يوميات الأخبار

جمال عبد الناصر يسأل الكابتن لطيف: «فين الكورة»؟!

سمير الجمل
سمير الجمل

سمير الجمل

وهلل الكابتن لطيف وصرخ بأعلى صوته جول جول جول.. حتى راح صوته.. وخرج الى المستشفى بعد المباراة ونصحه الطبيب بعدم الكلام..

وقت دراسته فى جلاسجو بانجلترا للحصول على أول بكالوريوس تربية رياضية فى العالم العربى عام ١٩٣٤.. وقتها كان يذهب الى المباريات يشاهدها.. حتى يلعب مع فريق «رينجرز» وهو يتابع الفرق المنافسة.. فى وقت لم يظهر فيه التليفزيون وكل ما كان متاحاً فى هذا الوقت اذاعة التعليق على الماتشات من الراديو.. لو أنت قاعد فى مدرج الدرجة الثالثة يبقى على يمينك الفريق الفلانى بالوانه الحمراء.. وعلى الشمال الفريق العلانى بالوانه البيضاء ويتم تقسيم الملعب الى مربعات.. وشطارة المعلق ان يصف ما يحدث حتى تراه بالاذن قبل العين احياناً.. وهذا ما جرى مع «ريكس» وحد فيكم هيسألنى: يطلع مين ريكس؟!.. وعلى طريقة الكابتن لطيف وبلسانه أقول: هو إذاعى يأتى الى الملعب ومعه مجموعة من المكفوفين يجلس بينهم ويحكى ما يدور على البساط الاخضر واحدة بواحدة.. ومن دقة الوصف وخفة ظله.. يهلل المكفوف فى نفس توقيت تهليل الجمهور كأنه يرى بعين ريكس. والتقطها لطيف.. وأصرها فى نفسه حتى اذا عاد الى مصر.. وباعتباره اول رياضى دارس.. وهو نجم زملكاوى ودولى يلعب فى مركز الجناح..وابن حى القلعة وهم أول من عرف كرة القدم من عساكر الانجليز يلعبونها فى معسكراتهم..ولان المصرى فهلوى وشاطر واراد ان يتخذ من اللعبة وسيلة يضحك بها على المستعمر.. انتشرت اللعبة بسرعة رهيبة حتى يكون أول فريق بقيادة حسين حجازى وهزمهم فى ملعب المختلط مكان دار القضاء العالى.. وكان فضيحة الانجليز بجلاجل فى وسط البلد.
عاد لطيف من بلاد بره والإذاعة المصرية تنطلق واستمر فى العطاء لاعباً وشارك فى كأس العالم ١٩٣٤.. حتى إذا حانت لحظة الاعتزال فى نهاية الاربعينات كان هو الحكم الدولى والإدارى الناجح.. ومقدم تمارين الصباح فى الإذاعة حيث سبقه الى التعليق محمود بدر الدين.. لكن خبرات لطيف مع الميكروفون  كانت بمذاق ريكس.. يكلمك عن الجو.. ويردد دائماً عباراته التاريخية الكورة اجوان.. وفى ذلك قصة بطلها الموسيقار الكبير سيد مكاوى فقد كان يتابع احدى المباريات يذيعها لطيف.. والجو هناك بارد وهو عندنا «لطيف» طوال السنة بفضل حلاوة شمسنا ولم يتركها ابو الكباتن تعدى فى وصف البرودة.. والأمطار فما كان من مكاوى الا أن ارتدى البالطو..وقد تأثر بحضرة المعلق الهمام وعندما التقى به عند مدخل مبنى الاذاعة عاتبه ضاحكا.
وجاء التليفزيون
> وعندما انطلق التليفزيون المصرى عام ١٩٦٠.. وبدأ لطيف يعلق على المباريات حولها الى حدوته ينتظرها الكبير والصغير.. فإذا لم تدخل الكرة الى المرمى مفيش مانع يصرخ فيها:
- يا شيخة خشى!.. وربما تسمع كلامه وتدخل بعدين. وانتشرت اللعبة بفضله الى جانب كتابات كبار النقاد.. نجيب المستكاوى بثقافته الواسعة.. وعبد المجيد نعمان بجديته.. وحمدى النحاس بمانشيتاته وناصف سليم بلغته الرزينة وجرأته.. وقبلهم جميعاً شيخ النقد الرياضى «جهينة» «إبراهيم علام».
