من دفتر الأحوال

جاذبية الانتقام

جمال فهمى
جمال فهمى

 «الانتقام» و«الثأر» وما يصاحبهما (غالبا) من قسوة وغياب تام للرحمة والرأفة هما من سمات الطبيعة البشرية فى صورتها الخام قبل أن تهذبها مسيرة التحضر الإنسانى الطويلة، وبعدما استقر فى الوعى الجمعى الناجم عن التقدم والترقى المطردين، حقيقة أن إطلاق العنان للسلوك المحكوم بهما يجعل المجتمع البشرى أقرب لغابة وحوش ويفتقد لأبسط الشروط اللازمة للتطور والحياة الهانئة.
غنى عن البيان أن الفرق هائل بين نزعة الانتقام والثأر، وبين الكفاح من أجل رد المظالم وانتزاع الحقوق من مغتصبيها، وفى هذه المنطقة تحديدا ظهرت حاجة البشر إلى اختراع مؤسسة الدولة والقانون ومنظومة العدالة..إلخ، وهى كلها مؤسسات مستحدثة، بمعنى أنها لم تصاحب الجنس البشرى منذ ظهوره،وإنما ابتكرها الإنسان وقام بتطويرها وتزيينها بحزمة ضخمة من المبادئ والقيم والنواهى والمحظورات تراكمت وزادت عبر مراحل التاريخ بحيث صارت الآن ترسم صورة الدولة النموذجية المتحضرة.
السطور السابقة مقدمة لكى أتحسس السبب المباشر وراء تلك الشعبية الجارفة والمتخطية حدود البلاد والشعوب والثقافات، التى تتمتع بها رواية ساذجة بقدر سحرها، وأقصد رواية «الكونت دى مونت كريستو»لألكسندر دوما (1802ـ 1870) الأب (تمييزا له عن ابنه المشهور بالاسم نفسة مبدع رواية «غادة الكامليا»).
لقد احتار النقاد كثيرا فى تفسير تلك الشعبية الهائلة التى حظيت بها،ومازالت، حكاية «الكونت كريستو»سواء فى فرنسا وطن صاحبها «دوما»، أو فى أربعة أركان الكوكب، إذ ترجمت لعشرات اللغات واقتُبست فى عشرات الأعمال السينمائية والمسرحية فى مختلف بلدان العالم ومنها مصر (بدأ يوسف وهبى اقتباسها مسرحيا فى مطلع عشرينيات القرن الماضى، ثم توالى اقتباسها فى السينما المصرية منذ العام 1950 حين قدمها أنور وجدى فى فيلم أمير الانتقام الذى أخرجه بركات ثم أعاد هو نفسه إخراجه مرة ثانية فى العام 1964 تحت اسم أمير الدهاء بطولة فريد شوقى، ثم تكرر الاقتباس بعد ذلك فى قائمة طويلة جدا من الأفلام).
إذن فقد تعب النقاد قبل اكتشاف سر شعبية هذه الرواية المفرطة فى سذاجتها وبدائيتها، حتى ظهر رأى يقول: إن السذاجة والبدائية هما السر لأنهما يستثيران نوازع الانتقام والثأر الراقدة فى الطبيعة الإنسانية خلف قشرة التحضر والترقى المكتسبتين بفعل مسيرة حضارة.
يبقى التذكير بملخص رواية الكسندر دوما ـ الأب، إذ تدور احداثها فى مدينة مارسليا حيث يعمل إدمون دانتيس بحارا، وكان عند بداية حكايته فى العام 1815، يستعد لحفل زواجه بحبيبته «مرسيدس»غير أنه يفاجأ بقوة من الشرطة تقبض عليه بتهمة باطلة ومزورة ألا وهى أنه ناصر نابليون وهو يغزو إيطاليا.
يحاكم إدمون ويدان ظلما بارتكاب هذه الفعلة التى لا يعرف عنها شيئا، ويُحكم عليه بالسجن لمدة 15 سنة ويقضى العقوبة فى حصن رهيب يدعى «إيف»، وهو فى السجن يعرف رويدا رويدا من الذى زج به فى هذه القضية، وهم ثلاثة أشخاص اشتركوا معا فى مؤامرة ضده، كل منهم له هدف عنده، أولهم «فرنان»منافسه فى حب مرسيدس خطيبته، والثانى «انجلار»شريكه فى العمل، أما الثالث فرجل قضاء انتهازى معدوم الضمير يدعى «فيلفور»الذى اكتشف، ما إن وقعت قضية إدمون تحت يده، ما سيعود عليه من فوائد إن هو دانه وحكم عليه بهذا الحكم القاسى، ففعل.
يمضى إدمون دانيتس أوقات عصيبة فى المعتقل وهو يتجرع مرارة الظلم، ويتعرف فى زنزانته بالعجوز «فاريا» الذى يصير صديقه، ويتمكن من الهرب بمساعدة هذا العجوز الذى يمنحه ثروة هائلة كان قد أخفاها فى الخارج، يأخذها صاحبنا ويصير وجيها ثريا ما يساعده على تنفيذ خطط انتقامه ممن ظلموه.