حكايات| سر النفي إلى طنطا.. عريضة مشبوهة تشكك في ذمة عمر مكرم

عمر مكرم
عمر مكرم

جلس عمر مكرم في منزله ينتظر سيناريو شبه مُتوقع. كان خلافه مع محمد علي قد احتدم، ورفض الشيخ الاستجابة لدعوات الباشا المُتكررة للقائه. شعر بالإحباط من كل شيء: الحاكم الذي تخلّى عن وعوده تدريجيا، وبضعة شيوخ خالفوا العهد وباعوه ليقبضوا الثمن.

في البداية كان الحاكم يضع قوة عمر مكرم في الحسبان. دس عليه كثيرين ليعرفوا نواياه، وعندما اطمأن لوجود منتفعين يدعمونه، أصدر قراره بنفي الشيخ إلى الإسكندرية أو دمياط، ورفض أن يكون المنفى مسقط رأسه في أسيوط. بعد أن خاف غالبا من التفاف أهالي مدينته حوله. 

قابل الشيخ عمر القرار بالارتياح، وأكد أن النفى يوافق هواه، ليتخلص من ورطته، فالناس يعتقدون أن كل قرارات السلطة تتم بالاتفاق معه. طلب الذهاب إلى مدينة لا سلطة لمحمد علي عليها مثل الطور أو درنة، لكن الأخير رفض، وأصدر قرارا حاسما بنفيه إلى دمياط.

شعرت عائلة الشيخ بالحزن، وظل أفرادها يتحلون بالأمل حتى اللحظة الأخيرة. أخبر السيد محمد المحروقي الباشا أن الشيخ عمر جعله وكيلا على أولاده ومتعلقاته، فأجاب محمد علي: "هو آمن من كل شيء، وأنا لم أزل أراعي خاطره ولا أفوته". ثم أرسل المحروقي فاستدعى حفيد الشيخ لمقابلة محمد علي. فرح أهل بيت عمر مكرم واعتقدوا أن الخلاف انتهى وأطلقوا الزغاريد، حتى عاد الفتى وأخبرهم أن الباشا كان يُطمئنهم فقط بأنهم آمنون، لكن قرار النفي لا يزال ساريا. وفي 12 أغسطس 1809 انطلق الشيخ إلى دمياط.

اتهامات مزعومة

انتهت القصة عند هذا الحد، لدى كثيرين عرفوا عناوينها الأساسية في المقررات الدراسية. لكن الشيوخ المشاركين في المؤامرة كتبوا تقريرا بأمر محمد علي، ذكروا فيه أسبابا مزعومة للنفي، ونسبوا له الكثير من الاتهامات، تتراوح بين التشكيك في ذمته المالية والتآمر على الباشا، وعندما عرضوا المذكرة على زملائهم رفض الكثيرون التوقيع عليها، وأكدوا أن هذا كلام لا أصل له، وحدثت مشادات بين الجانبين أدت إلى صياغة عريضة جديدة.. تحمل افتراءات أقل!

بعد نحو عشر سنوات دخل عمر مكرم القاهرة من جديد. كان قد بعث رسالة تهنئة للباشا في مناسبة ما. حملها حفيده إلى الإسكندرية خلال وجود محمد علي بها، استقبله الأخير ببشاشة وسأله عن جده، وهل له طلب ينفذه له، اكتفى الحفيد بعبارات المجاملة المعتادة وانصرف، لكن الحاكم أرسل له مندوبا في اليوم التالي، بعد أن شعر أن هناك طلبا خجل من مصارحته به، عاد المندوب وأخبر الباشا أن الشيخ يرغب في الحصول على إذن بالحج. وعلى الفور استجاب محمد علي، وأذن له بالانتقال إلى القاهرة كي يستعد للرحلة، وقال: "أنا لا أتركه في الغربة هذه المدة إلا خوفا من الفتنة، والآن لم يبق شيء من ذلك، فإنه أبي، وبيني وبينه ما لا أنساه من المحبة والمعروف". وأرسل له مع الحفيد خطابا بالموافقة ذكر الجبرتي نصه كاملا.

المنفى الثاني

وصل الشيخ للقاهرة في التاسع من يناير 1819، وعندما علم الأهالي بقدومه ازدحموا على بيته لعدة أيام، ثم امتنع عن الجلوس معهم نهارا واعتكف بحجرته، ولم يعد يقابل إلا القليلين. وبعد الحج عاد إلى القاهرة وبقى في بيته.

وتذكر بعض المصادر أنه تعرض للنفي مرة ثانية إلى طنطا في 5 أبريل 1822، بعد انتفاضة شعبية شهدتها العاصمة ضد الضرائب الباهظة، ومات هناك في العام نفسه. ولم يذكر الجبرتي هذه الواقعة، لأن تاريخه توقف عند شهر أغسطس 1821.