يوميات الأخبار

من حكايات الزعيم

محمد السيد عيد
محمد السيد عيد

بقلم/ محمد السيد عيد

جمال عبد الناصر.. رجل ملأ الدنيا وشغل الناس، وسيظل يشغلهم إلى ماشاء الله. هذا العام يوافق الذكرى الخمسين لرحيله، إذ توفى فى 28 سبتمبر 1970. وهذه لمحات من حياة ومواقف الزعيم.

- بداية العمل السياسي

اشتعلت المظاهرة فى ميدان المنشية بالإسكندرية. كان الطلبة يهتفون بحرارة: يسقط صدقى باشا. يسقط دستور 1930. لادستور إلا دستور 23. وقف البوليس متحفزاً. اقترب الطلاب من الحاجز الذى صنعه رجال البوليس بأجسامهم. علت هتافاتهم. صدر الأمر من القائد الإنجليزى: إضرب.

إنهالت العصى على الطلاب. لم يتراجعوا. صمدوا. أحس قائد الشرطة أن الطلبة سينتصرون على رجاله. طلب المدد. جاء المدد بسرعة، ضربوا الطلاب بالهراوات الغليظة. أسالوا دماءهم، ثم قبضوا عليهم بلا رحمة. واقتادوهم للحجز.

سأل وكيل النائب العام الطالب الواقف أمامه: ما اسمك؟
- جمال عبد الناصر حسين
- عملك؟
- طالب بالمرحلة الثانوية
- لماذا اشتركت فى المظاهرة؟
- للمطالبة يإسقاط دستور صدقى باشاـ وإعادة دستور 23
- كم عمرك؟
- خمسة عشر عاماً
- عمرك خمسة عشر عاماً وتتظاهر من أجل الدستور؟ حضرتك ناوى تكون زعيم سياسي؟
ونظر للجندى الذى أتى به وقال آمراً: خذوه.

كانت هذه هى بداية اهتمام الزعيم جمال عبد الناصر بالسياسة، وقال عنها فى حديث للصحفى دافيد مورجان بعد أن صار رئيساً للجمهورية: دخلت السجن تلميذاً متحمساً وخرجت منه مشحوناً بالغضب... لكنى كنت أعلم أن وطنى يخوض صراعاً متصلاً من أجل حريته.

- الكلية الحربية
الطابور يقف طويلاً أمام الكلية الحربية. الطلاب الذين جاءوا لسحب الأوراق كثيرون. فحكومة الوفد برئاسة مصطفى النحاس قد عقدت اتفاقية 1936 مع الإنجليز، وكانت المعاهدة تقتضى زيادة الجيش المصرى، ولذلك طلبت الكلية الحربية دفعة كبيرة. وتقدم أبناء الناس البسطاء، وأبناء الطبقة المتوسطة، ووقف جمال عبد الناصر فى الطابور مثل بقية زملائه. إنه طالب فعلاً فى كلية الحقوق، لكنه يحلم بدخول الحربية، فهو يعرف أن الجيش هو القوة الوحيدة التى تستطيع تغيير الأوضاع الفاسدة فى مصر، فلماذا لايجرب حظه؟

كانت اللجنة تتكون من ثمانية ضباط عظام. الرتب الذهبية تلمع على أكتافهم والنياشين تتلألأ فوق صدورهم. وقف الطالب جمال عبد الناصر أمامهم معتداً بنفسه. سأله رئيس اللجنة:

- إسمك إيه؟
- جمال عبد الناصر حسين
- أبوك بيشتغل إيه؟
- موظف بمصلحة البريد
- موظف كبير؟
- لا، موظف بسيط
- بلدكم إيه؟
- بنى مر، مركز أسيوط
- يعنى فلاحين؟
- أيوه
- فيه حد فى عيلتكم كان ضابط جيش؟
- لا
- أنت عاوز تبقى ضابط ليه؟
- عشان أبذل دمى فداء للوطن
- عندكم أملاك؟
- إحنا ناس كادحين.
- فيه حد اتكلم عشانك؟ واسطة يعني؟
- أنا واسطتى ربنا.
- أنت اشتركت فى مظاهرات؟
- أيوه
- طب اتفضل.

