إنها مصر

جمال عبد الناصر

كرم جبر
كرم جبر

أسلم جمال عبد الناصر - الذى تحل ذكرى وفاته الخمسين ـ الروح وكان قلبه معلقاً بفلسطين وشعبها، وارتفع فوق الصغائر رغم جحود وغدر قادتها، وكان المشهد الأخير قبل الوفاة فى مطار القاهرة بعد أن ودع أمير الكويت، وعانق الزعماء العرب الذين حضروا القمة الطارئة المخصصة لوقف مذبحة أيلول الأسود، وعاد إلى بيته وطلب كوب عصير شربه ومات.
لعب عبد الناصر دور الحارس الأمين للقضية الفلسطينية وعاش ومات من أجل فلسطين، ولم يحتمل قلبه المفعم بمشاكل وأزمات العرب، جرحاً نازفاً بسبب إراقة الدم الفلسطينى فى الأردن.
حدثت أيلول الأسود التى تسببت فى موت عبد الناصر، لأن الفلسطينيين طمعوا فى الأردن واستباحوا سيادته وأراضيه، وأنشأوا دولة داخل الدولة تمنح التأشيرات وتفرض الجمارك وتفتش المدن والمطارات، واستهانوا بالجيش الأردنى، وقتلوا أحد الجنود وقطعوا رأسه ولعبوا بها الكرة أمام أهله، وحاولوا خلع الملك حسين ودبروا مؤامرات لاغتياله مرتين، وحولوا شوارع عمان إلى ميادين للحرب الأهلية.
تم إنقاذ ياسر عرفات المُحاصر من القتل بمعجزة، وخرج من السفارة المصرية مع البعثة الدبلوماسية مرتدياً عباءة سوداء، وكان فى وسع الملك حسين أن يقتله عندما ارتاب فيه جهاز المخابرات الأردنى، ولكنه أمر بأن يتركوه يغادر الأردن.
وكان جمال عبد الناصر فى هذا الوقت يعمل 16 ساعة فى اليوم، سافر إلى الرباط لحضور القمة العربية، ثم مر على الجزائر وزار طرابلس وبنغازى والخرطوم، ثم طار إلى موسكو وزار الخرطوم وليبيا مرة ثانية، وفى أثناء ذلك كان يتنقل بين القاهرة والإسكندرية وأسوان وجبهة القتال، ويقود حرب الاستنزاف.
رغم ذلك فقد اتهمته دول الصمود «العراق وسوريا والفلسطينيين» بخيانة القضايا القومية، عندما قبل مبادرة روجرز قبل وفاته بقرابة شهر، وزادت آلامه وأوجاعه وأحزانه من المظاهرات التى خرجت فى عواصم تلك الدول تنادى بسقوطه.
كيف يُتهم الزعيم الذى وهب حياته للعروبة وضحى من أجلها بأرواح ودماء شهدائه، بأنه يخون قضايا العروبة ولم يعد يصلح زعيماً لها؟، ولم يفقد إيمانه أبداً وظل مدافعاً عنها حتى النفس الأخير؟
مات جمال عبد الناصر فى الساعة الخامسة والربع مساء يوم 28 سبتمبر 1970، وكان عمره 52 سنة و8 شهور و13 يوماً، ولم يكن يعانى من أمراض مستعصية يمكن أن تؤدى إلى الموت فى هذه السن المبكرة، سوى السكر الذى أصيب به بعد هزيمة يونيو، ونجح الأطباء فى السيطرة عليه، بجانب تصلب الشرايين، وهى أمراض يتعايش معها من هم فى السبعين والثمانين.
الحقيقة هى أن مشاكل العروبة هى التى قتلت عبد الناصر وليس السكر ولا القلب.
مصر دائماً.. لم تخن ولم تبع، وظلت يدها نظيفة ولم تتلوث بدماء عربية، ولم تعرف الخيانة والغدر، حتى فى الأوقات التى يتآمر عليها الصغار الذين كانوا سبباً فى النكبات التى تحل بالعرب.