يوميات الأخبار

كلُّكم يبكى، فَمنْ سرق المصحف؟!

د.أيمن منصور ندا
د.أيمن منصور ندا

(لا ينبغى للمفكر أن «يقول كلمته ويمضى فى سبيله»، عندئذٍ ينطبق عليه وصف «ديوجين» لبعضهم «إنَّ هؤلاء يتحدثون عن الكواكب، وهم لا يعرفون حقيقة ما تحت أقدامهم»).

قال رجل للشاعر»أبى تمام» فى مجلس «الخليفة المعتصم» وقد أراد إحراجه وتبكيته: «يا أبا تمام: لماذا لا تقول ما يفهمه الناس؟»، فى إشارة إلى استخدامه للكلمات الصعبة والمفردات الغريبة فى شعره، فأجابه أبوتمام: «ولماذا لا يفهم الناس ما أقول؟!» فى إشارة إلى ضرورة أن يبذل المتلقى جهداً فى الوصول إلى المعنى المقصود.. الدكتور محمد عثمان الخشت أستاذ فلسفة الدين ورئيس جامعة القاهرة، فى دعوته لبناء خطاب دينى جديد، طرق آفاقاً لم يعهدها كثيرون، واستخدم مداخل مختلفة فى فهم التراث الدينى وفى التعبير عنه، ولذلك كثر الهجوم عليه وعلى مشروعه الإصلاحى، وتساءل منتقدوه: لماذا لا تقول ما يفهمه الناس؟!!
ألزم «الخشت» نفسه بالدفاع عمَّا لا يلزم من وجهة نظر البعض فى مجال الدين؛ فدعا إلى التمييز بين العناصر العقلانية وغير العقلانية فى الدين، وإلى نسف «الأقدام الفخارية للتجمد الدينى»، وإلى صياغة خطاب دينى جديد بدلاً من تجديد الخطاب الدينى القديم، وإلى البعد عن «المعارك الزائفة حول التراث» و»حرب الجميع ضد الجميع»، وإلى الإيمان بوجود «كتابين مقدسين» فى الإسلام هما كلمات الله وأعماله، وإلى ضرورة ضبط الميزان فى ثقافتنا بين الكلمات والأعمال، وإلى تجاوز العقل الدينى «منابر الثرثرة»، والإعلان رسمياً عن «موت علم الكلام»، وإعلان الحرب «ضد الإسلام المزيف»، وإلى تحرير العقل الدينى، والبعد عن «العقل المغلق»، و»حرب الخنادق القديمة فى علم العقائد»، وإلى «تطوير العقل المعرفى»، و»تفكيك الخطاب الدينى التقليدى».. وهى أفكار فى مجملها تحمل مشروعاً إصلاحياً متكاملاً غير أنها تهدد كثيراً من الكيانات التقليدية القائمة.
الاختيار المرّ
وبسبب رغبته فى توسيع قاعدة المستفيدين من مشروعه الإصلاحى، فقد أخطأ «الخشت» فى أمور عديدة؛ أخطأ عندما لم يتَّبع نصيحة فيثاغورث «مَنْ لم يكنْ من ذوى الاختصاص، فلا يدخل علينا»؛ إذ سمح لكثير من غير ذوى الاختصاص بتسور محراب مشروعه الفكرى وبالدخول إلى قدس الأقداس فى هيكله.. وأخطأ عندما لم يكتب على جدران مدرسته الفكرية ما كتبه أفلاطون على باب أكاديمية أثينا التى أنشأها «مَنْ لا يعرف الرياضيَّات لا يطرق باب مدرستى»؛ وأدخل فى مدرسته راسبين أو «منتقلين بمواد» فى طرائق التفكير وأساليب البحث العلمى.. وأخطأ عندما أراد الحسنيين معاً: الشعبّوية والنخبّوية فى الوقت ذاته؛ يتحدث «الخشت» بلسان بسيط فيحسبه المتنطِّعون سطحيّاً، ويكتب بلسان عربيّ مبين يظنُّه بعض مَنْ فى لغتهم ضعف معقداً صعباً.. فلا وصل صوته إلى البسطاء، ولا رضى عنه العلماء..
إضافة إلى ذلك، وفى القضايا الحياتية، لا ينبغى للمفكر أن «يقول كلمته ويمضى فى سبيله»، عندئذٍ ينطبق عليه وصف «ديوجين» لبعضهم «إنَّ هؤلاء يتحدثون عن الكواكب، وهم لا يعرفون حقيقة ما تحت أقدامهم».. إنَّ ما يحتاجه «الخشت» فى مشروعه الفكريّ الإصلاحيّ هو آليات التنفيذ التى تجعل رجل الشارع يرضى عنها ويعمل بها.. هناك مقترحات رائعة، وأفكار ماتعة، غير أنَّها بين ضفاف الكتب وشطآن الرسائل العلمية، راضية بحالها، وقانعة بمآلها.. تماماً مثل الأفكار التى أشار «الجاحظ» إلى كونها «ملقاة على قارعة الطريق» فى حاجة إلى مَنْ يلتقطها ويجعلها موضع التنفيذ..
«أفلح إن صدق»
وفى رأيى، فإن قضية الإصلاح الدينى وبناء خطاب جديد له تبدو الآن وكأنها قضية أكاديمية أكثر منها مشكلة حياتية؛ قضية تسترعى اهتمام المفكرين والمُنَظّرين، ولا تكاد تخطر على قلب فرد من المطحونين فى الشارع، رغم أنَّهم الأكثر احتياجاً لهذا الإصلاح والأكثر رغبة فيه.. وهو موقف فكريّ عبثيّ أقرب إلى «تهافت الفلاسفة» عند الإمام الغزالى، وإلى «فقر الفلسفة» عند «كارل ماركس».. وأكاد أزعم أنَّ ما يحتاجه الفرد المعاصر هو خطاب دينيّ سهلٌ وميسورٌ يقدر على أعبائه الأساسية ولا يزيد، ويستحق عنه وصف الرسول الأعظم «أَفْلحَ إنْ صَدَق»؛ وخطاب دينى يساعده على التخلص من الفقر وهمومه بمفهوم «الإمام على» «لو كان الفقر رجلاً لقتلته»؛ وخطاب دينى يحلُّ له إشكالية التناقض الحياتى بين «إسلام الشعائر» و»إسلام الضمائر»، وبين «الأقوال المرسلة» و»الأعمال المُثْبتة»، وهى تلك التناقضات التى لخَّصها سؤال «مالك بن دينار» الساخر: «كلُّكم يبكى، فَمَنْ سرق المصْحف؟».. وهى قضايا تظهر بشدة فى فكر «الخشت»..
والحقَّ الحقَّ أقول لكم، عندما تتهيأ الظروف لظهور «مُصْلح دينيّ» فى بلادنا تثور نافورة التشاؤم أمام عينى وتكاد أطرافه تشدُّ أذنى، فما ظهر مُصْلحٌ دينيٌّ إلا وأخرجناه.. يستنكر المُصلح نهايته المحتومة فى البداية: أَوَ مُخْرجيّ هم؟! ثم يفاجأ بالواقع المرّ المستمرّ: مات «محمد عبده» وهو فى منتصف عقده الخامس، وأُخْرِج «على عبد الرازق» من الأزهر وعُزِل من مناصبه وهو فى منتصف عقده الثالث، وغادر «نصر حامد أبو زيد» مصر وهو فى نهاية عقده الرابع.. وإحراج «الخشت» وإخراجه، وهو فى منتصف عقده الخامس، قد يتم بيده لا بيد عمرو من خلال الدخول فى مهاترات تمنعه من استكمال مشروعه، ومن خلال تجاهله لنصيحة «مارك توين» «لا تناقش السفهاء؛ فسيتدرجونك إلى مستواهم ثم يغلبونك بخبرتهم فى النقاش السفيه»..
أنْ تلزم نفسك بما لا يلزم، وأنْ تجتهد فوق الحدّ المسموح به، فذاك متْعِب لمَنْ حولك، ويُصعِّب الأمر على مَنْ يأتى بعْدك، ولكنه الطريق الوحيد لتحقيق الإصلاح، فطوبى لذوى اللزوميَّات من المصلحين.
اسحبها يا سعيد!
فى قريتنا المطلَّة على البحر المتوسط شمالاً، وعلى بحيرة البرلس جنوباً، عشتُ طفولتى فى السبعينيات من القرن العشرين.. فى هذه السنوات، كان «الحاج سعيد» هو مركز الكون، وصاحب السُلطة المطلقة فى رمضان؛ إذ كان له الحقُّ وحده، وبالوراثة عن أبيه وجدّه، فى إعلان موعد حلول الإفطار من خلال «عَلَم» قماش يرفعه على سارية أعلى بيته القابع فوق هضبة عالية؛ فيما يشبه القلعة فوق جبل المقطم.. وكان هذا العَلَم يسمى «المنديلة».. ولا يفطر الناس فى قريتى إلا بعد التحقق من سحب «المنديلة» مصحوبة بإنارة فانوس خشبى كبير به مصباح «كيروسين»؛ حيث لم تكن الكهرباء قد عرفت الطريق إلى قريتنا حتى بداية الثمانينيات.. كان «سحب المنديلة» بالنسبة لأهالى قريتى أشبه بانطلاق مدفع الإفطار بالنسبة لأهل القاهرة.
وبسبب طبيعة قريتى الساحلية، واشتغال معظم أهلها بصيد الأسماك والعمل فى البحر، لم يكن العمدة صاحب نفوذ أو أطيان.. وكذلك شيخ البلد.. وكثيراً ما وُصِف العمدة وشيخ البلد على أنَّهما أشباح: العمدة «الآلى» وشيخ البلد «المُمَيْكن» منزوعى القوة والخاليين من السلطات.. وفى المقابل، كان «الحاج سعيد» فى رمضان أهمَّ منهما ومن «مأمور المركز» شخصيّاً، إذ بيده كلُّ السُلْطات: التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، والسلطة الرابعة وهى تحديد موعد الإفطار..
كانت سمات «الحاج سعيد» تضفى عليه مهابة ووقاراً.. كان طويلاً عريضاً أنيقاً، وجهه تكاد حمرته تطغى على بياضه، ويكاد بياضه يطغى على حمرته، يتمازجان كأنه وجه جندى أسترالى أو والى تركى.. وكان خبيراً فى تكوين الهالة: كان لا يردُّ على سائل بنفسه؛ إذ لابدَّ من وسيط.. ولا يسير على قدميه أمام الناس؛ إذ لابدَّ له من «مركبة» أو «توصيلة» حتى ولو كانت «حمارة» ضعيفة تئن تحت ثقل جسمه المترهل.. ولا يسير منفرداً، إذ لابدَّ له من «رَكْب» يسبقه أو يمشى خلفه.. وكان أكولاً؛ ولا يأكل فى جماعة، إذ لابدَّ له من مائدة خاصة.. وكان خطيباً مفوَّهاً، ساعده على ذلك دراسته فى الأزهر سنوات طويلة، وهو ما كان بالنسبة لأهل قريتنا شيئاً فريداً.. وكان ميسور الحال، ساعده ذلك على عدم امتهان ما يفسد عليه هالته أو يقلل من «برستيجه» أمام أهل قريتى..
كانت المعلومات عن مواعيد الإفطار ومتى سيسحب «الحاج سعيد» «المنديلة» أسراراً عسكرية، لا أحدَ يعرفها.. نسمع أذان المغرب من المذياع، ولكننا لا نعرف على وجه الدقة «فروق التوقيت» التى كان يحتكر معرفتها.. بعض الخبثاء كانوا يتهامسون ويتغامزون بأن «الحاج سعيد» لا يقوم بسحب «المنديلة» إلا بعد تناوله هو شخصياً الإفطار؛ وكثيراً ما حدث ذلك، خاصة فى السنوات الأخيرة؛ بعد أن أوكل إلى ابنه الأكبر هذه المهمة، فأصبح الناس يتوقعون إفطاره هو وابنه أولاً، قبل أن يتم سحب المنديلة بعد ذلك!! محاولات عديدة جرت للخروج على هذه السطوة وعلى ذلك الطقس، غير أن الشعور بالذنب، والخوف من فساد الصيام، وغياب البديل الموثوق به، كان يُفشل هذه المحاولات.
كانت فرحة الصغار وصيحاتهم عند «سحب المنديلة» وهرولتهم لإخبار الأهالى المتحلقين حول «طَبْليَّة» الإفطار، أشبه بفرحة المصريين عندما يحرز «محمد صلاح» هدفاً فى «البريميرليج».. وبسبب التأخير المتكرر فى سحب «المنديلة»، فقد كانت الأغنية الأكثر تداولاً فيما يشبه «التريند اليومى» فى شهر رمضان استعطافاً له للتيسير على الناس هى: «اسحبها يا سعيد.. اسحبها قبل العيد»، يرددها الأطفال فيما يشبه الوِرْد اليومى، أو كأنَّها دعاء كشف الكرب أو صلاة الاستسقاء..
مرت ثلاثون عاماً تقريباً على مغادرتى قريتى، ورغم ذلك، لاتزال ذكريات رمضان الأولى فى مخيلتى اليومية، ولازلتُ أردد كلَّ يوم قبل الإفطار: «اسحبها يا سعيد».. ولايزال «الحاج سعيد» يتأخر فى الإجابة.. رحمه الله رحمة واسعة.
> رئيس قسم الإذاعة والتليفزيون- إعلام القاهرة