يوميات الأخبار

هذه العشوائية... وذلك القبح !!

محمد بركات
محمد بركات

على طول السنوات الماضية قمنا للأسف، بتحويل مساحات كبيرة من الأراضى الخضراء المزروعة، إلى ساحات مكدسة بالمبانى العشوائية المخالفة، والغابات الخرسانية القبيحة.

ينتابنى أحساس عميق بالأسى الممتزج بالألم على ما آل إليه الحال، فى أماكن كثيرة ومواقع عديدة، بطول وعرض خريطة الوطن الممتدة من البحر المتوسط شمالا إلى أسوان جنوبا،..، نظرا للاختفاء المتوالى والمستمر لمساحات اللون الأخضر، النابض بالحياة والنماء فى الزرع والشجر، وزحف اللون الرمادى والطوبى البارد الجامد، واحتلال الغابات الأسمنتية والحجرية القبيحة والمنفرة كل المساحات.
ويشتد الأسى ويتعاظم الألم عندما تضطرنى الظروف، ودائما يحدث ذلك، للانتقال والسفر من القاهرة حيث محل الاقامة والعمل، ومركز التشابك مع الحياة بناسها وتفاعلاتها، إلى محافظة من المحافظات، سواء تلك التى فى الدلتا أو الصعيد، لمتطلبات وواجبات مهنية أو اجتماعية.
وعادة ما يكون السفر عبر طريق مصر الاسكندرية الزراعى المتداخل فى عمق الدلتا بكل تشابكاتها وتفريعاتها، أو عبر طريق الوجه القبلى المؤدى إلى كل المدن والنجوع فى صعيدنا الجوانى، الحاضن لتاريخ مصر الثرى عبر آلاف السنين،..، وكلا الطريقين أصبح الآن مثالا حيا للعشوائية والقبح البالغ فى ظل الغلبة الكاسحة للمبانى المخالفة لكل القواعد والقوانين.
مخالفات بالجملة!
ومرجع الأسى المقترن بالرثاء والمغموس فى الألم، يعود  «وأرجو  المعذرة عن هذا الذى سأقوله، ولكنها الصراحة التى لابد منها ولا مهرب منها إلا إليها مهما كانت صادمة أوخشنة»، يعود إلى ذلك الكم الهائل والبغيض من القذارة والقبح والعشوائية، التى أصبحت سمة أساسية كريهة من سمات الطريقين، سواء فى ذلك الصاعد إلى الوجه القبلى أو المنحدر إلى الوجه البحرى.
وهذه السمة الأساسية الكريهة اصبحت للأسف دالة على طرقنا ومشيرة اليها ولصيقة بمعظمها إلا قلة قليلة تكاد ان تكون نادرة،..، بل هى كذلك بالفعل،..، وهذه السمة تقتحم العين بفجاجة وقحة بالغة صارخة فى وجوهنا جميعا، تكاد أن تنطق لتحدثنا بما ارتكبناه من أخطاء فادحة فى حق أنفسنا وحق الوطن طوال السنوات الماضية على وجه العموم، ومنذ نهاية الستينات من القرن الماضى على وجه الخصوص، وصولا الى سنوات الفوضى العامة وعدم الانضباط الشامل الذى ساد البلاد، خلال العواصف العاتية التى اجتاحتها مع احداث الربيع العربى وسنواته العجاب على وجه التحديد.
على طول هذه الفترة الزمنية، قمنا للأسف بتحويل أماكن كثيرة ومواقع عديدة، من أرض الوطن الخضراء والمزروعة بطول وعرض خريطته الممتدة شمالا وجنوبا، إلى ساحة مكتظة بالمبانى الحجرية المتلاصقة والمكدسة والغابات الخرسانية المتلاحمة، صورة قبيحة ومنفرة من العشوائيات،..، وزاد الطين بلة أننا أحطنا كل المدن والقرى والنجوع، بل والمحافظات الكبرى والصغرى على طول الطريقين، بكل المظاهر المنفرة والخالية من أى حس جمالى أو ذوق حضارى على الاطلاق.
