عندما كان لنا آباء حقيقيون!

مفيد فوزي
مفيد فوزي

بقلم/ مفيد فوزي

ان الاعلان هو السيد الذى على مقاسه- يصاغ البرنامج ومن هنا، صار «المحتوي» فى البرامج رديئا وفقيرا ولا يصنع وعيا.

أحمل فوق ظهرى نصف قرن من التجارب الحياتية، الشخصية والمهنية. ورغم أنى «محاور» صناعته الجدل والمناورة واستنباط المعلومة من القلوب المغلقة، فأنا «أصغى» اكثر مما اتكلم. لقد تربيت على «الكلام عند الحاجة للكلام». لم أعرف الثرثرة ولااللغو الفارغ. ربما لأنى عشت بين الكبار فى وقت مبكر. وعندما كنت أتكلم فى حضور أقارب أو اصدقاء، كان أبى يرمقنى بنظرة.. تخرسني! عشت طفولة قاسية وصباى كان محملا بالمتاعب. وفيما بعد، ادركت أن القسوة نمط من التربية هو الحزم بعينه. الحزم كان يتضمن العقاب البدنى أحيانا، وكانت أمى هى كف الحنان. كان أبى يعنى بالنسبة لى الأوامر والطقوس المعلبة. لم أضع قدما فوق قدم فى حضرة ابى.

ولا تصرفت بهذه الحرية أمام اساتذتى، فقد كان الاحترام يسبق سلوكى. لم أر أبى يبتسم كثيرا، فقد كانت الجدية عنوانه ولا أظن أنى رأيته يضحك الى حد القهقهة من قلبه! لكن النكد العائلى كان بعيدا عنا. كانت الحياة مستقرة ولم أعش المطبات ولا العوز المادى فقد عرفنا الستر فى الحياة، الستر الاجتماعى قبل الستر المادى. لم أر أبى «يشخط» فى أمى حتى وهى تنحاز لى فأنا الابن البكرى. وقد عرفت طقوس أبى، فهو جاد صامت مهموم أحيانا، وفى مطلع حياتى العملية كنت جادا صامتا ومهموما، هل يرث الابناء جينات الاباء؟

لكن ارتباط عمرى آمال العمدة اخرجنى من عزلتى فقد كانت آمال محبة للحياة وبشوشة. كانت الابنة المدلله بين ثلاثة اشقاء رجال. وحين جاءت حنان- ابنتى الوحيدة- كنت مندهشا وسعيدا وحنونا لم اعاملها بحزم أو قسوة بل اعطيتها فرصة تعبر عن نفسها ديمقراطيا فى وقت كانت آمال تعاملها بديكتاتورية وتهمس فى أذنى «تربية البنات عاوزة الشدة» وكنت أخالفها الرأى وأرى أن تربية البنات «عاوزة الحنان أكثر» مع مراقبة السلوك والتعرف على صداقاتها. أردت أن «أتحاشي» الحزم الشديد الذى تربيت عليه والتجهم الذى كان يلازمنى.
وحين تزوجت حنان من شاب عصامى من اسرة طيبة ونصف وزنه طموح، استرحت، لكنى لا انسى اللحظة التى يتم فيها أن «يتسلمها» فقد شعرت أن احدهم «نشل» قلبى! كانت حنان -كبنت- تحت عيوننا. وأعياد ميلادها فى بيتنا. وكان د. عاطف عبيد رئيس الوزراء الراحل يأتى ليأخذ ابنته! كنا-كآباء- نتجاذب اطراف الحديث وكنت صحفيا أبنى نفسى وارسم مستقبلى. وكنت أعامل حنان بحنان لايتطرق للدلع أو الاستهتار وربما أورثتها الجدية ولاأدرى، هل افادتها أم سحبت منها رقتها كأنثى؟


عندما كان !
كانت آمال تستقبل زوابع حنان بعاصفة، بيد أنى كنت أستوعب عدم الثبات الانفعالى بهدوء وتفاهم وابوة حقيقية.
نعم، كان جيلى وما قبل جيلى من الاباء الحقيقيين الذين يستحقون التوقير والاحترام. وأتذكر انه فى «هوجة 25 يناير» سقط توقير الاباء وأصبح الشباب «يمشى بدماغه» وصار الاباء الحقيقيون فى ورطة.

صار التليفزيون هو «الأب البديل» وانغمست الأم فى عالمها الجديد وصار أولادنا وبناتنا «يتامى»!! اصبح الابن ينادى والده باسمه! وصارت البنت تنادى أمها باسم دلع! هل كنت استطيع فى زمنى أن أنادى أى «يامريومة» دلع مريم؟!! ولا أستطيع رغم رحيل أبى ان اتصور -مجرد تصور- ان اناديه باسمه! وجاءت التكنولوجيا فقسمت البيت وأصبح لكل فرد حتى الشغالة عالمها الشخصى بالموبايل!

وزادت الهوة والفجوة بين افراد الاسرة الواحدة! وأصبح لأولادنا وبناتنا «عوالم شخصية» غير معروفين للأب أو الأم. «وأصبح الولد صاحب قرار والبنت سيدة قرارها»! تغيرت الدنيا وتباعدت المسافات وصرنا «جزرا معزولة»! وانزوى التليفزيون وكبرحجم مواقع التواصل الاجتماعى حتى صارت تحكم الحياة والسياسة والنمط الاجتماعى. وصار لها سطوة «صحافة بديلة»! صار الكبار يقرأون الصحف على الموبايل الا قليلا- ومنهم أنا- نطالع الصحيفة الورقية باستمتاع. المهم تغيرت الحياة وأنماط الناس من النفيس الى الخسيس، ومن الدارس الى الفهلوى. واهتزت اعمدة المجتمع بشىء طارئ بلا حسب أو نسب وكأنه فيروس أصاب العقول بالهذيان.

حدث هذا يوم لم يعد لنا آباء حقيقيون فى المهنة. «الانصاص قامت والقوالب نامت» وقال جمال حمدان «ويل لأمة تحمل الاقزام على أعناقها وتتعثر فى العمالقة»!

لم يعد لنا آباء حقيقيون إلا حفنة قليلة فى المهنة. لم يعد لنا بابا شارو وتماضر توفيق وآمال فهمى ومديحة نجيب وانتصار شلبى وايناس جوهر وعمر بطيشة وصلاح زكى ومحمد رجائى وهمت مصطفى وفاروق شوشة وهالة الحديدى. لم يعد لنا سعد لبيب وطاهر ابوزيد وعباس احمد. وحتى القامات التى على قيد الحياة تبعثرت جهودها وتشتت ولهذا تخرج الدراما مشوهة ولا تعبر عن المجتمع المصرى وفى بعض المسلسلات  أو الافلام اكاد اشعر انى داخل حى منهاتن الامريكى!
لم يعد هناك اباء حقيقيون للمهنة ولهذا تطل السادية والتحقير والرغبة فى الانتقام والتعذيب والمهانة وقلة القيمة والرخص والتدنى فى برامج المقالب تحت سمع وبصر الهيئات الاعلامية الرصينة والموقف تحفظ شديد وصمت له دوى، والمهزلة قائمة يوما بعد يوم والناس تتفرج بلذة على «مرمطة» الآخر وكأنها خطة لتفتيت وتفكيك المجتمع المصرى لم يعد لنا اباء حقيقيون فى المهنة يأمرون بوقف المهزلة المحزنة ذات التأثير النفسى البغيض على الاطفال وكأن أطفالنا، أطفال شوارع لاتوجد هيئة أو أى مسمى يحميهم من التأثر البالغ وهم يرون تعذيبا بالكهرباء وتطويحا غادرا ومرجحة قامات ضعفت امام الدولارات واغراء يتم عن «مصيدة» بان القناة تجرى مع مذيعة يمنية «اروى» حوارات عقلية ثقافية لكنها فى الحقيقة حوارات سادية تعذيبية مكوكية تثير الضيق والغيظ والرثاء والازدراء.


عندما كان !
يتم هذا فى غياب الآباء الحقيقيين فى الشاشة. ولو اعتبرنا ان اساتذة التربية وعلم النفس يتحملون شيئا من المسئولية فما احلى السكوت! لا أدرى كيف يسكتون وهم يرون على الشاشات انماطا من السلوك الرديء!. لا أدرى أين المسئولية الاجتماعية التى فوق اكتافهم؟ لا أدرى ماذا يقدمون لهذا المجتمع؟!

لقد كنت أحلم بحضور كبير لهم فى زمن الكورونا خصوصا آثار التباعد البدنى وآثار البقاء فى البيت. تصورت أن دورهم يتعاظم، ولكن للأسف ليس لهم صوت ولا صورة! وفى غيبة آباء الشاشة الحقيقيين ساحت الأمور وناحت أصبح التعذيب بالكهرباء شيئا عاديا يراه المجتمع ويتفرج عليه ونضحك حين يصرخ ضيف! هناك خلل وعوار فى الذوق وللدقة فى المزاج المصرى. ماعاد العيب عيبا فى هذا الزمن.

صار الفنان يتمرجح بشكل شائن ويستغيث ولا احد ينقذه الا «المعتوه الرسمى». لقد كان مقررا أن أعيش التجربة «!!!» وقد وقعت فى «المصيدة» التى تحمل اسم أروى اليمنية. ان كلمة السر فى «مذبحة» الجنون الرسمى هى «أروى اليمنية» ولا أدرى كيف وافقت المذيعة أن تكون «مصيدة» للضيوف. لقد سبق أن ذهبت للكويت بدعوة من برنامج «غبقة» الذى تقدمه الكاتبة الكويتية الكبيرة فجر السعيد. ودخلت الاستديو ودار الحوار السلس وحصلت على الاجر المتفق عليه بعد نهاية البرنامج. ناقشتنى فجر السعيد وشاغبتنى وجاءت حصيلة حوار «فجر» معلومات ورؤى وافاقا كان برنامج الكويت عنوانا للرقى، فالمقدمة كاتبة وليست ممثلا فاشلا درجة عشرة، مقدمة الكويت مثقفة وفارئة ولديها وعى واحاطة وليس ممثل «ميح» وهو وصف من لا يحمل أى وعى أو احاطة او ثبات انفعالى. فى برنامج الكويت تطرقنا للفن وكيف يقوم بدوره وسألتنى فجر السعيد عن انطباعاتى من نجوم زمان ونقط الابهار فيهم ومساحات التوهج، وقلت ما اعتقد. نعم احترمنى برنامج  الكويت وعاملنى كمصرى له كرامته. اما برنامج «المعتوه» فهو يعامل ضيوفه باستهتار وعدم لياقة والدليل انه  منذ تسلمه «اروى اليمنية»الذبيحة، يتصرف بالكيفية التى يراها. بالمناسبة يضحكنى نكتة ان «المجنون الرسمى» لم يحصل على «اجازة» العمل من نقابة الاعلاميين بوصفه مذيع البرنامج ؟!! يانقابة الاعلاميين، هل هذه مشكلة المجنون الرسمى انه لم يحصل على «تفويض» بالعمل أم أن القضية اكبر من تصريح النقابة؟ المشكلة فى جنون وعدم استواء الشخصية والتلذذ بضربه وشتيمته والبصق فى وجهه احيانا؟! كل هذه الاهانات يراها اطفال مصر وكأنهم اطفال مدغشقر. انها استهانة بالقيم بل الغاء تام لقيم وثوابت الشهر الكريم..
عجبى!

عندما كان!
فى جيلى كانت هناك اعتبارات ومعايير وقواعد. كانت الحلقة الأولى من أى برنامج تسجل لتراه «لجنة المشاهدة» وكل برنامج أعددته أو قدمته فيما بعد رأته لجنة المشاهدة وكان لها ملاحظات يؤخذ بها. إن لجان المشاهدة هى لجان «تقطير» البرامج من كل النواحى لأنه «مادة تدخل البيت المصرى». مادة تتفاعل مع أفراد البيت المصرى، وأطفاله. كان هناك الاعتبارات الاجتماعية تراعى بشدة، الان- وفى غياب لجان مشاهدة، وفى غيبة المعايير، وفى غياب الآباء الحقيقيين للشاشة يصبح «الاعلام» هو الحكم وهو القاضى والذى يملك الاذن بالعرض. لهذا كثرت التوافه والترهات وشغل المجانين الرسميين وغابت البرامج الثقافية وبرامج الوعى.
اذ صار الاعلام محكوما بالاعلان. اتذكر عندما قدمت على شاشة دريم برنامج مفاتيح ان أعددت لموسم جديد حلقات فيها اسماء «ابوزهرة وماجد الكدوانى ورانيا فريد شوقى ورانيا يوسف» ان قالت الاعلانات- وليس قيادة دريم- «لا نوافق!!» ولو اقترحت برنامجا بعنوان «ثلث ساعة مع فيفى» لوافقوا فورا حيث تتكلم فيفى عبده عن تجارب حياتية كل ليلة رمضانية! هكذا وصلنا الى هذه الحالة. ولا انتقد السيدة فيفى عبده ولكنى أوجه نقدا للمزاج المصرى الذى صار عليلا! وعندما غضبت قيل لى «إن أهمية وائل الابراشى فى دريم انه «جالب لأكبر نسبة من الاعلانات» ومعنى ذلك -مع الاحترام- لشخص وائل الابراشى ان الاعلان هو السيد الذى على مقاسه- يصاغ البرنامج ومن هنا، صار «المحتوي» فى البرامج رديئا وفقيرا ولا يصنع وعيا. لهذا السبب كانت محاولة المهندس اسامة الشيخ عندما امسك بزمام الامور فى الاعلام كان من اهم قراراته تعيين مهنى يفهم فنون الاعلام ضابطا لمستوى المحتوى ولكن سرعان ما ظهر «وحش» الاعلان وتربص بالنغمة الجديدة الصحيحة التى تبنى الشخصية المصرية وأجهضتها!

ان برنامج «المجنون الرسمى» يحظى باعلانات عديدة لأن المزاج المصرى صار ساديا يتلذذ برؤية تعذيب الاخر وتحقيره ورؤيته يصرخ ويعبر عن ضعفه وانصياعه لأوامر المجنون!
من الطريف ان محامى المجنون الرسمى قال ان المحطة التى تذيع هذا الانتاج غير خاضعة لاشراف هيئات الاعلام فى مصر!!!!
وكأن منتج المجنون الرسمى يذاع على شعب جزر القمر وليس الشعب المصرى ولامانع من تفتيت وتفكيك الشخصية المصرية بهذا «المحتوى المبتذل».