مرصد الأزهر في خمسة أعوام.. رسالة ومسؤولية

الدكتور محمد حسين المحرصاوي
الدكتور محمد حسين المحرصاوي

مقال الدكتور محمد حسين المحرصاوي، رئيس جامعة الأزهر والمشرف العام السابق على مركز الأزهر العالمي للرصد والفتوى الإلكترونية:

أخذت مؤسسة الأزهر الشريف على عاتقها نشر منهج الإسلام الوسطي وتعاليمه السمحة على مدار أكثر من ألف عام، وذلك في إطار الرسالة العالمية للأزهر والمسئولية الكبرى التي يضطلع بها لنشر صحيح الدين ومعالجة ظاهرة التطرف وآفة الإرهاب الذي ضرب جلَّ دول العالم من أقصاه إلى أقصاه. وقد سخَّرت المؤسسة في سبيل ذلك كافَّة إمكاناتها المتاحة لتجوب رسالتها السامية أرجاء العالم شرقًا وغربًا.

ولعل من أبرز ما تمَّ إنشاؤه خلال السنوات الأخيرة «مرصد الأزهر لمكافحة التطرف» الذي افتتحه فضيلة الأمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، في الثالث من يونيو لعام 2015، ووصفه حينها بأنه «عين الأزهر الناظرة على العالم»، وقال في إحدى زيارات فضيلته التفقديَّة إن المرصد هو حائط الصدِّ الحقيقي لكل ما تبثُّه التنظيمات الإرهابية على شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي؛ نظرًا لاعتماده على منهج الأزهر الوسطي في الردِّ على الجماعات المتطرفة.

ويُعدُّ المرصد أحد أذرع الأزهر الحديثة التي تعمل باثنتي عشرة لغة في محاربة الأفكار المتطرفة وتصحيح المفاهيم المغلوطة عن الإسلام، وتفنيد الشبهات التي تحاول من خلالها التنظيمات الإرهابية استقطاب النشء والشباب. ويسعى المرصد على مدار 5 أعوام منذ إنشائه إلى مواكبة متغيرات وتطورات العصر المتجدِّدة لمواجهة تلك القوى الظلامية التي فتحت على العالم أجمع بابًا خطيرًا وشرًّا مستطيرًا، وأسَّست لأفكار مسمومة تستبيح بها دماء الأبرياء وتهدِّد من خلالها أمن المجتمعات وتعبث بأركانها. وعمد المرصد إلى الاستعانة بمجموعة من الشباب الأكْفَاء والأكْفِياء من خريجي جامعة الأزهر ذوي قدرات خاصَّة في اللغات الأجنبية، وعلى قدر كبير من المعرفة بثقافات وسياقات الدول الناطقة بتلك اللغات؛ وذلك حتى يتسنَّى لهم رصد كافَّة الخطابات المتطرفة في معظم دول العالم ومتابعتها وتحليلها.

وفي إطار عمله على نشر الوعي وتصحيح المفاهيم، خاض مرصد الأزهر معارك فكرية ضارية حقَّق خلالها مكاسب ساعدت في انحسار ظاهرة التطرف والحدِّ من انتشارها على المستويين المحلي والدولي؛ حيث قام المرصد بإصدار عدد من الدراسات والتقارير والمقالات والإصدارات الإلكترونية والمطبوعة والمرئيَّة التي تعمل على كشْف زيف تلك الجماعات التي ترفع راية الإسلام لتحقيق مكاسب شخصية، هذا إلى جانب الحملات التوعويَّة التي تستهدف الردَّ على ما تصدره التنظيمات الإرهابية من شبهات وأفكار شاذَّة؛ لتحصين المجتمعات من الوقوع في براثن تلك التنظيمات.

وقد عقد المرصد بروتوكلات مع بعض المؤسسات المحلية والدولية لبحث سبل التعاون على استئصال ذلك الفكر الإرهابي الأسود الذي كاد أن يستشرى في ربوع العالم، كما قام باستقبال عدد من الزيارات المهمَّة لمسئولين ورؤساء دول ووزراء ووفود محلية وأجنبية وباحثين معنيِّين بمجال التطرف والإرهاب من مختلف دول العالم.

