ورقة وقلم

ياسر رزق يكتب: المشير والشهيد والجريح.. وعظماء آخرون

ياسر رزق
ياسر رزق

أنفقت فترة طويلة من عمرى كى أتأقلم نفسياً مع اللون الأزرق الغامق أو الكحلى، وحتى أستطيع أن أختاره لوناً لرداء أو مفروشات أو مقتنيات، دون أن أتجرع مرارة أو أشعر بغصة فى حلقى!

فقد كان زجاج النوافذ مدهونا باللون الأزرق، وكانت أبواب الشرفات مغطاة باللون الأزرق، وكانت المصابيح تكاد تحجب ضياءها أوراق سميكة لونها أزرق.. كل ذلك حتى لا تتسلل أضواء المنازل إلى سماء الليل فترشد طائرات العدو الإسرائيلى المغيرة إلى المدن المصرية لاسيما تلك القريبة من جبهة سيناء المحتلة، أيام حرب الاستنزاف.

حتى كراسات المدرسة، كانت مغطاة بالجلاد الأزرق.

تلاميذ مدرسة بحر البقر لم يلحقوا أن يلبوا نداء مطربة مصر شادية: «الدرس انتهى.. لموا الكراريس»، ومزقت أجسادهم الصغيرة، إلى أشلاء مغطاة بدماء تلعن جرائم الصهاينة إلى يوم الحساب.

أذكر ذلك اليوم جيداً، وأنا أرقب دموع أمى وزفرات غضب أبى، ونحن نشاهد فى نشرة الليل على شاشة التليفزيون صور أشلاء الأطفال التلاميذ الممتزجة بأوراق كتبهم وكراساتهم، يوم 8 أبريل 1970.

كانت تلك أول مرة أتذوق دموعى المرة وكنت لم أتم الخامسة من عمرى.

< < <

مهما مرت السنون، وجرت الأيام، لا أستطيع أن أطرد تلك المشاهد من ذاكرتى، التى كانت أول ما احتفر فى ذهنى فى بواكير أيام الطفولة.

مازلت أذكر صفارات الإنذار تنعق، تنذر بقدوم غارات العدو إلى سماء ناحيتنا فى مدينة الزقازيق مهجرى وأسرتى من مدينتنا الإسماعيلية فى أعقاب عدوان الخامس من يونيو 1967.

لا أنسى تقافز الأهل والجيران على سلالم بيوتهم إلى الأدوار الأرضية حاملين أطفالهم مثلى، متجهين إلى المخابئ أو بدرومات المنازل، للنجاة من قصف طائرات العدو. وأمام مداخل البيوت والمخابئ حوائط من الأسمنت وجدران من الطوب الأحمر، أقيمت لعلها تقى ساكنى البيوت ولاجئى المخابئ من شظايا الصواريخ والقنابل.. ولولا ذلك الجدار «الذى كان يحجب مدخل منزلى» ما عرفنا قيمة الضوء الطليق، مثلما قال الشاعر الفذ أمل دنقل.

تلك المشاهد تظل تطاردنى وتحيط بى وتحاصرنى فى أوقات ما متفرقة، دونما أسباب إلا الشجن، ثم تتبخر فى لحظة كأن لم تكن، كلما تداعى إلى الذاكرة مشهد فرحة الحى ببيان رفع العلم يوم السادس من أكتوبر 1973، وصورة علم مصر يرفرف خفاقاً عالياً فوق سيناء، ونغمة حلاوة النصر فى أغنية «الربابة» الاكتوبرية، وحروف مانشيت جريدة «الأخبار» تحتضن العينين صباح السابع من أكتوبر وتهز خاصرة الفؤاد المنتشى وهى تقول: «عبرنا القناة ورفعنا علم مصر».

< < <

أتريد أن تعرف قيمة يوم السادس من أكتوبر؟

اسأل نفسك وأجب عليها!

هل جربت أن تتنسم هواء بلدك، بينما يتنفسه معك ويزفره غاصب ؟!

هل جربت شعور أن يطأ محتل تراب بلادك وأن يدوس معها كبرياءك وشرفك الوطنى؟!

هل جربت أن تحس بسمائك مستباحة، تعربد فيها طائرات العدو، وتقذف منها القنابل العنقودية وقنابل البلى المحرمة دوليا وقنابل النابالم الذى تزيده المياه اشتعالا فوق التهاب، وشراك الأقلام واللعب التى إن أمسك بها الأطفال تنفجر فى أيديهم وتطير أكفهم وتشوه وجوههم؟!