ولكن ما حدث فى كل هذه الأماكن شيئ وما حدث على الطريقين شيئ آخر تماما، فقد أصبح كل منهما أكثر بشاعة من الآخر وأكثر فجاجة ايضا، بحيث تحول الطريقان الى عنوان واضح ومعلن للعشوائية المقيتة، وأصبحا للأسف محلا مختارا لمخالفات البناء والاعتداء الصارخ على الأرض الزراعية، بحيث يرى المسافر عليهما أو العابر لهما، كل ما يمكن تصوره، وأيضا ما لا يمكن تصوره أو توقعه من المخالفات والقبح العشوائى.
غابات اسمنتية!!
واصارحكم القول بأننى قد ترددت فى الكتابة عن هذه الصورة السيئة والموسفة والمسيئة لنا جميعا، ولكن المصارحة واجبة ومطلوبة وضرورية للدفع فى اتجاه الاصلاح والعلاج والقضاء على السلبيات.
ولذلك أصبحت الاشارة الواضحة لهذه الظاهرة التى طال وجودهافرض عين وواجبا على الجميع عسى أن يؤدى ذلك إلى التحرك المجتمعى الشامل لمقاومتها والقضاء عليها، خاصة انها أصبحت الآن فى ظل وجودها المستفز والظاهر ضمن أولويات الاهتمام من الحكومة، بعد أن باتت مؤرقة للكل، وأضحت من القضايا والظواهر المستحقة للتناول، بعد أن استفحلت فى ظل انتشارها المنفر والفج، والمتحدى لكل المشاعر الإنسانية والحضارية المتطلعة لبيئة نظيفة، وطرق وشوارع ومدن وقرى وأحياء خالية من العشوائية والتلوث والنفايات،..، وأصارحكم القول أيضا إن استمرار هذه الظاهرة يدفع للأسى على ما وصلنا إليه من الاضطرار للتعايش مع مثل هذه البيئة بالغة القبح والتلوث والعشوائية.
ولعلى لا أتجاوز الواقع إذا ما ذكرت أنى لا أحتاج إلى شرح كثير، للتدليل على مدى السوء الذى وصلت إليه هذه الظاهرة، فالأمر بين وواضح لكل من يحاول الخروج أو الدخول إلى القاهرة، التى هى عاصمة البلاد وكبرى مدنها على الاطلاق من مدخلها الشمالى المؤدى للطريق الرئيسي- مصر الإسكندرية الزراعى أو من مدخلها الجنوبى القاهرة الصعيد.
وإذا ما أردنا وصفا موضوعيا للوضع المزرى الذى نشاهده ونتعامل معه، ويشاهده ويتعامل معه الملايين من أبناء الوطن، المارين والمسافرين كل يوم وبطول ساعات النهار والليل، فيكفى الإشارة الى الكميات الهائلة من الغابات الأسمنتية والبنايات المخالفة القائمة على الأراضى التى كانت زراعية فى يوم من الأيام،..، هذا بالإضافة الى مخلفات المبانى والردم والهدم وغيرها، التى امتلأت بها الطرق والشوارع الرئيسية والفرعية، الواصلة بين القاهرة ومحافظات الدلتا والصعيد،..، بل وأيضا داخل الكثير من شوارع القاهرة ذاتها التى تحولت فى أغلبها إلى معرض كبير مكدس بمخالفات البناء العشوائى.
الخطر يتهددنا!!
وإذا كان ذلك كله يثير فى النفس الإحساس العميق بالأسى الممتزج بالألم، فإنه فى ذات الوقت يدفعنا للتأمل بمزيد من التدقيق، فى الخطر الهائل الذى يتهددنا جميعا، فى ظل استمرار الأخذ بالعشوائية أو السلوك العشوائى أسلوبا للحياة،..، لأنها بكل الصدق والامانة طريق  للهدم وليس للبناء، ووسيلة سريعة للتخلف وللقضاء على اى فرصة أو إمكانية أو أمل فى التقدم أو التحديث.