وشارك المرصد في العديد من الفعاليات والندوات والمؤتمرات في المحافل المحلية الدولية، أبرزها: مشاركاته في الأمم المتحدة، وقام المرصد بتنظيم عدد من البرامج التثقيفية والحملات الميدانية لشباب الجامعات؛ للتوعية بمخاطر ظاهرة التطرف، وترسيخ القيم والمبادئ الإنسانية التي دعت إليها وثيقة «الأخوة الإنسانية» التي وقَّعها الأزهر الشريف وحاضرة الفاتيكان في فبراير 2019، والتي وصفها الإمام الأكبر بأنها طوق نجاة لأزمات الإنسان المعاصر.

ولمرصد الأزهر دور بارز في مساندة الأزمات والقضايا الإنسانية، مثل قضايا اللاجئين وقضية «الروهينجا»، هذا بالإضافة إلى متابعة أحوال المسلمين حول العالم لمساعدتهم على الاندماج الإيجابي في المجتمعات الغربية التي يعيشون فيها مع الحفاظ على الهويَّة والثقافة الإسلامية.

ولم يغفل المرصد الهجمة الشرسة التي يشنُّها تيَّار اليمين المتطرف من خلال بعض وسائل الإعلام الغربية لإذكاء خطاب «الكراهية» ضد المسلمين؛ ما ساعد على تنامي ظاهرة «الإسلاموفوبيا» التي تكَّبد المسلمون من ورائها خسائر فادحة في الأرواح والمقدَّرات، بل كان للمرصد دور محوري -من خلال الحملات والتقارير والدراسات التي تكشف كراهية ذلك التيَّار الشديدة للإسلام، وعنصريته المقيتة ضد المسلمين، وتقف على أسبابه وتضع حلولًا تتصدَّي لذلك الكَمِّ الهائل من الممارسات المتطرفة والانتهاكات الصارخة بحقِّ المسلمين، والتي وصل مداها إلى الاعتداء على المساجد والتطاول على نبيِّ الإسلام محمد -صلى الله عليه وسلم-. كما لم يغفل المرصد القضية الفلسطينية باعتبارها القضية الأولى في عالمنا العربي؛ حيث قام بإصدار عدد من التقارير والحملات التوعويَّة التي تستهدف توعية الشباب العربي وبمكانة المسجد الأقصى في الإسلام، وتاريخ تلك القضية العادلة، وتسعى إلى فضح جرائم الاحتلال الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، وتكشف مخططات التهويد الخبيثة التي تتعرَّض لها المقدسات الإسلامية داخل الأراضي المحتلة، ومحاولات سلطات الكيان الغاصب المتواصلة في التقسيم الزماني والمكاني لتلك المقدسات وفرض سياسة الأمر الواقع عليها، إضافة إلى تسليط الضوء على عمليات التخريب التي ترتكبها عصابات المستوطنين تحت مظلَّة وحماية جيش الاحتلال الذي يسعى إلى الإبادة الجغرافية للشعب الفلسطيني.

وختامًا.. فقد حقَّق مرصد الأزهر كثيرًا من أهدافه التي يسعى إليها ويوليها اهتمامه خلال سنوات عمله، خاصّة في القضايا المتعلقة بالتطرف والإرهاب، متسلحًا في معركته بسلاح الفكر الوسطي الذي يُعد الطريق الأوحد للتغلُّب على آلام ذلك المرض الخبيث الذي ينخر في جسد العالم، وعلى الرغم من التحديات الصعبة في طريق الوصول إلى الهدف المنشود، فإن المرصد وفي إطار المسؤولية المُلقاة على عاتقه ومن خلال آليات عمل حديثة وخطط علميَّة مدروسة، سيبذل جهودًا حثيثة في قابل الأيام؛ لتحقيق كثير من الآمال التي يرجوها وإزالة كثير من غيوم تلك الأفكار الضالَّة والمضلَّة التي كست سماء العالم.