هل جربت كسرة النفس، كلما صفعت عينيك نجمة داود علماً يرتفع على رمال سيناء، أو شعاراً يرتسم على ذيل طائرة قتال تحلق فى سماء بلادك؟!

أنا جربت هذا وجيلى حينما كان وعينا يتفتح فى فجر العمر، وذاقه وتجرعه جيلان سبقانا إلى الوعى وإلى المعركة، وبعضهم خاض القتال مرتين على جبهة سيناء.

< < <

لا أستطيع أن أخفى شعورى بأننى كنت سعيد الحظ فى أمور شتى.

لكن أكثرها إثارة لأحاسيس الفخر والاعتزاز أننى عرفت واقتربت من قادة عظام خططوا لحرب أكتوبر وأداروا أعمال القتال، وضباط شجعان خاضوا المعارك على جبهة سيناء، حرروا الأرض وصانوا العرض واستردوا الكرامة.

أفتخر بأننى قابلت المشير محمد عبدالغنى الجمسى رئيس هيئة عمليات ثم رئيس أركان الحرب، والمشير محمد على فهمى قائد قوات الدفاع الجوى والفريق طيار محمد حسنى مبارك قائد القوات الجوية، واللواء إبراهيم فؤاد نصار مدير المخابرات الحربية، واللواء حسن الجريدلى السكرتير العام لوزارة الحربية ثم رئيس هيئة العمليات، واللواء سعد مأمون قائد الجيش الثانى واللواء عبدالمنعم خليل قائد المنطقة المركزية ثم قائد الجيش الثانى واللواء عبدالمنعم واصل قائد الجيش الثالث، والعمداء فؤاد عزيز غالى قائد الفرقة 18 مشاة وحسن أبوسعدة قائد الفرقة الثانية مشاة، وعبدرب النبى حافظ قائد الفرقة 16 مشاة، ويوسف عفيفى قائد الفرقة السابعة مشاة، وإبراهيم عبدالغفور العرابى قائد الفرقة 21 المدرعة وعبدالعزيز قابيل قائد الفرقة الرابعة المدرعة، ونبيل شكرى قائد الصاعقة ومحمود عبدالله قائد المظلات.

وأفتخر بأننى قابلت وصادقت عديداً من قادة الألوية والكتائب والسرايا الذين خاضوا الحرب، والضباط الشبان الذين كانوا وقود النصر، ومازال من بينهم فى الصفوف الأولى لنظام 30 يونيو الفريق عبدالعزيز سيف الدين واللواء محمد أمين مستشارا الرئيس عبدالفتاح السيسى.

وكان من بواعث اعتزازى أننى التقيت الرقيب مجند محمد المصرى الذى استطاع تدمير 33 دبابة إسرائيلية بمقذوفات الملوتيكا الموجهة المضادة للدبابات والجندى محمد العباسى أول من رفع علم مصر على الضفة الشرقية لقناة السويس.

غير أن الحظ لم يسعدنى بالالتقاء بمشير أكتوبر أحمد إسماعيل على القائد العام للقوات المسلحة الذى رحل يوم 26 ديسمبر 1974، قبيل 13 عاماً من بدء عملى كمحرر عسكرى لجريدة «الأخبار»، ولا بالمشير فؤاد ذكرى قائد القوات البحرية الذى رحل عام 1983، ولا بالمشير أحمد بدوى قائد الفرقة السابعة الذى رحل فى حادث الطائرة الهليكوبتر المأساوى بسيوة يوم 2 مارس ١٩٨١ هو و13 من كبار القادة، حينما كان قائداً عاماً للقوات المسلحة.

بينما تقطعت الأسباب بينى وبين الفريق سعد الشاذلى رئيس أركان حرب القوات المسلحة أثناء حرب أكتوبر، فلم نلتق حتى رحل يوم 10 فبراير 2011.

< < <

تتزاحم أفكار الذكريات فى رأسى عن الرجال العظام وقصص بطولاتهم التى سمعتها بأذنى وسطرتها على صفحات هذه الجريدة خلال العقود الماضية.

غير أننى أعتز كثيراً بحوارى مع مؤسس الدفاع الجوى المشير محمد على فهمى الذى التقيته منذ 25 عاما مضت وهو بالمناسبة والد الفريق على فهمى القائد الحالى للدفاع الجوى.

