يوميات الأخبار

قل لابنك : «لا» عند اللزوم !!

د. مصطفى رجب
د. مصطفى رجب

د. مصطفى رجب

فالإنسان الحكيم يمكنه -فى أى وقت- أن يجعل حياته أكثر سعادةً، وأن يجعل صحته النفسية فى تمام قوتها وتألقها.

 من أخطائنا الشائعة فى تربية أبنائنا: تلبية كل رغباتهم مهما تكون طاقة الأسرة وإمكاناتها، وأمثال هؤلاء الصغار الذين يُنَشَّأون على الاستجابة الفورية لكل ما يحلمون بامتلاكه، أن يصيروا - إذا تقدمت بهم الأعمار- رجالاً ضعافًا أمام الماديات، يتهافتون على الثراء السريع، ويجعلونه أهم هدف يعيشون به وله. وفى مقابل ذلك تَضمُر فى نفوسهم نوازع التميز الأخرى، فلا يعنيهم التقدم العلمي، ولا تجتذبهم أضواء النبوغ الفني، ولا تفتنهم العبقرية. وعلى نقيض هذه النماذج البشرية الغارقة فى الملذات والتهالك على الأموال والثروات نجد نماذج أخرى من البشر تمتلك نواحى التميز وأزمَّة النجاح.
وهذه النماذج الأخيرة نشأت (فى الأغلب الأعم) فى أسر فقيرة أو متوسطة، لكن هذه الأسر امتلكت أهم مفتاح من مفاتيح النجاح فى الحياة، وأعنى به مفتاح «القدرة على الموازنة بين الرغبة والقدرة».
وهذا المفتاح يمكن تركيزه فى ثلاث كلمات هي: «إمكاناتى لا تتحمل ذلك» أو «ظروفى لا تسمح بهذا». فمثلاً إذا أراد الطفل شراء لُعَب غالية كالتى يراها مع أقرانه، أو ارتداء ملابس فاخرة وما شابه ذلك، تقليدًا لأصدقائه، فهذه رغباته ورغبات أسرته أيضًا، مسايرةً له، لكن «قدرات» الأسرة أو «إمكاناتها» المادية قد لا تسمح بتحقيق هذه الرغبات، وهنا يكون الأب حائرا بين خيارين: إما إعادة ترتيب أولوياته بحيث يقدِّم رغبة الطفل على احتياجات أخرى للبيت قد تكون أشد إلحاحًا أو أكثر أهمية، وهو لو فعل ذلك يكون قد غشَّ ابنه، ونشَّأه فى ظروف مصطنعة من ثراءٍ متوهَّم، وإما أن يكون واعيًا بترتيب أولويات بيته، فيجلس مع ابنه جلسة الصديق القريب الناصح ويحاوره حول تفاوت القدرات المالية بين الأسر، ويكشف له عن حقيقة احتياجات البيت، ويتوصل معه - بالحوار الهادئ المغلَّف بروح الود والمرح وتبادل الآراء - إلى أهمية تقديم كذا وكذا على كذا وكذا من المطالب.
وبهذا السلوك يصيب الأب هدفين معًا : فهو يستجيب لإمكاناته الحقيقية ويلبى أولوياته تلبية طبيعية. وفى الوقت نفسه يعوِّد طفله تدارس الأمور بعقلانية وتدبر ويغرس فيه محبة التفكير، والتماس الحِكْمة فى تدبير شئون حياته كافة.
فإذا خرجنا من نطاق الأسرة وتنشئتها أطفالها على هذا النحو، ومددنا خط تفكيرنا على استقامته لنرى سلوكياتنا نحن الكبار، فسنرى عَجَبًا من أثر غياب تلك الكلمات الثلاث عن حياتنا.
إن الكلمات الثلاث (إمكاناتى لا تسمح بذلك) إذا أردنا اختصارها أكثر فإنها تؤول إلى : (لا) و( لا ) هذه : حرف واحد فقط من حروف الأبجدية العربية، أو إن شئت فقل : حرفان (اللام والألف) والمعنى النهائى للحرف (لا) هو: الرفض، أى : رفض الانصياع للرغبات - مهما تكن جاذبيتها وسحرها-. والخضوع للقدرات -مهما تكن ضحالتها أو تواضعها.
