من باب العتب

السلفى واستعجال العقاب

د. محمود عطية
د. محمود عطية

"فيروس كورونا -قولا واحدا- هو غضب من الله أنزله على البشر".. هذا ما يؤكده التفكير السلفى اليقينى ولا يقبل نقاشا فيما أفتى فيه.. وهى نفس طريقة مناهجنا التعليمية.. يتم حفظها واستظهارها رغم كل ما يشاع عن محاولات تطوير التعليم.. فمن حفظ صم حصل على أعلى الدرجات وارتقى.. لم نتعظ من قسوة التفكير السلفى اليقينى وما فعله من استباحة دماء البشر وعقولهم على مر التاريخ!.
ففى العصور الوسطى احتلت الكنيسة عقول البشر بالتفكير السلفى.. فمثلا أيقنت أن الإنسان مُذنب وفاسد ولا يمكن إصلاحه، ويمكن استغلاله وتمكنت من ذلك بصكوك الغفران وبتعطيل ملكة تفكيره وتعمدت إذلال إنسانيته بالخرافات والخزعبلات والمخاوف المفبركة من عذابات القبر وتركته يسبح فى اللاعقلانية.. وباتت حياة العصور الوسطى كما وصفها الفيلسوف الإنكليزى هوبز- مُقرفة، ووحشية وقصيرة..!
وأصدق دليل هى قصة الفيلسوف الراهب جوردانو برونو الذى فكر تفكيرا واعيا وتوصل إلى أن الأرض ليست مركز الكون على عكس ما تؤمن به الكنيسة وأيّد نظرية كوبرنيكوس وجاليليو فى علم الفلك.. ولذلك حكمت عليه الكنيسة بالحرق حيا لمخالفته ما تعتقد.. فتم تجريده من ثيابه وربط لسانه، وشد إلى خازوق من الحديد فوق ركام من الحطب فى ميدان "بيازا كامبو دى فيورى" وأحرق وسط جمع غفير حتى لا يفكر أحد بالمخالفة للكنيسة.. والحقيقة أن كنيسة العصور الوسطى كانت تخشى من نور العلم لأنه يتسبب فى ضياع مكاسبها من تخلف البشر.. ومع أسف مازالت بعض المجتمعات تعاقب من يفكر وكأنها لم تغادر العصور الوسطى ولم تتعلم من دروسها وتتغافل فى بلاهة أن تطور المجتمعات جاء بالتفكير والعلم.
لكن أليس كلنا نفكر..؟! ونقضى يومنا فى التفكير ولا نقوم بأى فعل إلا ويسبقه تفكير.. فلماذا إذن ننعت البعض بعدم التفكير بل ونفخر ببعض المجتمعات التى تعلم التفكير ونأسف للذين لا يعمدون إلى تعلم طرائق التفكير؟! صحيح كلنا نفكر وفى كل لحظة من حياتنا نفكر.. حين نسير نفكر وحين نتكلم نفكر وحين نرد على الفون نفكر حتى ونحن نعبر الطريق نفكر.. لكن هذا النوع من التفكير يطلق عليه تفكير رد الفعل أى تكرارى نمطى نشترك فيه جميعا وهو سمه إنسانية.. لكن ما نقصده بالتفكير الذى لابد أن نتعلمه كان سببا فى تقدم الإنسانية هو التفكير الواعى العمدى القصدى الباحث وراء العلة الحقيقية للأشياء وليس الأوتوماتيكى رد الفعل.
ومثال للتفكير الواعى القصدى العمدى هو ما يحدث حاليا فى معامل أبحاث العالم من محاولة الوصول لمصل لفيروس كورونا إنقاذا لحياة البشر.. وحتما سيتوصل هذا التفكير الواعى للحد من فيروس كورونا ويطور الطب وينجى البشر من عذاباته ويخطو بنا خطوة للأمام... ومع ذلك ومع نور العلم مازال هناك من يتمسك بالتفكير السلفى الجاهز بالإجابات المعطى للعقل إجازة مفتوحة.. لكن من محاسن فيروس كورونا أنه دفع وسائل الإعلام إلى تغيير جلدها واستبعدت من أجندتها أصحاب الأفكار السلفية واستقدمت أصحاب التفكير الواعى السببى من العلماء التجريبيين لشرح الأساليب العلمية لمواجهة الوباء ومحاولات الوصول لمصل واق للفيروس.. التفكير السلفى مثل السير فى نفس المكان بأقصى سرعة وتظن أنك برحت مكانك.. تفكير لا يقبل النقاش ويستعجل العقاب!