والمشير فهمى من رجال العسكرية المصرية الأفذاذ الذين يجمعون بين العلم العسكرى والثقافة العامة الرفيعة وبين التهذيب وسمو الأخلاق والانضباط والشدة اللازمة.

فى يوم 23 يونيو عام 1969، علم اللواء محمد على فهمى بقرار الرئيس عبدالناصر بتعيينه كأول قائد لقوات الدفاع الجوى المسئولة عن حماية المجال الجوى المصرى (الذى كان مستباحاً فى ذلك الحين) ضد هجمات العدو الإسرائيلى المعادية. والتقى به عبدالناصر وقال له: إننى أشفق عليك يا محمد من ثقل المسئولية.

وخرج فهمى من اللقاء وهو يرنو نحو السماء ووجدها مترامية الأطراف متسعة الأبعاد، وأدرك مدى اتساع مسئوليته.

وفى يوم 26 مارس 1970، أبلغ الفريق أول محمد فوزى، قائد الدفاع الجوى بقراره إنشاء نظام دفاع جوى جديد فى منطقة الجيشين الثانى والثالث بالجبهة، وفى يوم 15 مايو تم إعداد خطة من 3 مراحل بدأ تنفيذها بعد 12 يوماً لإنشاء حائط الصواريخ.

ووسط ملحمة بطولية امتزجت فيها تضحيات العسكريين بالمهندسين والعمال المدنيين، اكتمل حائط الصواريخ قبل منتصف ليل 7 أغسطس عام 1970، على مسافة تتراوح بين 18 كيلومترا و10 كيلومترات غرب القناة، ليلقى الحائط بظلاله على مسافة عدة كيلومترات شرق القناة فى سيناء.

وفى احد أيام شهر يونيو عام 1973، اتصل الرئيس السادات بالفريق أول أحمد إسماعيل القائد العام، وطلب منه إبلاغ اللواءين محمد على فهمى وحسنى مبارك (قائد القوات الجوية) بأنهما سيرافقان الرئيس فى زيارة سيقوم بها إلى ليبيا وسوريا.

فى اليوم التالى.. وعلى متن الطائرة، استمع الرئيس من القائدين إلى جاهزية الدفاع الجوى والقوات الجوية.

ثم قال لهما: لقد قررت خوض الحرب وأمامنا 3 شهور على الأكثر. ولا مفر من ذلك فيجب أن نحرك الموقف السياسى بعمل عسكرى ناجح.
فى صباح السادس من أكتوبر.. توجه اللواء فهمى بصحبة اللواء مبارك إلى كوبرى القبة للقاء الفريق أول أحمد إسماعيل الذى اطمأن من كل منهما على موقف قواته، ثم غادر كل منهما إلى مركز قيادته.

فى تمام الواحدة والنصف.. أعطى فهمى الكلمة الكودية لقواته: «جبار»، وشرع قادة تشكيلات الدفاع الجوى فى اتخاذ الإجراءات التى طالما تدربوا عليها، لتأمين 250 قاذفة مصرية من نيران وسائل دفاعنا عند عبورها القناة، والتصدى لأى محاولات لاختراق الأجواء المصرية.

وفى حوالى الخامسة مساء.. التقطت الأجهزة المصرية الخاصة إشارة لاسلكية مفتوحة تحمل أوامر من الجنرال بنيامين بيليد قائد القوات الجوية الإسرائيلية إلى طياريه بتجنب الاقتراب من القناة لمسافة تقل عن 15 كيلومتراً.

وكانت تلك هى أولى البشارات بأن موازين المعركة بدأت تميل للجيش المصرى. وكان العدو قد فقد ما بين 16 إلى 18 طائرة خلال أقل من 3 ساعات.

وفى نهاية الأيام الثلاثة الأولى للحرب، حينما كان موشيه ديان وزير حرب العدو يعلن وهو يغالب دموعه بأن قواته تخوض حرباً ثقيلة بأيامها، ثقيلة بدمائها، كانت قواتنا المسلحة تدمر للعدو دبابة كل ربع ساعة وطائرة كل ساعة زمن.

< < <

من أبرز الذين التقيت بهم من قادة حرب أكتوبر، اللواء فؤاد نصار مدير المخابرات الحربية، الذى ينطق محياه بأمارات وقسمات رجل المخابرات، كما تتحدث عنها الكتب، وكما يظنها عموم الناس وأهمها عيناه اللتان تنطقان بخبث ودهاء معجونين فى ذكاء فطرى، برغم انه لم يعمل أبدا كضابط مخابرات قبيل توليه منصبه الرفيع فى مطلع عام 1973.

وفى أعقاب حرب أكتوبر، سألوا موشيه ديان: كيف استطاعت مصر تحقيق كل هذا دون مساعدة أقمار صناعية من دولة عظمى؟
أجابهم قائلا: لقد ملأت مصر سيناء برادارات بشرية لها عقول وليس أجهزة صماء.

كان ديان محقا لكنه قال نصف الحقيقة.

فقد نجحت مصر فى جمع المعلومات عن أوضاع القوات الإسرائيلية وتحصيناتها فى سيناء، فأصبحت كتابا مفتوحا أمام القوات المصرية.
لكن الذى لم يقله ديان، أن نجاح مصر الأكبر أنها حجبت عن إسرائيل أى معلومات عن نواياها فى الهجوم وتوقيت حدوثه. فقد اندلعت المعارك فى توقيت فاجأ إسرائيل رغم شواهد عديدة كانت تقول إن الحرب آتية. كان ذلك بفضل خطة خداع مصرية محكمة أشرف على وضعها هذا الرجل: فؤاد نصار.
كان من الضرورى لمفاجأة العدو وخداعه، خداع الجيش المصرى نفسه قبل بدء الحرب!


وكان السؤال: كيف يحتشد الجيش المصرى للحرب، دون أن يعرف أن هناك حرباً بعد أيام؟!

وكانت الاجابة، هى تنفيذ درس مستفاد من الاتحاد السوفييتى عندما غزا تشيكوسلوڤاكيا عام 1968، حيث أجرى مناورة، وتحت ستارها سن عملية الغزو.

وبالفعل تم الإعلان عن قيام القوات المسلحة المصرية بمناورة عامة تجرى فى الفترة من 1 إلى 7 أكتوبر على غرار مناورات الخريف التى تقوم بها فى كل عام، وكان يلزم لتنفيذها تحريك الكبارى والقوات تجاه الضفة الغربية للقناة.

وظن الإسرائيليون أن تلك المناورة كغيرها من المناورات السنوية المعتادة وأن تحريك الكبارى والقوات أمر روتينى، وساعد على ترسيخ هذا الظن كثرة الكلام فى مصر عن شن حرب منذ الإعلان عن عام الحسم فى سنة 1971، دون أن يندلع قتال.

وفى إطار خطة الخداع.. أعلن عن تنظيم رحلات للضباط لأداء فريضة الحج وتحدد يوم 9 أكتوبر موعدا لتسجيل اسماء الراغبين، وكذلك تم تعبئة 120 ألفا من جنود الاحتياط يوم 27 سبتمبر لإجراء المناورة، وتم تسريح 20 ألفا منهم يوم 4 أكتوبر والإعلان عن تسريح الباقى تباعاً.

وفى يوم 2 أكتوبر.. استدعى اللواء فؤاد نصار، كبير ضباط الاتصال السوفييت الجنرال جودسكى وقال له إن لديه معلومات بأن إسرائيل تستعد للإغارة على القوات المصرية غرب القناة.

ومضى كل شىء فى إطاره المرسوم، ولكن فى ليل 4 أكتوبر، بدأت موسكو فى ترحيل العائلات السوفييتية المقيمة بمصر وسوريا.

وفى فجر يوم 5 أكتوبر.. اتصل الجنرال ايلى زعيرا مدير المخابرات الحربية الإسرائيلية، بالجنرال زامير مدير الموساد، وأبلغه بأنه تلقى معلومات بأن العائلات السوفييتية يجرى ترحيلها من مصر وسوريا، فرد عليه مدير الموساد بأنه تلقى نفس المعلومات، وأنه على موعد مع شخصية مهمة للتأكد منها.

وعلى إثر هذه المعلومات.. عقد اجتماع عاجل فى إسرائيل ترأسه الجنرال ديان وزير الدفاع الذى سأل الحاضرين عما إذا كان ذلك فى رأيهم يعنى أن مصر ستشن الحرب.

اختلفت الآراء، ولكن رئى على سبيل الاحتياط إعلان التعبئة العامة فى صفوف القوات الإسرائيلية.

وفى يوم 5 أكتوبر، بدأ تدفق القوات الإسرائيلية إلى سيناء، وكانت عيون عناصر الاستطلاع المصرية لهم بالمرصاد.