وواضحٌ أن اعتراف الإنسان بحقيقة قدراته فيه قدرٌ كبيرٌ من المجازفة لأنه يضع الإنسان فى حرج اجتماعى أمام معارفه وأهله وأصدقائه وزملائه، ولكنه فى الوقت نفسه علامة مضيئة من علامات الصحة النفسية وقوة الشخصية، فالاعتراف بالضعف فى ظاهره يُشعرنا بالخجل ولكنه يحقق لنا فى النهاية السلام النفسي، ويقينا شر كثير من الاضطرابات النفسية التى قد تتطور مع التكرار إلى أنواع من التوتر والعُقد النفسية، ويحتاج المرء فى تفاديها إلى الوقوع فى براثن الكذب والمجاملة والنفاق والتظاهر والخداع وقد تنتهى باحتراف النصب أو السرقة أو الاختلاس... إلخ.
وانظر حولك إن شئت فسترى فريقًا من الناس يشهدون اجتماعات مختلفة فيُنكرون فيها أكثر مما يتقبلون، ويستهجنون منها أضعاف ما يستحسنون، ولكنهم (استجابةً لما تعودوه من غش فى حياتهم) لا يصرحون بما أنكروه، ولا يُعربون عما استهجنوه. فتراهم يوافقون وهم كارهون، ويصمتون وهم مقهورون داخليًا.
وترى فريقًا من الناس يسيرون فى حياتهم اليومية بما فيها من أفراح وأحزان ومناسبات مختلفة وفق ما يرونه سائدًا وإن كان ضد ما يؤمنون به من قيم ومبادئ، وعذرهم فى ذلك «أن الآخرين يفعلون هذا!!». ومثل هذه الحياة الرتيبة التى تخضع لما يفعله «الآخرون» بلا أية مقاومة. حياة مغشوشة لا أثر فيها للسعادة وإن تظاهر بها المتظاهرون!!.
فالإنسان الحكيم يمكنه -فى أى وقت- أن يجعل حياته أكثر سعادةً، وأن يجعل صحته النفسية فى تمام قوتها وتألقها، وأن يجعل أبناءه أكثر نجاحًا فى حيواتهم المستقبلية... ولا يحتاج فى سبيل ذلك كله إلا إلى الكلمات الثلاث «إمكاناتى لا تسمح بذلك» يواجه بها أى رغبة تتصادم مع قدرته، أو أى اقتراح يجعله يتفلت من ترتيب أولوياته وفق قدراته.
شخصية تتحدى النسيان
لم تكن شخصية د. محجوب ثابت بهذه الصورة الفكاهية البشعة التى نراها الآن فى شعر أحمد شوقى وحافظ إبراهيم، تلك الصورة التى قسا الشاعران عليه فيها قسوة ظاهرة فقد كان محجوب ثابت رحمه الله طبيبا لامعا ولد بالسودان سنة 1884 وتوفى فى بلده مصر سنة 1945 وكان زعيما لحزب يدافع عن حقوق العمال وأحد خطباء ثورة 1919 الكبار ودفع ضريبة وطنيته نفيا ومحاكمة ثم أصبح عضوا برلمانيا فى مجلس النواب وعين أستاذا للطب الشرعى بالجامعة.
وكان محجوب ثابت له لوازم مظهرية تشد الانتباه ركز عليها الشاعران من أهمها أنه كان ذا لحية كثيفة، وكان يدخن الغليون «البايب» وكان يرتاد بعض أحياء القاهرة على حصان له أسماه أصدقاؤه «ماكسوينى» وهو اسم بطل إيرلندى انتحر جوعا. وكان اختيار هذا الاسم للحصان غمزا ساخراً فى تجويع صاحبه إياه، وكان من لوازمه أيضا كثرة تردد حرف «القاف» فى أحاديثه وخطبه، مما جعل حافظا يقول عنه:
يرغى ويزبد بالقافات تحسبها
قصف المدافع فى أفق البساتين
من كل «قاف» كأن الله صورها
من مارج النار تصوير الشياطين!!
وكان بين سليمان فوزى صاحب مجلة الكشكول وبين محجوب ثابت منازعات مستمرة فكان سليمان فوزى يهاجمه فى المجلة فإذا التقيا فى مقهى «صولت» مع شوقى بك ووهيب دوس سعى الأخيران إلى الصلح بينهما فيثور محجوب ثابت قائلا: « بقى يشتمنى فى زفة ويصالحنى فى عطفة؟!».
فقال شوقى على لسانه قصيدة طويلة حرص على أن تكون قافيتها «قافا» حتى لو أدى ذلك إلى تحريف كلمة كما حرص على أن تكثر القافات فى ثناياها ومنها:
يمينا بالطلاق وبالعناق
 وبالدنيا المعلقمة المذاق
وكل فقارة فى ظهر «مكسي»
 بصحراء الإمام وعظم ساق
[فقارة: مفرد فقرات ومكسى اختصار مكسوينى «حصانه» وصحراء الإمام: منطقة حى الإمام الشافعى بها مدافن].
وبالخطب الطوال وما حوته
وإن لم يبق فى الأذهان باق
وكسرى الشعر إن أنشدت شعرا
ونطقى القاف واسعة النطاق
أيشتمنى سليمان بن فوزى
 «وبيبى» فى يدى ومعى «طباقي»
وتحت يدى من العمال جمع
يشمر ذيله عند التلاقي
تقاقى ذقنه من غير بيض
ولى ذقن تبيض ولا تقاقي
[تقاقي: أصلها فى العامية: تكاكى والمكاكاة هى صوت الدجاج، وقد جعل شوقى الكاف قافا من باب السخرية].
وتحلاق اللحى ما كان رأيي
ولا قص الشوارب من خلاقي
أنا الطيار: رجل فى دمشق
 إذا اشتدت ورجل فى العراق.
وليس من الغريب سواد حظى
 وبالسودان قد طال التصاقي
بقارعة الطريق ينال منى
ويوسعنى عناقا فى الزقاق
أمور يضحك السعداء منها
ويبكى البلشفى والاشتراقي
>>>
[الاشتراقى : الاشتراكى]
وقد تنكرت الدنيا للحصان «ماكسوينى» فباعه صاحبه واشترى بدلا منه سيارة «أوفرلاند» وسارع شوقى يهنئ محجوبا بسيارته ولا ينسى فى ثنايا القصيدة أن يتحسر على أيام الحصان الأصيل الذى غدر به صاحبه:
لكم فى الخط سيارة            حديث الجار والجارة
أوفرلاند ينبيك                   بها القنصل «طمارة»
وطمارة هذا ليس قنصلا ولكنه كان إماما بالمفوضية المصرية فى واشنطن وكانت العادة آنذاك أن يلحق بكل سفارة أو قنصلية إمام للصلاة. وظيفته أن يؤم أعضاء السفارة ومرتاديها لأداء الصلوات :
إذا حركها مالت              على الجنبين منهارة
وقد تحرن أحيانا             وتمشى وحدها تارة
ترى الشارع فى ذعر         إذا لاحت من الحارة
ثم يخاطب شوقى الحصان متسائلا:
 أدنيا الخيل يا مكسى       كدنيا الناس... غدارة؟
أحق أن محجوبا              سلا عنك بفخارة ؟
وباع الأبلق الحر              بأوفرلاند نعارة ؟
ولم يعرف له الفضل         ولا قدّر آثاره ؟
كأنْ لم تحمل الراية          يوم الروع والشارة !!
وهناك قصيدة شوقى فى براغيث ذقن الدكتور محجوب ثابت وقد قيل إنها سبب جفوة حقيقية بينهما على الرغم من قوة صداقتهما.

 

 

 
 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي