يوميات الأخبار

حتى أنت يا «بروتس».. عندما تكون الخيانة وجهة نظر!!

 أيمن منصور ندا
أيمن منصور ندا

 أيمن منصور ندا

«هناك عين تراقبنا، وعين نراقبها، وعين تراقب عيوناً أخرى غيرنا وتشاكلها».

فى مسرحية «يوليوس قيصر» لشكسبير، ووسط طعنات تلقاها «قيصر» من المتآمرين عليه،وقعت عيناه على صديقه «بروتس»فاستغاث به واستنصره وهو موقن بالإجابة، غير أنَّ»بروتس»تحالف مع أعداء قيصر، وسدَّد طعنة كانت هى القاتلة لصديقه..لحظتها، أيقن قيصر نهايته، واستسلم لمصيره،وقال معاتباً «حتى أنت يا بروتس»؟! فعندما تأتى الضربة من صديق فهى القاضية، وعندما يكون الخذلان من قريب فهو الخسران المبين..كانت لبروتس «وجهة نظر» فى أسباب خيانته لصديقه، وفى تخليه عنه وغدره به، إذ أعلن»أحب روما، وأحب قيصر، غير أن حبّى لروما أكبر»!!
عادةً ما تكون الخيانة وجهة نظر لدى الخائنين.. وعادةً ما يكون السبب المعلن للخيانة أخلاقياً؛إذ يتم تغليف الأسباب الحقيقية القميئة بشعارات حالمة وجليلة..الخائنون هم أكثر الناس ترديداً لشعارات العدالة والحرية والمساواة مقارنةً بالمؤمنين بهذه القيم.. الكاذبون هم أكثر الناس حديثاً عن الصدق، والغادرون هم أكثر الناس مطالبة بالوفاء؛ كلٌّ يتحدث عمَّا يفتقده.. فى حوار بين «برنارد شو» وكاتب مغمور، قال له الكاتب: «أنا أفضل منك؛ أنت تكتب من أجل المال، وأنا أكتب من أجل الشرف»، فقال له «برنارد شو»: « كلٌّ منا يبحث عمَّا ينقصه»!!
الخائنون فيما يقومون به مذاهب، تتعدد النيَّات والهيْئات والفعل واحد.. هناك خيانات صريحة مباشرة، وخيانات مضمرة غير مباشرة.. «خنفس باشا» عندما خان «عرابي» وتسبب فى هزيمة فادحة له فى «التل الكبير»(1882) كانت خيانته من النوع الأول، و»الهلباوى باشا» عندما دافع عن الظالم ضد المظلومين فى حادثة دانشوي(1906) كانت خيانته من النوع الثاني.. والواقفون على الحياد فى معركة الوطن المصيرية ضد أعدائه فى الفترة الحالية خياناتهم تحمل النوعين معاً..
المناضل الأمريكى «مارتن لوثر كينج» يرى أنَّ «أسوأ مكان فى الجحيم محجوز لهؤلاء الذين يبقون على الحياد فى أوقات المعارك الأخلاقية العظيمة».. الحياد فى وقت المعارك الوطنية الكبرى هو خيانة عظمى، إذ لا يكون»الالتفاف حول العلم» أثناء الأزمات اختياراً، ولا يصبح الاصطفاف الوطنى إزاء التحديات وجهة نظر..فى الحديث الشريف «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً».. ونصرته فى حالة الظلم تكون بمساعدته على كف أذاه، وليس من خلال المعاونة عليه، أوالتحالف ضده.. الخيانة بأشكالها المختلفة فعلٌ غير مبرر فى كلّ الأحوال.. وهو ما جعل الشاعر العراقى «بدر شاكر السياب»يستنكره ويتعجب منه:»إنّى لأعجبُ كيف يمكنُ أنْ يخونَ الخائنون.. أيخون إنسانٌ بلاده؟ إنْ خان معنى أنْ يكونَ فكيف يمكنُ أنْ يكون؟»!!..
الدكتورزكى نجيب محمود له تفسيره لهذا الموقف؛ إذ يرى أنَّ «موقف الحياد هو موقف العاجز الذى يريد لنفسه السلامة والهدوء»، غير أنَّ الحياد فى معارك الوطن يورد أصحابه موارد الهلكة.. فى التراث نردد الدعاء «اللهم أهلك الظالمين بالظالمين، وأخرجنا من بينهم سالمين» وهو شعار الواقفين على الحياد الذين هم أظلم الظالمين لأهلهم ولأوطانهم.. هم مثل ساكنى أعلى السفينة فى الحديث الشريف فى موقفهم من ساكنى أسفلها إذا أرادوا خرقها للحصول على الماء، «فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرادُوا هَلكُوا جَمِيعًا، وإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِم نَجَوْا ونَجَوْا جَمِيعًا»..