وفى ذات اليوم، تلقى اللواء فؤاد نصار معلومات بأن إسرائيل منعت الحركة على الجسور المفتوحة، وأرسلت قوات من عناصر الاحتياط إلى المليز وتمادا ورفح فى سيناء لاستلام أسلحتهم، وسارع بإبلاغ الفريق أول أحمد إسماعيل والرئيس السادات بأهم معلومة يتلقاها من عناصر الاستطلاع المصرية فى سيناء ومفادها أن إسرائيل اكتشفت نوايانا فى الهجوم وأعلنت التعبئة.

وعقب السادات قائلا: الحمد لله أنهم علموا الآن فقط..!

كان الوقت قد أزف، وكانت العجلة قد دارت.

لم تتأكد إسرائيل من أن الحرب يوم 6 أكتوبر إلا فجر نفس اليوم، وجاءتها المعلومات من مصدر عربى رفيع الشأن والمقام (أبلغنى اللواء نصار باسمه). لكنه أخطر إسرائيل بأن موعد الحرب فى السادسة مساء، وهكذا ظلت ساعة الصفر سرا، وفوجئت إسرائيل بها فى موعد عبقرى لم يتوقعه أحد هو: الثانية من بعد الظهر.

< < <

فى سنوات الصبا.. طالعت كتاباً صغيراً ضمن سلسلة أصدرتها هيئة البحث العسكرية عن سير شهداء حرب أكتوبر.

وكان من أبرز تلك السير، قصة استشهاد الرائد طيار صبحى الشيخ، وقد تأثرت بها أيما تأثر، ومازالت صورته - رحمه الله - مرتسمة فى مخيلتى بملامحه السمراء وأظنه كان من أبناء أسوان.

وبعد 20 عاماً تقريباً من قراءتى لهذا المؤلف، لا أدرى ما هى المناسبة التى استحضرت اسم الشهيد طيار صبحى الشيخ إلى ذهنى، حينما كنت أحادث اثنين من الأصدقاء زملاء دفعتى بالدورة (26) فى كلية الدفاع الوطنى بأكاديمية ناصر العسكرية العليا وهما العقيد أ.ح صلاح فتحى، والعقيد طيار أ.ح طارق دنيا.

ووجدت العقيد فتحى يبتسم فى وجهى ويقول: هل تعرف أننى آخر من استمع إلى صوت الشهيد صبحى؟!

وأضاف: لقد كنت ضابطا برتبة ملازم فى الاستطلاع اللاسلكى، وسمعت صوت صبحى الشيخ، وهو يهتف: وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى، ثم ينطق الشهادتين، ومن بعدها انقطع الصوت.

وعلمت فيما بعد أنه كان يغير ضمن قاذفات الضربة الجوية الأولى على مطار رأس نصرانى بشرم الشيخ، وأصيبت طائرته، فما كان منه إلا أن حلق بها عاليا، ثم انقض بها تجاه هناجر الطائرات، واصطدم بها واستشهد بعد أن دمر 5 طائرات معادية وهو يشهد بأن لا إله إلا الله وان محمداً رسول الله.

وقال العقيد طيار طارق دنيا: هل تعلم شعور طيار الكيما كازى (الانتحارى/ الاستشهادى) وهو يقترب من هدفه؟!.. لقد حاولت مرة الاقتراب من جبل على مسافة كيلومترات، وكان شعورى أن الجبل هو الذى يندفع نحوى ولست أنا الذى أشق السماء نحوه، وقبل مسافة كبيرة من الجبل وجدتنى أجذب معدات التوجيه، لارتفع بالطائرة عالياً، فلقد كان شعوراً شديد الصعوبة لا يقدر عليه إلا أصحاب النفوس النورانية حين البأس.

< < <

أذكر منذ 33 عاماً، وكنت فى مطلع العشرينات من عمرى، أن استدعانى أستاذى الكاتب الكبير الراحل سعيد سنبل رئيس تحرير الأخبار فى ذلك الوقت، وأعطانى رسالة من رئيس شركة المطاحن عن تجربة له فى عدم إهدار تراب القمح الذى كان يهدد باشتعال المطحن ذاتيا، وتحويل تراب القمح الذى كان يسميه بـ«التبر» أى تراب الذهب، إلى علف للماشية بعد خلطه بالمولاس.

ألقيت عينىّ بسرعة على الخطاب، واستوقفنى اسم صاحب الرسالة: لواء أركان حرب عادل سليمان يسرى.

وقلت لأستاذى: أظن أننى أعرف شخصية صاحب الرسالة وأحسبه من أهم أبطال نصر أكتوبر.

ورد علىّ قائلا: اذهب إليه، وقابله وتأكد من شخصيته، وعد بالقصة. إذا كان هو ذلك البطل، سيكون للقصة شأن آخر.

وفعلاً ذهبت، وعند باب المنزل فى شارع الخليفة المأمون، وجدته هو نفسه العميد أركان حرب عادل سليمان يسرى صاحب أهم سيرة ذاتية لقائد من قيادات حرب أكتوبر، وهو «رحلة الساق المعلقة من رأس العش إلى رأس الكوبرى»، والذى تابعته وأنا فى سنوات الدراسة الإعدادية.

هو نفسه قائد اللواء 112 المشاة الذى حقق أعمق اختراق لتشكيل عسكرى فى قلب سيناء حتى حدود المضايق.

هو نفسه الضابط الذى قاد عملية رأس العش لمنع العدو من احتلال بورفؤاد بعد أسابيع من هزيمة 1967.

هو نفسه الضابط الذى استولى بقواته على جزيرة البلاح فى قلب قناة السويس، لتكون أول وثبة ظافرة للجيش المصرى بعد عدوان يونيو.

هو نفسه الضابط الذى كان يضرب به سيد شهداء الجيش الفريق عبدالمنعم رياض رئيس الأركان الأسبق الأمثال فى الجسارة وصلابة القلب وكان يصفه فى معرض المديح بـ«الضابط الفاقد»، أى الذى ليس لديه ما يبكى عليه..!

هو نفسه القائد، سيد جرحى الجيش المصرى على مر العصور.

هو نفسه صاحب الاسم رقم (1) فى قائمة حملة وسام نجمة سيناء من الطبقة الأولى الذى يمنح لمن قاموا بأعمال خارقة فى ميدان القتال، بينما جاء اسم المشير أحمد إسماعيل قائد القوات المسلحة المنتصرة رقم (32) فى القائمة.

على مدى 25 عاماً تالية وحتى رحيله فى 14 أكتوبر عام 2013 ظلت علاقتى وطيدة بهذا البطل الفذ المقدام اللواء أركان حرب عادل سليمان يسرى.

وإذا كان من الصعب أن أختزل سجل بطولة هذا المصرى المفعم بالرجولة والوطنية والشجاعة النادرة فى سطور أو فى مقال، فلعل لمحة سريعة عن قصة إصابته تعطينا دلالة عن شخصيته التى تستحق عملاً سينمائياً ضخماً أو مسلسلاً كبيراً، يعد له بإتقان ليعرض مع العيد الخمسين لحرب أكتوبر المجيدة بعد 3 سنوات.

ففى يوم 8 أكتوبر، كان العقيد أركان حرب عادل يسرى فى الخط الأمامى ضارباً المثل فى الشجاعة والإقدام لرجاله، بعد أن نالت القوات الإسرائيلية هزائم منكرة على أيديهم ومنهم البطل عبدالعاطى صائد الدبابات والبطل سعيد خطاب اللغم البشرى اللذان حصلا على نجمة سيناء.

وفجأة وأثناء تحركه بين قواته فى خضم معركة الدبابات الكبرى، أصابته دانة مباشرة من دبابة معادية فبترت ساقه وأطاحت بها.

ما كان منه إلا أن أخذ يوقف النزيف بحفنات من الرمال، ويستمر فى قيادة قواته وهو يهتف فيهم من يريد الثأر لى فليدمر دبابات العدو، وبالفعل دمر الرجال عدداً من الدبابات المعادية ومنها الدبابة التى بترت ساق قائدهم. وظل فى ساحة القتال يقود الرجال، حتى مغيب الشمس ولم يترك الموقع لينقل إلى المستشفى إلا بعد أن أصدر تعليمات تنظيم الدفاع.

وبعد انتهاء المعركة.. زاره المشير أحمد إسماعيل على فى مستشفاه وقال له: لقد انتصر علينا الإسرائيليون ومعهم جنرال بعين واحدة، ونحن انتصرنا عليهم ومعنا كولونيل بساق واحدة..!

< < <

المجد للجيش المصرى وقائده الأعلى وقادته ورجاله فى ذكرى حرب أكتوبر المجيدة، الأبطال الذين حققوا النصر، والرجال الذين يحافظون على هذا الانتصار ويصونون الأرض ويمتلكون قوة الدفاع والردع لحماية مكتسبات الشعب ومقدساته ومصالحه الحيوية داخل وخارج الجمهورية.