العيد تكليف بالسعادة

الشىء بين التكليف والترك

د. مبروك عطية
د. مبروك عطية

الشىء بين التكليف والترك
السبت:
فرق كبير بين أن تكون مكلفًا بشيء، وبين أن تكون متروكا، تفعله أو لا تفعله، أما الذى أنت به مكلف فلابد أن تفعله، وإلا صرت بتركه عاصيًا آثمًا، وكم من أمور كلفنا الله تعالى بها، وقد تركناها، بل إننا أحيانًا نتفنن فى قلبها رأسًا على عقب، ومن أهم تلك الأمور العيد فى الإسلام؛ فالعيد تكليف بالسعادة، أى أن الفرح فى هذا اليوم واجب على كل الناس، لا حزن فيه، ولا مأساة، ولا تذكر لمواجع تثير فى النفس الآلام والأوجاع، كالذين يزورون المقابر فى يوم العيد، ويلبسون السواد، ويذكرون عادات موتاهم، وماذا كانوا يفعلون فى هذا اليوم، وكم كانوا كرماء أنقياء، ويعلنون أن العيد بفقدهم لم يعد له من طعم، ولم يعد فيه من بهجة، فيحملون الصغار على البكاء بتباكيهم أمامهم، ويشيعون روح الحزن فى كل مكان، فهل يعلم هؤلاء أن فعلهم هذا مخالف لكتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالله تعالى فى آيات الصيام من سورة البقرة يقول:"ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم" أى هذا يوم التكبير، شكرًا لله عز وجل الذى هدانا إلى الصوم فصمنا، وتراحمنا، وعطف بعضنا على بعض، وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يشيع فى الدنيا روح السعادة يوم العيد، فيفطر فى عيد الفطر على التمر والماء، ويلبس، ويتطيب، ويخرج لمصلى العيد، يخرج معه المسلمون من الرجال، والنساء، حتى الحيض المعذورات شرعًا، فلا صلاة عليهن، وإنما خرجن ليشهدن ما يبث السعادة فى نفوسهن، من رؤية الجمع الغفير الذى خرج يكبر، ويصلى، وكذلك يخرج الأطفال الذين يؤهلون ومن بعدهم لحمل رسالة الدين، وإقامته على الوجه الذى يرضى ربنا، ومن هذا الوجه الذى يرضيه عز وجل أن يكون يوم العيد يوم سعادة، وهنا لا أقول: إجباريًا، أو بالعافية كما نقول فى عاميتنا، وإنما أقول: برضا نفس مستمد من يقين بأن الله عز وجل لم يكلفنا بشيء إلا وفيه خيرنا فى الدنيا والآخرة، ومن خير الدنيا أن نعتبر أن من مات من أعز الناس فى حياتنا قد قضى عمره الذى كتبه الله له، ونحن به لا شك لاحقون، والله يغفر لنا وله، وأن ما فاتنا من خير سنعوضه إن شاء الله بالهمة والعزم الأكيد على العمل، ودراسة أسباب الخسارة، والعمل على تعويضها بثقة عظيمة فى الله عز وجل الذى يوفق المتوكلين، ويجبر كسر المنكسرين، برحمة منه وفضل، وليس على فضل الله عز وجل من حرج، وهو سبحانه ذو الفضل العظيم، فإن رأيت إنسانا سعيدا فى يوم ليس يوم عيد فاغبطه، وإن شئت قلت: إنه إنسان متفائل يلتمس السعادة فى أى سبب، وما أكثر الأسباب التى تستمد منها السعادة، ولكنه داء الكآبة المتوهم الذى تضخم وهمه حتى صار حقيقة، والشهوة العنيفة شهوة النكد، والتماسه فى أى سبب كذلك، وما أكثر أسباب النكد! أى أن أسباب السعادة متوفرة، وأسباب النقيض كذلك متوفرة، وعلى الإنسان أن يختار، وتبقى القاعدة: من التمس شيئًا وجده، أى من بحث عن سبب يكون به سعيدًا فلن يعدم، بل سيجد، ومن بحث عن سبب يكون به شقيًا حزينًا فلن يعدم كذلك، بل سيجد ضالته من هنا أو من هناك، فإن كان مؤمنًا حقًا بحث عن سبب من أسباب السعادة، وهو بلا شك واجده؛ فيسعد، وبسعادته تتحقق سعادة الآخرين، كالذى يأكل، ويؤكل غيره، ألا ترى أإلى قوله تعالى، وفى العيد أيضا، أى عيد الأضحى: "فكلوا منها وأطعم البائس الفقير" والمرء حين ينقل السعادة من قلبه إلى قلوب الآخرين أصدق من الذى يكون كما يقول، أو يقال عنه: إنه حزين، وبرغم حزنه يسعد الآخرين، وهذا وإن عده بعض الناس عملًا بطوليًا ليس من البطولة فى شيء، لأنه يقدم الحياة على طبق الموت، والله عز وجل قدمها على طبق الحياة، وهيهات أن تقدم الحياة على طبق الحياة وأنت ميت من داخلك، وهيهات أن تكون الابتسامة قد ودعت ملامح وجهك إلى غير رجعة حتى فى العيد وأنت ترسم تلك الابتسامة على وجوه الآخرين، فقد جعل النبى صلى الله عليه وسلم طلاقة الوجه من المعروف، والمعروف كما قال كله صدقة، وقالها صريحة، وأن تلقى أخاك بوجه طلق، وإذا كان ذلك منهج المصطفى صلى الله عليه وسلم عامة فى كل زمان ومكان فهو فى يوم العيد أولى، وألزم، فالسعادة فى يوم العيد تكليف شرعى، لا يفر منه إلا من لم يرزق الفقه فى الدين، وفى الصحيح الذى رواه البخارى يقول النبى صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقهه فى الدين"، وليس فقه الدين وقفًا على معرفة الوضوء، وشروط صحة الصلاة، وأحكام الزكاة، وأخذ المناسك، على أتم وجه لها، وإنما من أهم ما يجب فقهه فى الدين أن تعرف سلوكك مع نفسك، ومع غيرك، وذلك فى ضوء فهمك أحكام شرعك، تلك الأحكام التى هى واجبة وأنت تظنها من النوافل، وبالتالى لا تقوم بها، ومنها أن تجهل أن السعادة فى يوم العيد من المباحات التى يجوز لك أن تلتزمها، ويجوز لك أن تتركها، وهذا ليس بصحيح، بل هى واجبة، فإن سبق لسانك بسؤال: وأى شيء فى العيد يسعد؟ فالجواب من أيسر الطرق: أن الله عز وجل أراده كذلك.
الفرح بالدين
الأحد:
من القضايا المهمة الفرح بالدين، حيث إن الشائع المعروف هو الفرح بالنعم لاسيما المادية، والفرح بالدين يتحقق بشيء من التدبر فى الكتاب الكريم، ألا ترى إلى قوله تعالى فى سورة الحجرات: "يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين" فمن هدى للإيمان فقد ثبت له من الله عليه، فمن ذا الذى لا يفرح بما منَّ الله تعالى عليه!
وقد ذكرنا هنا قول الله تعالى فى يوم عيد الفطر: "ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم" نحن يجب أن نفرح بأنا صمنا، ونطمئن إلى أن صيامنا من هدى الله لنا، وعلينا أن نكبره تعالى ونهلل، ونشيع معنى البهجة فى نفس كل من يقابلنا، حتى فى الأماكن التى ننزلها أو نزورها، إنه ليس سعادة بجديد الثياب، ولذيذ الطعام والشراب، وإنما هى سعادة بأداء ما كتب الله وفرضه علىّ، إن معنى ذلك أن يفرح العبد ذكرا كان أو أنثى إذا أقام الصلاة، وإذا آتى زكاة ماله، ووقى شح نفسه، فالله تبارك اسمه يقول: "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" أليس من المنطق والعقل أن يفرح الإنسان بما يجعله من المفلحين، تأمل قول ربنا تعالى: "قد أفلح المؤمنون الذين هم فى صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون...." إلى آخر الآيات التى تبث فينا بعدا جديدا للأسباب التى بها أفلح المؤمنون، وهو بعد السلوك، فهم معرضون عن اللغو الذى لا طائل من ورائه، وهم متكافلون اجتماعيا، وهم يعملون لا من أجل أن يأكلوا ويعيشوا، وإنما من أجل أن يأكل غيرهم ويعيش، وهم لا يعتدى بعضهم على أعراض بعض، وهم المراعون للأمانات، حافظون للعهود والمواثيق، لا يخونون، ولا يحبون الخيانة والخائنين، فكيف يبتعد من منَّ الله عليه بتلك النعمة نعمة الدين، فلا ينشرح لها صدره، ولا يسعد بها قلبه، ومن دعاء المسلمين إذا تناولوا شيئًا من الزاد أن يقولوا: الحمد لله الذى أطعم وسقى، وجعلنا مسلمين من غير ما حول منا ولا قوة.
وقد تأملت فرحنا بالنعمة المادية المحسوسة من حيث أثره على النفس، بل على النعمة نفسها، فوجدت أن من يفرح بتلك النعمة المحسوسة يتعامل معها برقة ووداعة وإكبار، ووجدت أثر فرحه بها يجعلها نفسها أكثر وضاءة وإشراقًا، وجمالًا، ويجعلها كذلك فى نظر من ينظرون إليها، فهم يرونها بعينه، ويلمسونها بيده، وكأنها ملك لهم، أو كأنهم يشاركونه فيها، وكذلك المرجو ومن الفرح بالدين، يجعل المتدين سعيدًا به، منشرح الصدر بكل تكليف كلفه به ذلك الدين الذى جلب إلى نفسه المسرة، فأزاح عنه كل مضرة، وما لنا لا نفرح بديننا وهو كبرى النعم التى أنعم الله عز وجل بها علينا فوزًا فى الدنيا بهديه، ونجاة فى الآخرة بما أعده الله للمؤمنين به، وقد روى عن الصحابة الأخيار رضوان الله عليهم أجمعين أن الواحد منهم كان إذا أصيب بشيء قال: الحمد لله الذى لم يجعل مصيبتى فى دينى، وهذا معناه أن الدين عندهم كان أغلى ما عندهم، وهم أحرص عليه من الدنيا، وما أوتوا من زينتها، فهم يقولون: كل شيء ما خلا الدين يهون، وكل مصيبة لا تقترب من الدين مقدور عليها، وهل لذلك من دلالة غير أنهم يرون أن الدين سر سعادتهم، وأن فرحهم به يفوق كل فرح بأية نعمة، وكم كان النبى صلى الله عليه وسلم يفرح بنزول السورة من القرآن الكريم على قلبه، وتأملوا كلمة قلبه، فنحن عهدنا عليه، مع أن القرآن الكريم نص على نزوله على قلبه فى آية الشعراء: "نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربى مبين"
وهل ينزل على القلب إلا ما القلب به منشرح سعيد!.
نعم كان للدار شكل جديد
الإثنين:
دعونى أقل لكم شيئًا يستحق التوقف من ذكريات مر عليها أكثر من خمسين عامًا، حيث كنت أرى للدار من دور قريتنا (دبركى) شكلًا مختلفًا فى أيام العيد، إنها لم تتغير، لم تتهدم لتبنى مكانها دارًا أخرى جديدة، أو عمارة حديثة، بل حتى لم تبيض بمناسبة العيد، وإنما غيرها الإحساس، إحساسى بأن اليوم عيد، وهو مختلف عن سائر الأيام، فالبهجة فى نفوس الفلاحين كانت بوزن طين أراضيهم التى فيها يزرعون، لا شيء يعدل فرحتهم فى هذا اليوم، من لبس الجديد منهم كالذى لبس الغسيل، كل ترسم ابتسامته معنى وشكلًا جديدين للدنيا بما فيها فى عينيه، وفى عينى الصغار أمالى فى تلك السن، حيث كنا نرى بأعينهم، ونشعر بأحاسيسهم، ونخطو على دربهم كما رسموه لنا، ومن ثم رأيت الدار ذات شكل مختلف فى يوم العيد، وهذا المعنى بات الآن مفقودا، أو فى طريقه إلى الزوال، حيث إنه أضحى من الدروس الغائبة فى الخطاب الدينى، الذى ركز على موضوعات تقليدية، حفظها الناس الذين يذهبون إلى المساجد يوم الجمعة وهم لا يطمعون فى موضوع جديد غير مألوف لهم دينًا، وإن ألفوه حياة وعادة، ولم يبق غير أن يقول لهم الخطيب الفارس الهمام: إن ذلك دين حتى يحمدوا الله أن جعل من عاداتهم وما ألفوه حياة سوية من دينهم الذى به يؤمنون، كما قال الصحابى الجليل الذى قدم على النبى: إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة، فقال: أفطرة فى يا رسول الله أم اكتسبتهما؛ قال له صلى الله عليه وسلم: بل فطرت عليهما؛ فقال: الحمد لله الذى فطرنى على شيء يحبه الله ورسوله.

 

 
 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي