يوميات الأخبار

ذكريات داعبت أفق خيالى

طاهر قابيل
طاهر قابيل

«لفت نظره أن «إخوان الشر» أعضاء الجماعة الإرهابية يعيشون حياة الرفاهية بالخارج ويستخدمون كل الوسائل لتلويث كل شئ جميل والتشكيك فى أى إنجاز بالأكاذيب واللعب بعقول الشباب».

 عندما اقتربت الطائرة من المطار شاهدت أسفل منى سجادة من اللون الأخضر.. اختفت الأرض التى تغطيها أشجار«الموز» وأحاطت بالطائرة جبال بيضاء من السحب «الحبلى» بمياه الأمطار التى اختفت هى الأخرى تدريجيا ونحن نهبط على الممر الملاصق لمياه المحيط الهندى وخليج عدن.

الانقسام والانهيار
 مشهد الطبيعة الخلابة الذى شاهدته من نافذة الطائرة ذهب أدراج الرياح مع رؤيتى للحطام المتناثر بأرض مطار«مقديشيو»وأنا بطريقى إلى مكان إقامتى فى مهمتى الصحفية الأولى خارج البلاد لتغطية نشاط أبطالنا البواسل المشاركين مع قوات من دول اخرى بقيادة الأمم المتحدة فى فرض وحفظ السلام بالصومال «الحزين» بعدما أحرقت الانقسامات والصراعات كيان الدولة للإطاحة بنظام حكم «سياد برى».
 لست هنا فى مكانة للحكم على ديكتاتورية «برى» أو عدله ولكن المهم لدى أنه مع انهيار الدولة بدأت الفصائل المسلحة تتنافس على النفوذ فى ظل الفوضى التى خلقها الصراع وانهيارالقانون العرفى الذى يحكم البلاد..

وكانت الضحية المواطنين المدنيين البسطاء الذين «لا ناقة لهم ولا جمل» فى صراع على السلطة مما دفع الأمم المتحدة للتدخل لإنقاذهم بوصول مراقبين عسكريين فى يوليو عام 1992 ثم قوات لفرض وحفظ السلام وكان لمصر لدورها الأفريقى والعربى والإسلامى دور مع القوات المشاركة فى الصومال والتى غادرت بعد سنوات لاستمرار الاقتتال بين الفصائل..وبعد ما يقرب من 10 سنوات يتم تأسيس حكومة «وطنية انتقالية».. ويتصاعد الصراع مرة أخرى ولكن بصورة أقل كثافة عما حدث فى بداية التسعينيات..

ويتوصل الأشقاء الصوماليون مع السنوات إلى انشاء «الحكومة الاتحادية» وتصف الجهات الدولية الصومال بأنها «دولة هشة» تحقق بعض التقدم نحو الاستقرار.

 قضيت أياما داخل العاصمة «مقديشيو» مع نهاية عام 1993..وبعد ترحيب حار من رسولنا للسلام بالقرن الأفريقى وسط تجمعات من قوات الدول المشاركة المنتشرة على أرض المطار كانت اللقاءات الصحفية والاستماع إلى ملخص للأزمة التى يعيشها الصوماليون ومهمة قواتنا ودورها فى فرض وحماية السلام قدمه لى أبطالنا البواسل مع شرح للعلاقات الوثيقة والمتميزة بيننا وبين الشعب الصومالى والتى أكدها لى أهالى العاصمة الصومالية أثناء توزيع قواتنا المساعدات الإنسانية والغذائية المصرية عليهم..ورصدتها خلال مقابلتى مع الأشقاء الصوماليين وتبادل الحديث معهم.

الغرفة التى خصصوها لإقامتى وزملائى بالمطار كانت عبارة عن حجرة سقفها مرتفع جدا تتعلق به بعض السحالى الخضراء المسالمة كبيرة الحجم وعرفت أن وجودها أمر طبيعى وشئ عادى ولا خوف منها خاصة أن الجو فى الخارج شديد الحرارة وكثيف المطر فى نفس الوقت حتى أنى كنت أتنقل بسيارة مكيفة والأمطار تتساقط على زجاجها وخارجها.. اغمضت عينى لأخذ قسطا من الراحة قبل تناول وجبة الطعام المصرية وعقد اللقاءات الصحفية.. والتقى مع قائد قوات «اليونوصوم» بالصومال والذى أشاد بحرفية وجسارة المقاتلين المصريين ونجاحهم فى تكوين علاقات طيبة مع المدنيين الصوماليين ويشرح لى قائد القوات الدولية على الخرائط دورهم لإنقاذ الشعب من المجاعة.. ويخبرنى أحد الصوماليين البسطاء عن ترحيبهم بالمصريين ورفضهم لوجود القوات الأجنبية وأنهم يحملون لهم حبا كبيرا ولا ينسى الشعب دور مصر والأزهر فى الماضى والحاضر.
 تعرفت فى بقية الأيام التى قضيتها بمقديشيو على البلد وشاهدت الأسواق والدكاكين الخالية من أى بضائع.. ولمست مدى الفقر والحاجة التى أصابت الصوماليين نتيجة صراع الفصائل والجماعات.. وأصعد إلى سقف المبنى الذى نعيش فيه لرؤية المنطقة التى تحيط بنا ومشاهدة الغروب ويطلب منا جنود الحراسة ألا نرفع رءوسنا عن الحائط الذى نستند عليه لوجود قناصة يستهدفون أى شخص.. وأزور بعض المدارس التى أقامها «الأزهر» هناك.. والتقى مع تجمعات للبسطاء يعيشون فى عشش من الصفيح وينتظرون يوميا توزيع الوجبات الانسانية عليهم لعدم وجود فرص عمل لهم.. سمعت خلال زيارتى التى لم تتعد 3 أيام حكايات ومآسى تدمى لها القلوب قبل العيون ومحاولات للتخفيف من حالة الضياع والحزن والظلام الذى يعيشه الأشقاء الصوماليين.

مدينة السلام
رغم مرور ما يقرب من 30 عاما وزيارتى للعديد من البلاد فى أفريقيا وآسيا وأوروبا فمازلت أتذكر تلك المهمة لانها كانت «الاولى» لى للخارج بحياتى الصحفية بدار«أخباراليوم». فالذكريات مازالت حتى الآن تعبر أفقَ خيالى وتعيش معى واعيش فيها.

 لقد كان لقاؤنا محض صدفة فقد اختارنى الكاتب الصحفى محمد بركات رئيس تحرير «الأخبار» فى ذلك الوقت للحضور بدلا منه تلبية لدعوة من محافظ جنوب سيناء للمشاركة فى  احتفالها بالعيد القومى..وضم الوفد المسافر إلى شرم الشيخ عددا من رؤساء التحرير وكبار الكتاب والإعلاميين..وفى الأوتوبيس الذى نقلنا من المطار إلى الفندق تجاذبت مع الأستاذ «عبده مباشر» أطراف الحديث وخاصة بعد أن عرف علاقتى بالشئون العسكرية وحصولى على زمالة كلية الدفاع الوطنى واستكملنا حوارتنا الوطنية فى الأيام التالية.. وفى نهاية رحلة العمل فى مدينة السلام أصبحنا اصدقاء وأرسل لى مجموعة من مؤلفاته عن بطولات وأبطال العسكرية المصرية كان آخرها «سنوات فى قلب الصراع» عن مذكرات الفريق أول محمد أحمد صادق وزير الحربية الأسبق - رحمة الله عليه - والتى صدرت بعد وفاته فى نوفمبر 2018 طبقا لوصيته.

منذ أن تخرج الشاب محمد أحمد صادق ابن محافطة الشرقية بمصنع الرجال فى إبريل 1939 شاءت الأقدار أن يكون فى قلب أحداث مهمة فى حياة المصريين فقد كان مشاركا فى ثورة يوليو..وشاهدا على ما يجرى عندما تحمل مسئولية رئاسة الأركان لقواتنا المحتشدة بسيناء خلال العدوان الثلاثى عام  1956 لينتقل بعد ذلك ليعمل ملحقا حربيا فى ألمانيا الغربية ويعود ليتولى منصب كبير المعلمين بالكلية الحربية ثم مديرا للمخابرات الحربية لتدور بعد اشهر قليلة رحى معركة يونيو 1967 والتى واجهت فيها مصر نكسة غير مسبوقة لتناضل وتقاتل وتنتصر وتحرر الأرض بعد 6 سنوات فقط.

كانت أول الخبرات القتالية التى اكتسبها الفريق صادق خلال المعارك التى شاركت فيها مصر بالصحراء الغربية عندما كانت شمال أفريقيا مسرحا للصراع العسكرى بين قوات «المحور والحلفاء» والتى فرضها الاحتلال البريطانى علينا بأن نكون شريكا بالحرب العالمية الثانية والتى بقيت آثارها التاريخية بمنطقة «العلمين»بالساحل الشمالى.. كما كان قائدا لوحدة مشاة أثناء حرب 1948 والتى تحمل فيها الجيش المصرى العبء الأكبر.
خلال الفترة التى قضاها «صادق» ملحقا عسكريا فى ألمانيا لفت نظره أن « إخوان الشر أعضاء الجماعة الإرهابية « يعيشون- كما هما الآن- حياة الرفاهية بالخارج ويستخدمون كل الوسائل لتلويث كل شئ جميل والتشكيك فى أى إنجاز بالأكاذيب واللعب بعقول الشباب المتحمس..فقد أشارت التقارير بذلك الوقت إلى اتهام الطلبة المصريين بألمانيا بالانتماء لجماعة «الإخوان المسلمين» أو على الأقل العمل على نصرتهم..وتبين أن هذا نتيجة لنشاط لشخص إخوانى اسمه» سعيد رمضان «ومعاونيه الذين استغلوا بعض القوانين الألمانية وعدم وضوح الصورة الحقيقية لدى الطلاب لنشر أكاذيبهم عن مصر.. ولاحظ الشاب الوطنى «صادق»أن الزعيم الإخوانى يعيش فى جناح بفندق شهير ويصرف هو وعصابته ببذخ.. وحكت زوجة أحد أعوان الإخوانى الإرهابى زعيم التنظيم عن الكثير مما تعرفه عن الجماعة الإرهابية والعلاقات النسائية لزوجها وسعيد رمضان وعقدت مؤتمرا صحفيا حكت فيه أمام وسائل الإعلام كيف طردها زوجها فى الثانية صباحا لاعتراضها على وجود امرأة أخرى معه بمنزل الزوجية؟!..وقالت إن أعضاء»جماعة الشر» الإخوانية يعيشون حياة الرفاهية والبذخ ولا يعرف أحد من أين يأتون بكل هذه الأموال وكيف ؟.. وادرك المجتمع الالمانى بعد المؤتمر الصحفى الصورة الحقيقية للزعامات الإرهابية التى يتناقض واقعهم تماما مع مايدعون إليه.. كما كانت لبرقية الرئيس عبد الناصر إلى الطلبة المصريين بالمانيا سببا لدحر الاكاذيب الاخوانية وتوضيح الحقائق وخروجهم فى مظاهرات تأييدا لمصر وناصر بدلا من مهاجمتهما بعد أن زالت عن عيونهم غشاوة الجماعة الإرهابية الفاسدة بالخارج والتى لا يعرف أعضاؤها شيئا عن الوطنية وحب الوطن.

أبناء سيناء
 عندما تولى «صادق» إدارة المخابرات الحربية شرع فى تكوين خلايا من أبناء سيناء الأوفياء للحصول على المعلومات وتأكيدها.. ولم يمهله القدر سوى أشهر قليلة فانفجر الموقف فى 5 يونيو 67 بعد أن تم إبلاغ «عبد الناصر» بوجود حشود عسكرية إسرائيلية على الحدود السورية..ورغم تأكيد عدم صحة هذه المعلومات اندلعت الحرب.. ويقول الفريق «صادق» فى مذكراته التى كتبها «عبده مباشر»: «عندما حانت الفرصة سألت الرئيس عبد الناصر لماذا أمر بحشد القوات بسيناء بالرغم من أن الفريق محمد فوزى عاد من سوريا ونفى وجود الحشود وكذلك ما قدمته إلى سيادتك.. فقال له ناصر هل أصدق معلوماتك يا محمد ولا أصدق المخابرات الروسية؟!».. فعندما عقد عبد الناصر اجتماعا بالقادة قبل الحرب بثلاثة أيام توقع أن يكون الهجوم يوم 5 يونيو وطلب تقوية دفاعاتنا فى رفح لمواجهة تجمع ضخم للقوات الإسرائيلية عند مثلث «رفح - العريش -أبو عجيله» وطلب انتظار الضربة الأولى والرد عليها قائلا» إنه لا يريد أن يخاطر بالاصطدام مع امريكا».. وعن الانسحاب تضيف مذكرات الفريق صادق أنه عند سماعه الخبر اتصل بالمشير عبد الحكيم عامر مستفسرا عن الحقيقة فأبلغه «عامر» بأنه أصدر ذلك الأمر.. فأخبره بأن الانسحاب له خطورة على الرجال والجيش وأنه بهذا ستواجه قوات الجبهة كارثة حتمية ومروعة.. وذكر «صادق» أنه عندما كان رئيسا لأركان القوات بسيناء أثناء العدوان الثلاثى وكان الفريق أنور القاضى قائدا للقوات وكانت 7 وحدات صغرى منتشرة بسيناء وصدرت الأوامر بالانسحاب لغرب قناة السويس تم تنفيذ الإجراءات كما تعلموها  بالكلية الحربية وخدعوا العدو حتى وصلت القوات كلها سليمة بأسلحتها ومعداتها وكان هو والقائد مع مجموعة من الضباط آخر من يعبر القناة.. فرد المشير «عامر»بأنه أمر بعض الوحدات والتشكيلات بالهجوم المضاد.

وانتهت جولة من جولات الصراع بنكسة ليبدأ الشعب المصرى وقواته المسلحة فورا الإعداد للجولة الرئيسية والنهائية التى تحقيق فيها الانتصار وإزالة آثار النكسة والاحتلال واسترداد الأرض المغتصبة التى تم ويتم تطهير جزء صغير منها من الإرهاب وانطلاق مشروعات التنمية بها.

 

 
 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي