مصر الجديدة :

الأرض ومن عليها

إبراهيم عبد المجيد
إبراهيم عبد المجيد

للأساطير اليونانية معان عابرة الزمان. صحيح أن الدولة الأثينية وغيرها من المدن اليونانية عرفت الديمقراطية فى اختيار نوابها وملوكها وسميت بديمقراطية المدينة، لكنها كانت مجتمعا عبوديا لا تتغير فيه المصائر بسهولة. المعنى العبودى للمجتمع جعل رايته أن كل شيء مقدر ومقسوم ولا يمكن تغييره أو الخروج عليه. وأدق تعبير عنه هو أسطورة اوديب الذى حكمت عليه الآلهة سلفا أن يقتل أباه ويتزوج أمه، فيحل الوباء على البلاد ويعرف خطيئته ويمشى هائما فى الصحراء بعد أن يفقأ عينيه. الأسطورة تقول إن كهنة معبد أبولو أخبروا أباه حاكم طيبة بما سيفعله به ابنه القادم، فما كان منه بعد ولادته إلا أن ألقى به مربّط القدمين فى الغابة ليموت، لكن وجده أحد الرعاة فأخذه ورباه، كبر أوديب وعرف أنه ليس ابنه فأخذ رحلته إلى طيبة التى وجده الراعى قريبا منها. فى الطريق قابل حاكم طيبة الذى لا يعرف أنه أبوه ولم يعجب الحاكم أن يعترض طريقه أحد فتشاجرا فقتله أوديب. وصل إلى طيبة فوجد على بابها وحشا يسأل الناس سؤالا أقرب إلى اللغز ومن يفشل فى الإجابة عنه يقتله. أجاب هو عن السؤال فتبخر الوحش وكافأه أهل طيبة بالزواج من زوجة ملك طيبة المقتول الذى هو أبوه. إلخ الأسطورة. لكن هناك أساطير أخرى تتجاوز المجتمع العبودى مثل اسطورة أنتايوس ابن الأرض. أمه إلهة الأرض «جايا» التى يستمد منها القوة ومن ثم كان يقف فى الطريق يقتل كل من يمر عليه ولا يستطيع أحد هزيمته. يقال إنه كان يعيش بين البرابرة فى غرب إفريقيا فيما صار فيما بعد أرض الأمازيج لكن ذلك ليس مهمًّا لى الآن. المهم هو كيف تم القضاء عليه. كان هرقل يعرف أنه يستمد قوته من أمه جايا ربة الأرض فما كان منه إلا أن هجم عليه ورفعه عن الأرض فتناثر ترابا. المعنى العابر للزمان أن الأرض مع أصحابها، وله تجليات كثيرة فى الحياة ابتداء من مباريات كرة القدم التى تكون فيها نسبة الفوز اكثر للفريق الذى يلعب على أرضه، إلى الحروب التى ينهزم فيها الغازى حين يغزو بلدا آخر. ما الذى يجعلنى أتذكر هذه الأسطورة الآن. أتذكرها حين أنظر حولى إلى كثير من القضايا المثارة على الميديا وتبدو من فرط الاحتجاج جادة، لكن مع قليل من التأمل تجد الكثير منها يعود إلى رغبات أصحابها الخفية أو الاندفاع دون تروٍّ، أو مجرد المشاركة. وتجد الاتهامات فى أكثرها بالعمالة للخارج لكل فريق. وإذا انتقلنا إلى الأرض التى يقف عليها الإنسان فى الأساطير الفرعونية نجدها قد وضعتها الأم تحت أقدام أبنائها يمشون عليها فى ثقة، فهى وقد وضعتها تحت أقدامهم تظللهم فى السماء ويتردد بينهما صوت إيزيس قائلة أنا هنا يا ابنى حور فلا تبتئس يا ابن قوية الروح فلن يحدث لك شيء مؤذٍ. وهذا يفسر لك كيف أن رحلة العودة إلى الوطن مهما قابلت من صعوبات تظل الرحلة الأعظم فليس أجمل فى الأساطير القديمة والحكايات كلها من العودة إلى الوطن. إلى الأرض التى منحتها الأم لأبنائها، فبعيدا عن الوطن يتضاعف الاغتراب مهما كانت المزايا، خاصة إذا كان هذا الاغتراب غصبا وليس بالإرادة. لا أعرف بالضبط لماذا شطح ذهنى لأتذكر اسطورة أنتايوس ابن جايا ربة الارض من جديد واسطورة إيزيس أنا الذى لم أسافر إلا وعدت رغم مغريات البقاء فى الخارج عبر السنين. هل هو ما يحدث حولى كما قلت؟ وهل هو من المندفعين على صفحات التواصل الاجتماعى؟ أم هو من كثير من القرارات التى تبدو غريبة على الناس وآمال ضاعت؟ أم هو حنين إلى الوطن رغم أنى أعيش بينه؟ ليس لدى إجابة. حتى وأنا أكتب هذا المقال رغم آلام الساقين لم أرفع قدميّ أمامى عن الأرض كما أمرنى الأطباء. لم أشأ الابتعاد عنها.