بأقلام الاشقاء

صوت العرب من القاهرة

د.غسان محمد عسيلان
د.غسان محمد عسيلان

فى الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين كان مألوفًا فى كل ركن وزاوية من عالمنا العربى أن ترى رجلًا أو شابًا يعكف على مذياعه فى خلوته أو مع أسرته، أو على المقهى، أو وسط جماعة من الناس، ويدير مؤشر المذياع بهدوء وتؤدة ليضبطه على موجات إذاعة أحبها الجميع ليلتقط إشارة بثها لتتهادى إلى سمعه عبارة هزَّت الوجدان العربى على مدى سنوات طويلة هى عبارة (صوت العرب من القاهرة) تلك العبارة التى كان يطرب لسماعها الإنسان العربى فى العواصم والحواضر والبوادي، من جبال المغرب والجزائر إلى أعماق خور بعيد هادئ يسكن على سواحل الخليج العربي.
وتشتهر إذاعة صوت العرب بالبرامج السياسية والإخبارية الرصينة الهادفة التى قدَّمها نخبة منتقاة من مذيعى الأخبار والمحاورين السياسيين فى العالم العربى، وقد انطلقت هذه الإذاعة من القاهرة عبر الأثير لأول مرة فى الرابع من شهر يوليو عام 1953م، وكانت أشهر الإذاعات المصرية التى بُثَّت لجميع أقطار العالم العربى، ونبعت شهرتها من استخدام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لها لتكون الوسيلة الرئيسة فى بث خطاباته المؤثرة التى كانت تدعو لتحرير الشعوب العربية ومناهضة الاستعمار الأجنبي، وتخليص بلدان العالم العربى من الهيمنة الاستعمارية، والدعوة إلى الوحدة العربية، وقد سطع نجمها خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، واكتسبت بسبب ذلك شهرة وجماهيرية واسعة وشعبية كبيرة فى مصر والعالم العربى.
لقد جاء الدعم الأساسى لإذاعة صوت العرب من قِبل الرئيس جمال عبد الناصر الذى أدرك منذ اللحظة الأولى قدرتها على تشكيل الرأى العام المصرى والعربى؛ فحرص على تطويرها، ومضاعفة وقت بثها من نصف ساعة يوميًّا عند انطلاقتها الأولى إلى البث على مدار الساعة، وتمحور المضمون الإعلامى الذى بثَّته «كما أشرنا» حول مفهوم الوحدة العربية، ومناهضة الاستعمار، وغير ذلك من الأفكار الثورية.
وفى الحقيقة فقد حفرت إذاعة صوت العرب مكانتها المتميزة فى الوجدان العربى بسبب وقوفها مع حركات التحرر من الاستعمار، فقد استثمرت مصر عبدالناصر إمكانيات الإذاعة ودعت من خلالها إلى دعم المناضلين العرب ومساندة دعاة القومية العربية على امتداد الوطن العربى الكبير؛ فكان صوت العرب هو صوت مجاهدى الجزائر والمغرب وتونس، والمقاومة الفلسطينية، وكذلك جبهات التحرير فى عدد من الدول الأفريقية، ومما شاع أن الاستعمار الفرنسى حاول إخماد إذاعة صوت العرب فى الجزائر عبر توزيع أجهزة راديو مجانية على الجزائريين قيل إنها لا تلتقط بث إذاعة صوت العرب؛ وذلك للتعتيم عليها ومنع تأثيرها على الثوار.
ولم يقتصر تأثير إذاعة صوت العرب من القاهرة على الدول العربية فى شمال أفريقيا وحسب، بل شاركت هذه الإذاعة فى تحرير بعض دول الخليج العربى ونيل استقلالها من الاستعمار البريطانى، وعلى مدى عقدين من الزمن كانت إذاعة صوت العرب هى صوت المناضلين العرب، وحصن العروبة الإعلامى الحصين والمدافع الأول عن القضايا العربية.
وعقب نكسة يونيو 1967م منيت إذاعة صوت العرب بانتكاسة بسبب الهزيمة العربية المدوية، واتهمت بأنها باعت الوهم للمصريين والعرب فى خطابها إبان أيام الحرب الأولى، ولا شك أن هذه السقطة الإعلامية نالت حينًا من الدهر من مكانة ومصداقية إذاعة صوت العرب لدى المستمعين من المحيط إلى الخليج، حتى تحققت انتصارات أكتوبر المجيدة عام 1973م التى أعادت للعرب كرامتهم!!
والآن وبعد مسيرة حافلة من العطاء الإعلامى المتميز على مدى 67 عامًا وسط أحداث عربية ملتهبة، وتغيرات عاصفة أزاحت أنظمة حاكمة وجاءت بأخرى ما زالت إذاعة صوت العرب من القاهرة تقف كالطود الشامخ تنافح عن القضايا العربية وتذود عن حياض العروبة بكل شجاعة واستبسال فى زمنٍ اختلطت فيه الأوراق كثيرًا، وما تزال تلك الإذاعة العريقة تقوم بدورها فى توحيد الكلمة العربية، ومحاولة نزع فتيل أى توتر يفسد العمل العربى المشترك.
< أكاديمى وكاتب صحفى سعودى