«بلادى وإنْ جارتْ عليَّ عزيزةٌ... وقومى وإن ضنّوا عليَّ كرامٌ»، لا يوجد أيُّ مبرر لخيانة الوطن.. ولا يوجد فى  الخيانة وجهة نظر.
الأيقونة: منى الحديدى
فى صيف عام 1990، وفى انتظار نتيجة الثانوية العامة وقد كنت أحد طلابها، رأيتُها على شاشة القناة الثانية بالتليفزيون المصرى فى لقاء مع الرائع الراحل فاروق شوشة..فى هذه الفترة، كان أمامى خياران لا ثالث لهما؛ إمَّا الالتحاق بكلية «الاقتصاد والعلوم السياسية» بحكم المجموع المرتفع المتوقع، وإمَّا دخول كلية «دار العلوم» بحكم الميول الأدبية والشعرية حينذاك.. كان لقاء الدكتورة منى الحديدى وكيل كلية الإعلام لشئون التعليم والطلاب فى ذلك الوقت، وحديثها المميز عن الكلية والدراسة فيها، لحظة فارقة فى حياتي، ونقطة تحول رئيسة فى مجال عملي.. ووجدتُني، بعد اللقاء، مثل «أرشميدس» وهو يصرخ فى شوارع أثينا القديمة: وجدتُها، وجدتُها؛ فى إشارة إلى توصله إلى «نظرية الطفو».. ومنذ هذا التاريخ، وأنا أرنو إليها، وأتلمس خطاها، وأتتبع دراساتها وآراءها، فى علاقة الأستاذ والتلميذ، والشيخ والمريد..
طريقة الدكتورة منى الحديدى فى تدريسها، وعلاقتها بتلاميذها، هى تطبيق عملى لقواعد التعليم المتراكمة عبر التاريخ.. فهى تؤمن بمقولة كونفوشيوس: « قل لى وسوف أنسى.. أرنى ولعلّى أتذكر.. أشركنى وسوف أفهم»؛إذ تشرك طلابها فى موضوعاتها ولا تميل إلى التلقين.. وهى تعتقد فى مقولة «روجر فريتس»: « ليس التعلم أنْ تحفظ الحقائق عن ظهر قلب بل أنْ تعرف ماذا تفعل بها»، ولذا، فكلُّ محاضراتها تنصب على تحويل النظرية إلى تطبيق، والعلم إلى عمل.. وهى فى علاقتها بالعلم تتبع مقولة غاندي:»عش كأنك ستموت غدا،وتعلم كأنك ستعيش للأبد»، إذ تحرص على حضور كافة الفعاليات العلمية، وعلى السؤال عن كل جديد فى مجال تخصصها.. وفى علاقتها بزملائها ومنافسيها تطبّق مقولة «ستيف جوبز»: «تعلمْ كيف تحب زملاءك ومنافسيك، وتثنى عليهم، وتستفيد منهم، وانتقدهم بشكل راقٍ وصريحٍ ولكن بأمانة».
أخذ العلم «كابراً عن كابر» ليس مقتصراً على العلم الدينى، إذ تخضع العلوم الاجتماعية للمنطق ذاته.. الدكتورة منى الحديدى تلميذة مخلصة لمؤسسى الدراسات الإعلامية فى الوطن العربي: الأساتذة الدكاترة: خليل صابات، ومختار التهامي، وجيهان رشتي.. وهى أستاذة لأجيال متعددة من الباحثين، أشرف بانتمائى إلى أحدها.. وكما يقول المثل الإنجليزى «العقول العظيمة تفكربطرق متشابهة»، تجد تشابكات وتقاطعات الدكتورة منى الحديدي مع عقول عظيمة فى العلوم الأخرى.. أسماء مثل الأساتذة الدكاترة: أحمد يوسف أحمد، ونيفين مسعد، ونجوى الفوال، وشادية قناوي، وغيرهم؛ مدرسة بعضها من بعض، ورفقاء علم متميزون، وإنْ تنوعت التخصصات واختلفت المشارب..
ولعلَّ أهمَّ ما يميَّز هذا الجيل ويجمع بين أفراده، الانضباط والدقةوالتفكير الإيجابي.. الدكتورة منى أشبه بالساعات السويسرية والعقليات الألمانية فى انضباطها، وبساعة جرينتش والعقليات اليابانية فى دقتها، وهى فى إيجابيتها تؤمن بمقولة»فولتير»: «لا توجد مشكلة تستطيع الصمود أمام هجوم التفكير المتواصل».. وهى مثال للأستاذ كما ينبغى أنْ يكون سلوكاً، ونموذجا للباحث كما يُرَاد منه عملاً وأداءً.. وهى فى ذلك كلّه علامة مضيئة فى سماء الدراسات الإعلامية العربية...
هناك مثل فرنسى شهير يقول «يا أيُّها الذى نحب، شكراً لأنَّك جعلتنا نحبك».. شكراً جزيلاً دكتورة منى.
الطرف الثالث
تعتبر فكرة «العزول» فى الأغانى العاطفية هى أشهر «التيمات» التى دارت حولها أغانٍ عديدة.. «العُزَّال» و»الوشاة» هم مصدر «عكننة» العاشقين، وسبب شقائهم، وما اجتمع عاشقان إلا وكان «العزول»ثالثهما(«العزول فايق ورايق عمره ما داق الغرام»، «أنا هويت وانتهيت، وليه بقى لوم العزول»، «يا عوازل فلفلوا»...)، هذا بالإضافة طبعاً إلى «اللائمين» («لولا الملامة يا هوى»، «بتلومونى ليه»....)..
هناك فكرة أخرى و»تيمة» مختلفة، التفت إليها بعض الشعراء، وهى شخصية «الطرف الثالث»؛ فكرة أن تحب شخصاً، وهذا الشخص يحب شخصاً آخر، وهذا الآخر يحب شخصاً مختلفاً، وهكذا فى سلسلة غير نهائية: هناك عين تراقبنا، وعين نراقبها، وعين تراقب عيوناً أخرى غيرنا وتشاكلها.. وعلى هذا نكون على حدّ قول الشاعر «فَكُلُّنا مُغرَمٌ يَهذى بِصاحِبِهِ.... ناءٍ وَدانٍ وَمَخبولٌ وَمُختَبِلُ»..
مجنون ليلى «قيس بن الملوح»عانى هذه المأساة مع «ليلى» ومع منافسه «ورْد بنى ثقيف»، وأوجزها فى بيت بديع «جُنِنَا بليلى وهى جُنًّت بغيرنا.. وأخرى بنا مجنونةٌ لا نريدُها»؛ فقيسٌ يحب ليلى، وليلى تحب «ورْداً»، و»ورْدٌ» قد يكون ملتفتاً إلى غيرها، وقد تكون هذه الأخيرة مرتبطة بغيره، فى سلسلة لا نهائية من الدوائر المفتوحة، وهو ما يستعصى على فهم البعض، ويدفعه إلى الجنون كما حدث مع قيس: المجنون العاقل الذى كان دائم السؤال «وكيف يودُّ القلبُ من لايريدُه؟... بَلَى قد تريدُ النفسُ من لا يريدُها»..
شاعر آخر التفت إلى الظاهرة ذاتها، وجرَّب مرارتها، وعانى قسوتها، هو الشاعر «ميمون بن قيس» الملقب بالأعشى الكبير.. كان الأعشى مغرماً ب»هريرة» وعاشقاً لها، غير أنَّ القلب له أحكامه، إذ كانت «هريرة» تحب رجلاً يعشق فتاة غيرها، وهو ما أشار إليه الأعشى «عُلَّقتُها عَرَضاً وَعُلَّقَت رَجُلاًغَيرى وَعُلَّقَ أُخرى غَيرَها الرَجُلُ»..
ويبدو أن هذه الظاهرة إنسانية عالمية، ففى أسطورة «بجماليون»، ذلك النحات الذى أقام تمثالاً كامل الأوصاف لفتاة من تخيله «جالاتيا»، أودع فيها كلَّ صفات الجمال التى يتمناها ويطمح إليها، ولما نفخت «فينوس» بعضاً من روحها فى «جالاتيا»، لم تلتفت إلى «بجماليون» الذى صنعها وعشقها، وإنما وقعت فى حبّ رجل غيره.. وتبلغ المأساة ذروتها عندما يكون هذا الرجل مرتبطاً بفتاة أخرى!!
القلوب بين يدى الرحمن يقلّبها كيف يشاء، وكلٌّ يدعو ربَّه»اللهَّم، هذا عملى فيما أملك، فلا تلمنى فيما تملك ولا أملك».. وجود العوازل واللائمين قد يكون أخفَّ ضرراً وأقلَّ تكلفةً من وجود الطرف الثالث، وقى الله العاشقين أذاهم جميعاً!
> رئيس قسم الإذاعة والتليفزيون- إعلام القاهرة