وكل الحقائق تؤكد ان العشوائية تعنى غيبة التنظيم، وغياب التفكير الإيجابى المؤدى للمنفعة المجتمعية العامة، التى تتطلب التخطيط المسبق والرؤية الصحيحة لحاجات المجتمع وكيفية تحقيقها.
وفى ظل الأداء العشوائى الناظر فقط الى المصالح الفردية الخاصة والمتجاهل تماما للمصلحة العامة، يغيب الأمل فى إمكانية  التغيير إلى الافضل أو النهوض بالمجتمع والتقدم للأمام.
وإذا غابت الرؤية الصحيحة للمصلحة العامة وغابت معها القدرة على التخطيط المنظم لتحقيقها بالنسبة للافراد والجماعات، وغلب على كل فرد النظر فقط الى مصالحه الذاتية والآنية، كانت العشوائىة فى الفكر والأداء والسلوك هى الغالبة، وهى الوسيلة والطريق الأسرع للتخلف والضياع والفشل.
ولأن ما يجرى للأفراد يمكن ان يسرى أيضا على المجتمعات والشعوب والدول،..، فإن ذلك المصير ونفس المآل المضطرب والمتخلف، هو ما يمكن ان تصل اليه الشعوب والدول، التى يغلب عليها هذا النمط من التفكير العشوائى أو يسود فيها الفعل الارتجالى.
وفى ظل ذلك تنشأ العشوائيات وتنتشر وتستشرى فى كل مكان، وعلى مستويات كثيرة ومتعددة، بحيث تصبح هى السمة الغالبة، والصبغة العامة والسائدة فى كل المناحى والسبل اللازمة للحياة، وهذا هو الخطر الجسيم المؤدى لتخلف المجتمعات وضياع الدول.
الطريق للفساد!!
وفى كل ذلك.. بل ومن قبله ومن بعده، لابد أن تنتبه إلى أن العشوائية ليست فقط نمطا سيئا للسلوك وطريقة خاطئة للأداء والعمل، ولكنها قصور فى القدرة على الرؤية الصحيحة للأشياء وطبائع الأمور، وعجز فى القدرة على التفكير الصائب والسليم، كما انها تبلد فى المشاعر وافتقاد للطموح وغياب للرغبة فى تغيير الواقع السيئ، وغيبة فى التطلع الى ما هو أفضل والطموح إلى ما هو أحسن.
كما يجب ان ننتبه كذلك الى ان العشوائية لاتنفصل فى قليل أو كثير عن الفساد، بل هى  لصيقة به ومؤدية اليه، ليس لكونها فى حقيقتها وجوهرها صورة من الصور الدالة على الفساد والمشيرة إليه،..، بل لأنها فى واقعها اكبر من ذلك وأكثر هولا.
وأقول لكم بكل صراحة ووضوح ان العشوائية فى يقينى هى الباب الواسع والكبير للفساد، وهى فى حقيقتها القائمة على ارض الواقع أمامنا جميعا، الطريق المؤدية بالضرورة إلى كل فساد.
ففى ظل العشوائية لاوجود للتخطيط المنظم والمدروس، القائم على الرؤية الصحيحة للواقع والمبنى على التصور الدقيق والواضح لما يلزم عمله أو القيام به، وصولا الى ما هو مستهدف تحقيقه.
وفى ظل العشوائية تصبح الكفاءة بدون جدوى والإبداع لامكان له ولا قيمة، والخبرة لا محل لها ولا حاجة لأحد بها، ويصبح الارتجال والقبح هو النمط السائد، وهما السمة الغالية على الحياة، حيث لا أمل فى أى تقدم عام، ولا تطلع الى ما هو أفضل للكل،..، ففى ظل العشوائية تنطفئ كل الأنوار وتضيع  كل الآمال وتنتفى كل الطموحات.