الجمهورية نفسه. قليلا من العقل أيها الذين تملأون الفضاء الافتراضى بدعوات الهجوم على فرنسا أو تملأون القنوات الخارجية بذلك. فى فرنسا قانون ينصف أى شخص. كفاكم معارك وهمية ولا تصبوا الزيت على النار.