إنصرف جمال وهو موقن بأنه لن يُقبل. لكن المفاجأة أنهم قبلوه، وصار ضابطاً. وقد أخذ يوسف السباعى جملة "واسطتى ربنا" فى روايته رد قلبي، وجاءت فى الفيلم على لسان إحدى الشخصيات الثورية، وأغلب الظن أن يوسف السباعى كان يشير بهذه الشخصية لجمال عبد الناصر.

- إنكار الذات
الأحداث كثيرة لذلك لابد أن نقفز على الكثير منها لنصل لعام 1952. فى عام 1952 قام عبد الناصر ورفاقه بالثورة، ونجحت الثورة، وتنازل الملك عن العرش، وغادر مصر. كان عبد الناصر قد شكل هيئة تأسيسية لحركة الضباط الأحرار، وقام أعضاء اللجنة بانتخابه رئيساً للجنة مرتين، بالإجماع، قبل الثورة، وبعد نجاح الثورة استدعى عبد الناصر أعضاء الهيئة جميعاً لاجتماع عاجل. قال لهم بهدوء: دعوتكم اليوم لكى أقدم لكم استقالتى من رئاسة الهيئة.

نظروا لبعضهم مندهشين. يستقيل؟ كيف؟ إنه الرجل الذى قاد المجموعة باقتدار خلال التحضير للثورة، وقد نجحت الثورة فعلاً بحسن تدبيره، فما معنى الاستقالة الآن؟ ما سببها؟ وواصل جمال كلامه بهدوء: لقد انتهت أول مرحلة من كفاح الضباط الأحرار، وتوجت بالنصر ساعة أن طرد الملك، والآن بدأنا مرحلة جديدة، لذلك فلا بد أن تكون أمام الأعضاء فرصة لانتخاب رئيس جديد يواجه الأحداث القادمة.

تعالت الأصوات: لن نقبل الاستقالة. لابد أن تستمر. إنك المسؤول عما حققناه من نجاح. وقال أنور السادات: نحن نقدر إنكارك لذاتك فى سبيل الوطن، لكننا نقدر أيضاً حسن قيادتك لهيئتنا التأسيسية، ولن نرضى بك بديلاً. إلا أن الرجل الصعيدى رغم كل ماقيل صمم على موقفه، وانتهى النقاش بالخضوع لرأيه، وأجريت الانتخابات لاختيار رئيس جديد للهيئة، وكانت المفاجأة هى انتخابه بالإجماع للمرة الثالثة.

حدث هذا يوم 27 يوليو 1952، وفى يوم 17 أغسطس جمع عبد الناصر أعضاء الهيئة التأسيسية مرة أخرى، لسبب لايعلمونه. توالت الأسئلة: خيراً ياجمال؟ جمعتنا ليه؟ فيه حاجة مهمة حصلت؟ وتكلم جمال: جمعتكم لأبلغكم أنى قررت التنازل عن رئاسة الهيئة التأسيسية، لأن الوضع أصبح حرجاً للغاية بالنسبة لنجيب، فهو لايحضر اجتماعاتنا لأنه لم يكن ضمن أعضاء الهيئة، وهو يحمل رتبة لواء فلا يصح أن نضمه كعضو عادى، خصوصاً اننا نحن الذين قدمناه للشعب باعتباره قائد الثورة، وفرضناه قائداً عاماً للقوات المسلحة"، وللمرة الثانية أنكر جمال عبد الناصر نفسه، واختار أن يترك الرئاسة بإرادته لشخص آخر.

- درس لجناب السفير
نحن الآن عام 1954، واليوم هو افتتاح موسم الأوبرا، نظمت وزارة الإرشاد احتفالاً ببداية الموسم، قرر عبد الناصر حضور المناسبة، توجه إلى الدار قبل الموعد المحدد. أخذوه لقاعة كبار الزوار، فهو الآن نائب رئيس وزراء مصر. حين دخل القاعة وجد ثلاثة أشخاص: السفير الهندى، وزير السويد المفوض، والسفير التركي. كانت تركيا حتى سنة 1924 هى دولة الخلافة، وكانت مصر ولاية عثمانية تابعة لها، لكن مصطفى كمال أتاتورك ألغى الخلافة، وصارت مصر وتركيا تتعاملان على قدم المساواة، إلا أن السفير التركى لم يكن راضياً عن الثورة ولا عن رجالها، فسيادته زوج الأميرة أمينة، ابنة عمة الملك فاروق، ويعيش فى سرايتها وسط عشرات الآلاف من الأفدنة فى المرج، لذلك فحين رأى عبد الناصر انقلبت سحنته. صار مثل الديك الرومى المتأهب للهجوم. توجه عبد الناصر نحوه محيياً، فانطلق السفير التركى يصيح فى غضب غير مبرر: "إنكم لاتتصرفون تصرفات الجنتلمان، ولن نكون أصدقاء بعد اليوم" أكثر من هذا إنه وصف مصر بأنها بلد قذر. لم يعطه عبد الناصر فرصة للتمادى. أدار له ظهره واتجه للسفير الهندى والوزير المفوض للسويد، وراح يتحدث معهما وكأن السفير التركى غير موجود. فى اليوم التالى عقد اجتماعاً للوزارة، روى للوزراء ماحدث. واتخذت الحكومة قراراً حاسماً بطرد السفير التركى من مصر، على أن يغادر مصر خلال ساعتين. وصار ماحدث مع هذا السفير درساً لكل سفير تركى يأتى بعد ذلك إلى مصر بعد ذلك.

- إلا الحكيم
كان عبد الناصر يقدر الأدب والأدباء، لكن توفيق الحكيم بالذات كانت له مكانة خاصة عنده، فقد قرأ فى شبابه رواية عودة الروح وتأثر ببطلها محسن، الشاب الرومانسى الذى يحب مصر، وتمنى أن يكون مثله. وبعد أن صار مسئولاً رأى الثوار أن يطهروا الوزارات من السياسيين القدامي، والموظفين غير المنتجين، وكان الحكيم يعمل فى وزارة المعارف (التربية والتعليم)، ووزير المعارف آنئذ هو إسماعيل القباني، فكتب الوزير أسماء من يريد تطهير وزارته منهم، وكان أول اسم فى الكشوف هو اسم توفيق الحكيم. نظر عبد الناصر للقبانى وسأله: تقصد توفيق الحكيم الكاتب الكبير؟ قال الوزير: إنه هو. وفوجئ الوزير بعبد الناصر يمزق الكشوف كلها. ويقول له بغضب: ألا تعرف أن الحكيم عائد لتوه من ألمانيا بعد ترجمة إحدى مسرحياته للألمانية وتقديمها هناك؟ تريد أن تطرد هذا الكاتب؟ تريد أن يقولوا عنا إننا جهلاء؟.. ولم ينته الأمر عند هذا الحد، فقد أخرج الوزير من الوزارة، وبقى توفيق الحكيم.

- حملوا سيارته على الأكتاف
كانت مصر وسوريا دولة واحدة حتى الاحتلال التركى عام 1517، واستمر انفصال الدولتين ثلاثمائة وخمسين عاماً، حتى جاء عبد الناصر، وأعاد مع الرئيس السورى شكرى القوتلى الوحدة بين مصر وسوريا مرة أخرى فى فبراير 1958.بعد الوحدة بأيام ذهب عبد الناصر فى زيارة إلى سوريا الحبيبة. ما إن سمع أهل دمشق بقدوم الزعيم الأسطورى لمدينتهم حتى زحفوا من كل مكان للترحيب به. سارت السيارة بصعوبة بين الجماهير، لكن الجماهير لم يكفهم أن تحمل الأرض سيارة البطل، فحملوا السيارة على أكتافهم تعبيراً عن حبهم له. هل رأينا مثل هذا الحب بعد ذلك؟

- الوداع
كان عبد الناصر يحمل هم فلسطين على كتفيه وفى قلبه، لكن فى عام 1970 كان هناك صراع شديد بين الفلسطينيين والملك حسين، وتدخل عبد الناصر لحقن الدماء الفلسطينية، ودعا لمؤتمر للمصالحة فى القاهرة، ونجح فى عقد المصالحة بين الطرفين، وودع الملوك والرؤساء بنفسه، وكان آخرهم أمير الكويت، وعاد إلى بيته ليلفظ أنفاسه الأخيرة فى 28 يوليو 1970.

وانطلقت الجماهير بالملايين، فى جميع محافظات مصر تبكى الزعيم، وانطلق من الجماهير لحن حزين يقول:
الوداع ياجمال ياحبيب الملايين
ثورتك ثورة نضال حتعيش لآلاف السنين

رحم الله الزعيم العظيم.