وقد اسعدنى زمانى بكتابة سير «لطيف» فى ١٧ حلقة.. ومن حقى انا الغلبان ان اعلنها انها كانت الاولى فى تاريخ الصحافة ان تنشر مذكرات رياضى مصرى بحجم لطف محبوب الملايين وصديق الملوك..والرؤساء.. وكنت قد سبقتها بمذكرات ساحر الكرة المصرية «عبدالكريم صقر» أول لاعب يستعرض بالكرة فى بين الشوطين بمهاراته غير العادية.
كان لطيف وقد اقترب من السبعين وقتها يركن سيارته فى ميدان عبد المنعم رياض وينطلق مشياً على الاقدام الى مبنى الجمهورية حيث نلتقى وعرفت تاريخ الرياضة والبلد كلها من خلاله..واسأله: تشرب ايه يا ابو الكباتن: فلا يطلب الا الينسون.. لا شاى ولا قهوة ولا سيجارة.. وذات مرة همس الى: إذا دعيت الى حفل فيه بوفيه مفتوح.. ما تبقاش غشيم وتضيع وقتك فى السلطات والمكرونة والارز.. خش على الاسماك والفسفور واللحوم.. وخدها قاعدة.. التسخين يفيدك قبل ماتش الكورة.. لكن يضرك قبل ماتش الاكل..!
وكابتن مصر كل ليلة وكل يوم فى حفل ومناسبة.. ولما انتهت المذكرات وفكر أن يصدرها فى كتاب يحمل اسمه.. طلبنى وذهبت اليه فى بيته بالعمرانية.. وفتح خزينة التسريحة.. بعد أن أغلق الباب خوفاً من هجوم الاحفاد.. وقدم قطعة من الشيكولاتة المستوردة.. وفى مرة تانية كنت أصحبه الى شركة كاسيت قررت ان تنتج له كاسيت.. ايوة كاسيت لا يتحول فيه الى مطرب .. لكن يمارس التعليق من خلال «مباراة ما حصلتش» كتبت احداثها من خيالى وطعمها هو بكبشة من حكاياته ونوادره وفقاً لسير الماتش وعرفت محبة الناس على اختلاف ميولهم واكتشفت السر أن  الاهلاوية فى مبارياتهم اذا ما أحرزوا هدفاً.. وكان هو المعلق يهتفون له: «وشك حلو يا لطيف».. وهو شعار رددته جماهير مصر على اختلافها.. من قلبها وحباً فى حيادة ونزاهته وكانت وصيته لابنه ابراهيم المخرج التليفزيونى للمباريات ومن بعده لحفيده المعلق وعضو مجلس ادارة الزمالك واتحاد الكرة «خالد» : انسى الانتماء الى فانلة بعينها قبل التعليق وكن للجميع يحبك الجميع.. وخالد كان يصحب جده طفلاً... والكابتن يعلق من الملعب قبل عزل المعلق فى كابينة بعيداً عن الجمهور.. وكثيراً ما سأله وتسلل الصوت الى المشاهدين والمستمعين:
ـ من يا واد اللى جاب الجون.. وهو نمرة كام؟
وخالد ربما يسرح مع الماتش كمتفرج.. والجد يصيح: خليك معايا.
عايز شاى
أحرز الشيخ طه اسماعيل هدفاً رائعاً فى مباراة ريال مدريد مع الزمالك مدعوماً ببعض نجوم الاهلى.. وايه يعنى؟ كانت حكاية «المكس» موجودة خاصة مع الفرق الكبيرة الزائرة.. «وأنا وأخويا على الخواجة». وهلل الكابتن لطيف وصرخ بأعلى صوته جول جول جول.. حتى راح صوته.. وخرج الى المستشفى بعد المباراة ونصحه الطبيب بعدم الكلام.. وكانت المرحومة زوجته تجلس بجواره فإذا اراد شيئاً كتبه فى ورقة.. تقرأ وتنفذ.. وانشغلت بشئ ما تجهزه  له وهو يشير وهى مشغولة فيما تعمله.. حتى انتبهت اليه والغضب واضح على وجهه: خير يا كابتن عايز ايه؟ فكتب لها بخط كبير جداً «عايز شاى..!
وامسكت المدام بالورقة وكتبت ترد عليه: وبتزعق كده ليه؟
وخلال مشاويرنا ونحن نسجل الشريط.. امشى الى جواره ويستوقفه الكبير والصغير يسألونه ويجيب بوجه بشوش  ولسان حلو.. يعاتبه الاهلى  فى أمر ما.. يأخذ المسألة بمنتهى الهدوء ويشرح حتى يقتنع السائل بكل حب وهكذا نقطع الطريق الذى لا يستغرق الا الدقائق المعدودة فى ساعة وربما اكثر.. وهو بنفس يجيب ويحكى ويضحك والحمدلله ان الموبايلات لم تكن قد ظهرت فى هذا الوقت والا كنا فى الشارع حتى وقتنا هذا.. مع الباشمهندس «سلفى».
يعترف لى الذى كان أول عربى وإفريقى يرتدى بدلة التدريب (الترينج سوت) ان جيلهم اذا فاز بدورى او كأس كانت مكافأته لا تزيد على ٥ جنيهات وحتة جاتوه.. لان الهواية هى الاصل.. واللاعب يحب اللعبة.. وتكون المشكلة عندما تزيد شهرته ويفرض عليه الواقع الاجتماعى ان يكون لائقا.. فى حياته.. فهل تصدقنى إذا قلت انى قابلت نجم الاهلى فى عز شهرته الشيخ طه ينزل من الاتوبيس امامى وانتهزتها فرصة وانا الطفل الصغير لكى اشبط فى يده ويدخل بى الى الملعب بلوشى.. وكان هذا فى الميدان الموجود فى نهاية كوبرى قصر النيل امام مدخل الاوبرا حالياً.. ومرة أخرى رأيت محمود أبو رجيلة فى اتوبيس تابع لرجل الاعمال الشهير ابو رجيلة صاحب شركة النقل ورئيس نادى الزمالك فيما بعد ومنه استمد اسمه.
ورأيت منتخب مصر بكبار نجومه فى الستينيات صالح سليم والفناجلى والشاذلى ومصطفى رياض وعبده نصحى وسمير قطب يعسكرون.. فى مقر اتحاد الجيش الرياضى بكوبرى القبة وشفت بعينى حريفة مصر المشاهير بعد اعتزالهم يشتركون فى مباريات الكرة الشراب على الاضواء فى الشوارع.. فى الدورات الرمضانية.
وقتها كان اللاعب منهم يمثل مدرسته صباحاً فى دورى المدارس النارى.. ثم يلعب بعد الظهر فى ناديه..والامكانيات على القد.. لا مراكز استشفاء ولا جاكوزى.. ولا فنادق سبع نجوم ويدوب المساج وربما السباحة ودمتم.
نعم الزمان غير الزمان.. يدوب حضرتك تتفرج على الماتش.. وممكن تلحق فى الراديو عند السابعة وخمس دقائق الخال فهمى عمر يقدم تعليقه على المباريات ونتائجها.. هنا وهناك.. ثم تقرأ تفاصيلها فى اليوم التالى خلال الصحف بمساحات على قد حالها.. الا فى حالات وماتشات خاصة.. عندما فاز الاهلى على بنفيكا   البرتغالى بطل أوروبا وخرجت المانشيتات الحمراء فى كل الصحف بالخبر.. وتكرر الامر عندما فاز الزمالك على ويستهام بطل انجلترا وأوروبا.
فين الكورة يا لطيف
وقعة نكسة ٦٧.. وتوقف النشاط الكروى وأغلب انشطة الحياة وعلى فكرة بعدها بايام كنا نضرب الصهاينة فى رأس العش وإيلات وهو ده جيشك يا مصرى.
اعتزل العدد الكبير من اللاعبين والمحظوظ منهم سافرإلى دول عربية وكانوا قلة.. وفى مستشفى المواساة بالاسكندرية ذهب الرئيس جمال عبد الناصر لزيارة شقيقه المريض.. وهناك وبالصدفة تواجد الكابتن لطيف لواجب انسانى يؤديه.. واستوقفه الرئيس:
ـ سلامات يا كابتن
الله يسلمك يا ريس.
وبدون سابق انذار يسأل ناصر:
هى الكورة فين يا كابتن؟
وبذكاء ولياقة ذهنية قال لطيف ما معناه:
- الكورة فى ملعب سيادتك يا افندم.. وحضرتك تأمر!!
وأمر الرئيس بإعادة الكرة.. لان الحياة يجب ان تستمر.. وكان عنوان المرحلة: يد تبنى.. ويد تحمل السلاح.. والبناء يعنى.. بناء الانسان معنوياً وصحياً.. بالعمل فى كل ميدان.. وعادت الكرة.. وعادت الارض بعد النصر العظيم فى اكتوبر ٧٣ ولطيف يتحول الى اسطورة جمعت بين العلم والموهبة والفطرة النقية وعشق تراب البلد الى ابعد الحدود .. وقد عرضوا عليه فى اماكن عربية عديدة ان يتشرفوا بوجوده لكن الانسان كما كان يقول يستمد شرفه الاعظم.. من شرف بلاده وتشريفها فى كل موقع.